كان الرئيس الصيني شي جين بينغ أقل تحفظا أمام زعماء نحو 50 دولة أفريقية خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين، حين قال في خطابه: “إن عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا تسببت في معاناة كبيرة لشعوب المنطقة”. يأتي ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف الأميركية والغربية أيضا من هذا “الغزو الصيني الناعم” للقارة الأفريقية التي كانت معقلا تقليديا لنفوذه.

التغيير ــ وكالات

يضيف الرئيس الصيني، في المنتدى، الذي اختتم يوم السادس من سبتمبر 2024، متطرقا إلى أحد أبرز أسباب التقارب الصيني الأفريقي: “بدءا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الأفريقية معا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معا”.

جاء خطاب شي جين بينغ مختلفا، فقد دأبت الصين غالبا إلى التأكيد أن شراكاتها لا تستهدف “أي طرف ثالث”، في إشارة إلى الغرب نفسه -المستعمر أو الحليف التقليدي السابق لمعظم البلدان الأفريقية- لكن اطمئنان شي إلى رسوخ علاقات الصين الأفريقية وإلى تنامي قوة بلاده، وخصوصا تغير نظرة أفريقيا للغرب جعلته يصرح بما كان سابقا يخفيه بمنطق الصبر الإستراتيجي وطول النفس الصيني المعهود.

طموح الصين وهواجس أفريقيا

حتى سنوات قليلة ماضية، كانت الصين في قائمة بلدان العالم الثالث -وفق المعايير والتصنيفات الجيوسياسية القديمة- جنبا إلى جنب مع الدول الأفريقية نفسها ومعظم الدول الآسيوية، لكنها صعدت إلى مركز الريادة العالمية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، بما يشبه المعجزة، لتطرح نفسها “بديلا موثوقا” لأفريقيا.

عمليا بات بإمكان الصين أن تقدم كل شيء لأفريقيا، من لعب الأطفال إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة والقروض والتكنولوجيا فائقة الدقة، وهذا ما يؤرق الغرب الذي كان يحتكر كل ذلك.

يشير محللون إلى أن أفريقيا تغيرت أيضا بما يخدم مصلحة الصين كقوة كبرى ومعززة بكل عوامل التفوق تلك. ففي السنوات الأخيرة ازدادت هواجس الدول الأفريقية وإحباطها من “عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا” -وفق تعبير الرئيس الصيني- فلا الديمقراطية تحققت، ولا التنمية الحقيقية على النمط الغربي حصلت. وبقيت البلدان الأفريقية في معظمها تراوح مكانها في مربعات الفقر والجهل والمرض والفساد والانقلابات العسكرية والديون التي تجاوزت تريليون دولار عام 2023 حسب تقرير البنك الأفريقي للتنمية.

بدا أن تحويل الكثير من الدول الأفريقية البوصلة نحو الصين -بدرجة أقل روسيا وتركيا- يمثل بشكل ما استيعابا لدرس عقود من “الإهمال الغربي لأفريقيا”، ونتيجة لذلك “الإحباط في العالم النامي وتطلعاته” وفق توصيف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

قبل 4 سنوات، جاءت أزمة لقاحات كورونا، التي أهملت فيها أفريقيا بشكل جعلها الأكثر تضررا، كجزء من هذا الدرس، ثم أتت مفارقة منح الدول الغربية نحو 500 مليار دولار من المساعدات المختلفة لأوكرانيا في ظرف سنتين، بما يفوق ما منح لأفريقيا خلال عقود، منها نحو 50 مليار دولار كقروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، تأكيدا لهذا الدرس.
بشكل عام، يمكن فهم متلازمة الانقلابات التي شهدتها بعض دول الساحل والصحراء وإنهاء النفوذ الفرنسي والأميركي فيها (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وبدرجة أقل تشاد) وكذلك أفريقيا الوسطى وغيرها، والاتجاه نحو روسيا والصين في سياق إحباطات أفريقية، ومراجعات وجرد لمكاسب الارتباط لعقود بالغرب، جاءت نتائجه سلبية لتعزز فك الارتباط والبحث عن خيارات أخرى.

يشير محللون إلى أن الغرب لا يتحمل وزر كل أزمات القارة الأفريقية المعقدة، لكنه بالمحصلة جزء مهم رئيسي منها، ويعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة معظم الدول الأفريقية لعلاقاتها السياسية والاقتصادية تبعات إرث استعماري وعقودا من الفشل الاقتصادي والتنموي وفق المقاربات الغربية، وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد -وهو مقرب من الغرب- تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال”.

من جهته، قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا أيضا على المنبر نفسه: “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من “الوصاية”.

وفي سياق تلك التحولات، تنقل صحيفة نيويورك تايمز عن إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع “مشروع الجنوب العالمي للصين” (China Global South Project) قوله: “إن الصين تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تنفصلان بشكل متزايد عن أفريقيا”. ويبدو أن هذا الانفصال يتم بزخم سريع مقابل تمدد الأواصر الأفريقية مع الصين.

بناء الجسور وملء الفراغات

منذ سنة 2000، حين أنشئ منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) بدأ التوجه الصيني نحو أفريقيا بمنطلقات جديدة، وباتت بعد نحو عقدين أكبر شريك تجاري للقارة، والمستثمر الأكبر فيها، وهي أكبر دائن لها أيضا، وما زال هذا المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات يمثل حجر الرحى في العلاقات الأفريقية الصينية، وانبثقت عنه عمليا 36 وكالة تنفيذية.

ويعد المنتدى أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين، لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها أفريقيا، ومنها “مبادرة الحزام والطريق” (عام 2013) التي تضم 52 دولة أفريقية، و”مبادرة التنمية العالمية” (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى “مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي” التي يندرج ضمنها “منتدى السلام والأمن الصيني الأفريقي”.

ودأبت الصين في سياق التحولات العالمية والصراعات الجيو إستراتيجية للترويج لنفسها باعتبارها نموذجا ومرجعية “أكثر فائدة لأفريقيا من الغرب”، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها “الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثل في ضرورة التحول السريع، وفق شي جين بينغ، الذي بات يعتبر بلاده “المدافعة عن العالم النامي”.

ومقابل “إهمال” الغرب لأفريقيا، تتسم سياسة الصين في القارة بطابع مؤسسي شديد التنظيم، لا تركز على الاقتصاد فقط، بل أيضا على الجوانب السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلامية والأمنية والعسكرية ويتم تحت إشراف مباشر من كبار مسؤوليها وقادتها.

فبين عامي 2008 و2018، زار كبار المسؤولين الصينيين أفريقيا 79 مرة، وقام الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ بين عامي 2014 و2020 بـ10 زيارات إلى أفريقيا مقابل 48 زيارة لوزير الخارجية وانغ يي.

وعلى الصعيد السياسي يعمل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (التابع للحزب الشيوعي الصيني) مع 59 منظمة سياسية في 39 دولة أفريقية، ويرتبط بعلاقات مع 35 برلمانا أفريقيا.

كما تدير إدارة الاتصال الدولي للحزب الشيوعي الصيني -وهي جهاز تابع للجنة المركزية ووكيل تنفيذي لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي- بعلاقات مع 110 أحزاب سياسية في 51 دولة أفريقية، وتشرف إدارة الجبهة المتحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أكثر من 30 “جمعية واجهة” في 20 دولة أفريقية، وفق بيانات مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.

ومنذ عام 2018، تستضيف الصين سنويا مسؤولين حكوميين أفارقة وملحقين عسكريين وأمنيين من 50 دولة أفريقية لمدة أسبوعين، لحضور ندوات وزيارة مواقع جيش التحرير الشعبي والبحرية، تتولى تدريب قوات أمنية وعسكرية. وتتولى أيضا تدريب آلاف الطلاب والمهنيين الأفارقة، بنسبة أكثر من أي دولة صناعية أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.

وحسب بيانات وزارة التعليم الصينية، يبلغ عدد الطلاب الأفارقة المسجلين في المؤسسات الصينية أكثر من 81 ألف طالب عام 2018، مقارنة بأقل من 2000 في عام 2003، وهو ما يمثل 16.5% من إجمالي الطلاب الأجانب في البلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن 16% من جميع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة تتم عبر الحكومة الصينية.

وتخطط الصين أيضا لتدريب 500 مدير ومعلم من ذوي الكفاءة العالية في الكليات المهنية كل عام، و10 آلاف موظف فني لتدريبهم على اللغة الصينية والمهارات المهنية.

وحسب آخر الإحصاءات (عام 2019) قدمت الصين نحو 50 ألف منحة جامعية للطلاب الأفارقة سنويا، و50 ألف حصة تدريبية لموظفي الخدمة المدنية، وكبار المسؤولين التنفيذيين والقادة الطموحين، و2000 حصة تدريبية للشباب بينها حوالي 10% مخصص لقطاع الأمن في أفريقيا. وتنتشر أيضا معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في 46 دولة أفريقية، إضافة إلى مدارس الحزب الشيوعي الصيني في بعض البلدان.

وتمثل هذه الأنشطة المتنوعة، التي “تستثمر في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري إضافة إلى مشاريع البنية الأساسية العملاقة” -حسب تقرير لفورين أفيرز- توسعا هائلا لنفوذ الصين في مختلف أنحاء القارة، يستند إلى تصور واضح للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وتشير الصحيفة إلى أن جهود بكين تؤتي ثمارها مبدئيا، حيث يقيّم 63% من الأفارقة نفوذ الصين في القارة بشكل “إيجابي”.

وتحصد الصين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية، في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الأفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة أفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان كدولة أو إلغاء الاعتراف بها كدولة، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.

الوسومأطماع أفريقيا الصين المنتدي الصيني الأفريقي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أطماع أفريقيا الصين

إقرأ أيضاً:

توسيع ممر لوبيتو: استعمار أفريقيا بعباءة جديدة

أعلنت الحكومة الأميركية، في أواخر شهر أغسطس/آب، عن استعدادها لتوسيع مشروع السكة الحديد بممر لوبيتو الممتد من أنغولا إلى زامبيا عابرًا الكونغو الديمقراطية، وذلك لكي يصل الممر إلى المحيط الهندي عبر تنزانيا.
وقد جاء الإعلان على خلفية تطورات كثيرة مرتبطة بسعي الصناعات الأميركية إلى المعادن الإستراتيجية والحيوية في أفريقيا، مثل: الكوبالت، والليثيوم، والنحاس، والألمنيوم، والمنغنيز، والتي تعدّ ضرورية للصناعات التي تعتمد على التكنولوجيا المكثفة.

كما أثارت التحركات الأميركية الأخيرة في كل من زامبيا والكونغو الديمقراطية تساؤلات أخلاقية متعددة، إلى جانب الاستقطاب الغربي للكونغو الديمقراطية وتصاعد الانتقاد ضد الرئيس الرواندي بول كاغامي في ظلّ تنامي نفوذ كيغالي الإقليمي.

التدافع الغربي على الموارد الأفريقية

تكمن أهمية ممر لوبيتو في التدافع الأميركي والأوروبي والصيني في إنتاج سلسلة بطاريات السيارات الكهربائية وغيرها من مشاريع الطاقة. وفي سياق الإعلان الأميركي، يرتبط الممر بإمكانات دول المعادن الحيوية والمواد الكيميائية المشاركة فيه، ومواقع الدول المشاطئة للبحر أو دول الموانئ. وهذه النقاط مفصلة في التالي:

المنافسات الأخيرة:

ممر لوبيتو هو خط سكة حديد متصوّر على مسافة 1300 كيلومتر، ويمتدّ من ميناء لوبيتو، الواقع في مقاطعة بنغيلا على ساحل المحيط الأطلسي الأنغولي، إلى مدينة لوآو على الحدود الشمالية الشرقية لأنغولا مع الكونغو الديمقراطية، وعلى مقربة من شمال غرب زامبيا. ويمتد خط السكة الحديد داخل الممر أيضًا مسافة 400 كيلومتر أخرى إلى مدينة كولويزي التعدينية داخل الكونغو الديمقراطية.

وقد شهد ممر لوبيتو اهتمامات إقليمية ودولية على مرّ السنوات الماضية، ما أدّى إلى حدوث العديد من التطورات بشأنه، ومنها إعلان "فيكتوريس"، شركة تشغيل السكك الحديد البلجيكية، في يناير/كانون الثاني الماضي (2024) عن أن شركة "سكة حديد لوبيتو الأطلسية" قد استحوذت على عمليات خط سكة حديد بنغيلا، وهو خط السكة الحديد الأساسي الحالي في ممر لوبيتو.

أما شركة "سكة حديد لوبيتو الأطلسية" التي تشغل ممر لوبيتو، فقد وقعت في عام 2022 عقد امتياز لمدة 30 عامًا لتشغيل خط السكك الحديد على طول ممر لوبيتو. وهذه الشركة مملوكة لجهات من القطاع الخاص، وتضم اتحاد شركات، مثل "ترافيجورا" التي يوجد مقرها في سنغافورة، وتعمل في مجال المعادن الأساسية والطاقة، وشركاء أوروبيين، مثل الشركة البرتغالية "موتا- إنجيل" و"فيكتوريس".

ومن التطورات الجديدة بشأن ممر لوبيتو ما أعلنته الولايات المتحدة من مشروع التوسعة، والذي يُتوقَّع اكتماله بحلول عام 2029. وبحسب تقارير، سيركز على تمديد الممر إلى تنزانيا للوصول إلى المحيط الهندي من جانب، وإعادة بناء خط سكة حديد بنغيلا الذي استُخدِم إبان الحقبة الاستعمارية لتصدير المواد والمعادن من جانب آخر.

ومشروع التوسعة هذا سيكون بتعاون الحكومة الأميركية مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الأفريقية وحكومات أنغولا والكونغو الديمقراطية وزامبيا، وبتمويل قدره 250 مليون دولار أميركي، من مؤسسة التمويل الإنمائي الدولية الأميركية.

الكونغو الديمقراطية وزامبيا.. دول المعادن:

تلعب دولتا الكونغو الديمقراطية وزامبيا في سياق ممر لوبيتو دور المناطق الرئيسية أو المراكز الأساسية التي توفّر المعادن الحيوية المطلوبة لدى القوى الدولية المتنافسة، حيث وجدت الدولتان – من بين دول أفريقية أخرى – نفسيهما منذ عام 2021 في شبكة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة اللتين تحاولان السيطرة على سوق المعادن الأفريقية؛ لتأمين المعادن الإستراتيجية التي تحتاجان إليها لتشغيل أنظمة الأسلحة المتطورة، وتكنولوجيا الطاقة المستدامة.

وفي حالة الكونغو الديمقراطية، فهي تحتل موقعًا إستراتيجيًا بوسط القارة الأفريقية، وتشترك في الحدود مع تسع دول، بما في ذلك زامبيا من الجنوب والجنوب الشرقي، وأنغولا من الجنوب الغربي، ومقاطعة كابيندا الأنغولية من الغرب والمحيط الأطلسي الجنوبي.

وهذه الميزة الجغرافية تمنحها أيضًا موارد هائلة تشمل النفط والغاز والذهب والألماس، إضافة إلى المعادن الحيوية المهمة في إستراتيجيات التحول العالمي في مجال الطاقة، مثل: الكوبالت والنحاس وخام الليثيوم. وتضع بعض التقديرات الكونغو الديمقراطية كأكبر احتياطيات من خام الليثيوم في العالم، لوجود 6.64 ملايين طن من الليثيوم المخزن في منجم مانونو.

كما تعتبر البلاد أكبر منتج للكوبالت في العالم بحوالي 70% من الإنتاج العالمي، وتوجد في جنوب البلاد منطقة "حزام الكوبالت" التي تقدّر إمداداتها من الكوبالت بنحو 3.4 ملايين طن؛ أي قرابة نصف الإمدادات العالمية المعروفة.
وفي حالة زامبيا، فهي تقع على مفترق طرق لثلاثة أقاليم أفريقية، هي: وسط أفريقيا وأفريقيا الجنوبية وشرق أفريقيا. وتشترك في الحدود مع دول إستراتيجية من حيث المعادن والبحار، بما في ذلك حدودها مع الكونغو الديمقراطية من الشمال، وتنزانيا من الشمال الشرقي، وأنغولا من الغرب.

وتقع دولة زامبيا أيضًا ضمن "حزام الكوبالت"، كما تشمل مواردها النحاس والنيكل والذهب، ومجموعة واسعة من المعادن الصناعية الأخرى المرتبطة بالطاقة، بما في ذلك اليورانيوم والفحم والهيدروكربونات. ويشكّل النحاس والكوبالت العمود الفقري لاقتصاد البلاد، حيث يشكلان أكثر من 70% من عائدات التصدير. وتعدّ زامبيا واحدة من أكبر منتجي النحاس في العالم، وثاني أكبر منتج في أفريقيا بعد الكونغو الديمقراطية.

وفي سياق ممر لوبيتو؛ فإن مناطق التعدين بالكونغو الديمقراطية وزامبيا قبل عام 2021 كانت تسيطر عليها شركات صينية وأوروبية، مما يعني أن إدارة الرئيس جو بايدن بحاجة إلى إستراتيجية جدية لخوض المنافسة، متمثلة في مواجهة الصين بطريقة غير مباشرة، والتعاون مع الاتحاد الأوروبي والشركات الأوروبية. وقد دعم المصلحة الأميركية حقيقة أن فيليكس تشيسكيدي، رئيس الكونغو الديمقراطية، في تلك الفترة كان يضغط على الصين لتحسين شروط التعدين.

وجدير بالذكر أن زامبيا والكونغو الديمقراطية قد وقعتا سلسلة اتفاقيات بينية ودولية مرتبطة بمعادنهما منذ عام 2022؛ مثل: اتفاقية التعاون الموقعة بينهما في أبريل/نيسان 2022 لتسهيل تطوير سلسلة القيمة في قطاع البطاريات الكهربائية والطاقة النظيفة؛ ومذكرة التفاهم التي وقّعتاها مع الولايات المتحدة الأميركية إبان القمة الأميركية الأفريقية في ديسمبر/كانون الأول 2022؛ لتطوير سلسلة توريد لبطاريات السيارات الكهربائية ضمن القطاعين؛ الخاص والاستثماري الأميركيين. كما تعهدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على هامش قمة مجموعة العشرين في سبتمبر/أيلول 2023 بتطوير ممرّ لوبيتو.

هذا، إلى جانب مبادرات أميركية أخرى، مثل: ضغط واشنطن على الحكومة الصينية لتخفيف الديون عن زامبيا؛ واتفاقية القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) مع زامبيا في عام 2022؛ والتعاون العسكري الأميركي الكونغولي لبناء القدرات في عامي 2021 و2023؛ و"المساعدات" الإنسانية التي تبلغ قيمتها الإجمالية المقدمة للكونغو الديمقراطية أكثر من 838 مليون دولار في السنة المالية 2024، و32.3 مليون دولار لزامبيا لمواصلة "تسريع" التنمية في مختلف القطاعات بحسب إعلان الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في يونيو/حزيران 2024.

أنغولا وتنزانيا.. الموانئ:

تشمل بعض مناجم الجرافيت في تنزانيا مشروع "ليندي جامبو"، ومشروع "ماهينغي"، ومنجم "بونيو"، ومنجم "إيبانكو"، ومشروع "ناتشو"، وغيرها.
وهناك دور مرتبط بما يمكن للدولتين – أنغولا وتنزانيا – تقديمه لجيرانهما من الدول غير الساحلية (مثل زامبيا) أو شبه الحبيسة (مثل الكونغو الديمقراطية) من خلال توفير موانئ لتصدير الموارد ونقلها إلى خارج القارة الأفريقية. وهذا الدور هو الأهم بالنسبة للدول الغربية، بما في ذلك واشنطن، التي تطمح لموارد الكونغو الديمقراطية وزامبيا؛ إذ تقع أنغولا في جنوب غرب أفريقيا على ساحل المحيط الأطلسي، مما يجعلها واحدة من الممرات البحرية المهمة إستراتيجيًّا لإقليمَي وسط أفريقيا وأفريقيا الجنوبية، وتحدها الكونغو الديمقراطية من الشمال وزامبيا من الشرق.

ويؤكد على ما سبق سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى إضافة تنزانيا إلى ممر لوبيتو؛ بهدف توسيع خطوط نقل الموارد الإستراتيجية نحو شرق أفريقيا، مما سيخفف من الاعتماد التقليدي على منطقة أفريقيا الجنوبية المتمثلة في ميناء لوبيتو الأنغولي، وسيسهّل الوصول إلى المحيط الهندي عبر تنزانيا التي تمتلك موانئ عميقة مثل ميناء دار السلام، إلى جانب عضوياتها في منظمات تجارية متعددة، بما في ذلك منطقة التجارة الحرة لجنوب أفريقيا (SADC)، والسوق المشتركة لشرق أفريقيا (COMESA).

الاستعمار بعباءة جديدة؟

لقد أثار الكثيرون، خاصة داخل أفريقيا، تساؤلات حاسمة في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بمساعي الولايات المتحدة والدول الأوروبية لربط المناجم الغنية في شمال زامبيا وجنوب الكونغو الديمقراطية بموانئ تنزانيا على المحيط الهندي وأنغولا على المحيط الأطلسي.

وتتركز معظم التساؤلات حول الفرق بين الجهود الغربية الأخيرة ونموذج الأعمال الاستعماريّ التقليدي، حيث تقوم الدول الأفريقية بتوفير الموادّ الخام للقوى الغربية التي تقوم بإعادة تصديرها في شكل منتجات نهائية بأسعار باهظة.

ورغم مزاعم مسؤولي واشنطن بأنهم سيدعمون زامبيا والكونغو الديمقراطية لاستخدام مواردهما المعدنية لتطوير سلسلة القيمة في قطاع البطاريات الكهربائية، فقد شكك بعض الاقتصاديين الأفارقة في هذه المزاعم؛ لأنها ستكون تحت الهيمنة الأميركية.

بينما تساءل آخرون عن المستفيد الأكبر من استخدام ممر لوبيتو لربط حزام الكوبالت في الكونغو الديمقراطية بحزام النحاس في زامبيا؟ وما الخطة الأفريقية لضمان تحقيق الاستفادة القصوى من نقل المعادن، وخاصة الكوبالت والنحاس، إلى الموانئ (لوبيتو في أنغولا حاليًا وتنزانيا لاحقًا)، ومن ثم إلى الأسواق الدولية؟ وما الذي جنته الدول الأفريقية من أدوارها المهمة في دعم الصناعات الغربية؟ في المقابل، يتم تجاهلها عند الأزمات العالمية، كما حدث عند احتكار لقاحات فيروس كورونا، وتأخّر وصول لقاحات فيروس جدري القرود؟!

جدير بالذكر أنّ واشنطن وبعض مسؤولي الدول المعنية بممر لوبيتو يكررون في تصريحاتهم أن توسيع الممر إلى المحيط الهندي، سيحسن فرص التصدير للدول المنتجة للمعادن الحيوية، مثل: زامبيا، وأنغولا، والكونغو الديمقراطية. وهذا يتماشى مع أجندة الاتحاد الأفريقي التي ترى أن تسهيل التجارة وربط شبكات النقل بين الدول الأفريقية قادر على تحفيز نمو القطاع الخاص والأعمال الزراعية.

ومع ذلك، تكشف التطورات الأخيرة المتعلقة بالصادرات التي تمت عبر ممر لوبيتو، أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأجنبية ستكون المستفيد الأكبر من تطوير الممر وتوسيعه.

على سبيل المثال: بينما تعتمد الدول الأفريقية المنتجة للمعادن في ممر لوبيتو على "المساعدات" وتطلب تخفيف أعباء الديون، ويتحمل سكان مناطق التعدين التكاليف البيئية الباهظة، ويعمل آلاف العمال في ظروف غير إنسانية؛ فقد نُقِلت في أغسطس/آب (2024) شحنات من النحاس المستخرج من منطقة "حزام النحاس" الكونغولية عبر خط سكة حديد بنغيلا، الذي أعادت شركة صينية تأهيله جزئيًا، إلى ميناء لوبيتو الأنغولي ومن ثم إلى بالتيمور على الساحل الشرقي للولايات المتحدة.

دلالات في سياق الأزمة الكونغولية الرواندية

تزامنت زيارات العديد من المسؤولين الأميركيين إلى الكونغو الديمقراطية في السنوات القليلة الماضية مع جهود أميركية أخرى لتعزيز نفوذها الإستراتيجي في البلاد، مع اهتزاز العلاقات بين الغرب ورواندا، خاصة في ظل الانتقادات المتزايدة للرئيس الرواندي بول كاغامي من الإعلام الغربي.

من ناحية أخرى، تعود العلاقات بين الولايات المتحدة والكونغو الديمقراطية إلى عقود طويلة، واشتركت الدولتان في ملفات سياسية غيرت مساريهما؛ مثل تورط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في إسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا في الكونغو الديمقراطية واغتيال زعيمها "باتريس لومومبا"، وتنصيب "موبوتو سيسي سيكو" على رأس السلطة، وكذلك تزويد الكونغو الديمقراطية، الولايات المتحدة باليورانيوم الذي استخدمته في تشغيل القنابل النووية خلال الحرب العالمية الثانية.

وتبدو عقود الدعم الأميركي لرواندا وكأنها شارفت على الانتهاء؛ نتيجة عوامل متعددة، منها الانتقادات المتزايدة من المعارضة السياسية والمنصات الإعلامية التي تنتقد واشنطن لدعمها ما يسمونه "دكتاتورية" كاغامي، خاصة بعد اعتقال إدارته وسجنه نشطاء وسياسيين، بمن فيهم بول روسيساباجينا، الذي كان مقيمًا في الغرب.

وقد يسهم في تراجع الدعم الأميركي لكاغامي ما قد تراه واشنطن تهديدًا لمصالحها الإستراتيجية المتوقعة في المنطقة، خصوصًا في ظل تصاعد النفوذ الرواندي بعد النجاحات العسكرية التي حققتها قواتها في موزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى، وهما دولتان غنيتان بالموارد المعدنية، إذ تخطط واشنطن للعودة إلى بانغي حيث تساعد القوات الرواندية على تعزيز مؤسساتها، مقابل امتيازات في التعدين ومشاريع زراعية لكيغالي.

وفي سياق صراع شرق الكونغو الديمقراطية، ساهمت القرارات الأميركية الأخيرة في تعزيز موقف الحكومة الكونغولية، التي تتهم رواندا بأنها "معتدٍ" وتسعى لتأجيج الصراع بهدف تأمين المعادن في المنطقة. إذ لم تكتفِ واشنطن بمجرد إدانة دعم رواندا لحركة "إم 23" المسلحة في شرق الكونغو، بل فرضت أيضًا عقوبات على ستة أفراد، بمن فيهم القائد العسكري الرواندي العميد "أندرو نيامفومبا"، لدورهم في دعم الجماعات المسلحة المتورطة في الصراع.

ويضاف إلى ما سبق، أن الرئيس الكونغولي تشيسكيدي أعلن في 2021 مراجعة جميع العقود السابقة الموقعة مع الشركات الصينية. وكشفت تقارير إعلامية أميركية في مايو/أيار 2024 أن إدارة بايدن تفكر في تخفيف العقوبات المفروضة على رجل الأعمال الإسرائيلي دان غيرتلر، الذي اتُهم بصفقات غامضة كلفت الكونغو الديمقراطية أكثر من 1.36 مليار دولار في الإيرادات من عام 2010 إلى 2012.

ومن السيناريوهات المحتملة أن تجبر واشنطن دان غيرتلر على بيع ممتلكاته في مناجم النحاس والكوبالت في الكونغو الديمقراطية مقابل رفع العقوبات، مما يفسح المجال للشركات الأميركية للوصول إلى المعادن الرئيسية في الكونغو الديمقراطية.

على أنّ ما سبق يتعارض مع دعوات بعض مراكز الفكر الأميركية لجعل الكونغو الديمقراطية دولة حاسمة لتعزيز "القيم" الأميركية المتمثلة في الديمقراطية، ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان. بل إن مجرد تفكير إدارة بايدن في رفع العقوبات عن غيرتلر، رغم الاتهامات الضخمة الموجهة إليه، يعزز موقف الذين يرون أن تحركات الولايات المتحدة والقوى الأجنبية الأخرى ليست إلا إعادة لنموذج الأعمال الاستعماري القديم، حيث تُغلّب مصالحها الاقتصادية والصناعية على مصالح أفريقيا.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مجلس شؤون خدمة المجتمع بجامعة الفيوم: منح مقدمة من سفارة الصين لحضور دورات تدريبية للعلاج الصيني التقليدي
  • الإمارات تدين حادثة الطعن التي تعرض لها رئيس القمر المتحدة
  • توسيع ممر لوبيتو: استعمار أفريقيا بعباءة جديدة
  • دولة أفريقية تأمر بقتل 200 فيل.. والسبب صادم
  • الصين في أفريقيا بين ضرورة التوسع العسكري والثوابت التاريخية
  • وسط نقص الغذاء والجفاف.. دولة أفريقية تأمر بقتل 200 فيل
  • هكذا أكدت جنوب أفريقيا تصميمها على متابعة قضية الإبادة الجماعية ضد الاحتلال الإسرائيلي
  • وكالة روسية: وصول لواء حوثي بكامل قوامه إلى دولة عربية استعدادًا لخوض معركة فاصلة
  • أخنوش: الحكومة حققت ثورة اجتماعية وجعلت المغرب أول دولة اجتماعية في أفريقيا
  • سياسي بريطاني يحذر من التهديدات التي سيواجهها الغرب إن سمح لكييف بضرب الأراضي الروسية