كان الرئيس الصيني شي جين بينغ أقل تحفظا أمام زعماء نحو 50 دولة أفريقية خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين، حين قال في خطابه: “إن عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا تسببت في معاناة كبيرة لشعوب المنطقة”. يأتي ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف الأميركية والغربية أيضا من هذا “الغزو الصيني الناعم” للقارة الأفريقية التي كانت معقلا تقليديا لنفوذه.

التغيير ــ وكالات

يضيف الرئيس الصيني، في المنتدى، الذي اختتم يوم السادس من سبتمبر 2024، متطرقا إلى أحد أبرز أسباب التقارب الصيني الأفريقي: “بدءا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الأفريقية معا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معا”.

جاء خطاب شي جين بينغ مختلفا، فقد دأبت الصين غالبا إلى التأكيد أن شراكاتها لا تستهدف “أي طرف ثالث”، في إشارة إلى الغرب نفسه -المستعمر أو الحليف التقليدي السابق لمعظم البلدان الأفريقية- لكن اطمئنان شي إلى رسوخ علاقات الصين الأفريقية وإلى تنامي قوة بلاده، وخصوصا تغير نظرة أفريقيا للغرب جعلته يصرح بما كان سابقا يخفيه بمنطق الصبر الإستراتيجي وطول النفس الصيني المعهود.

طموح الصين وهواجس أفريقيا

حتى سنوات قليلة ماضية، كانت الصين في قائمة بلدان العالم الثالث -وفق المعايير والتصنيفات الجيوسياسية القديمة- جنبا إلى جنب مع الدول الأفريقية نفسها ومعظم الدول الآسيوية، لكنها صعدت إلى مركز الريادة العالمية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، بما يشبه المعجزة، لتطرح نفسها “بديلا موثوقا” لأفريقيا.

عمليا بات بإمكان الصين أن تقدم كل شيء لأفريقيا، من لعب الأطفال إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة والقروض والتكنولوجيا فائقة الدقة، وهذا ما يؤرق الغرب الذي كان يحتكر كل ذلك.

يشير محللون إلى أن أفريقيا تغيرت أيضا بما يخدم مصلحة الصين كقوة كبرى ومعززة بكل عوامل التفوق تلك. ففي السنوات الأخيرة ازدادت هواجس الدول الأفريقية وإحباطها من “عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا” -وفق تعبير الرئيس الصيني- فلا الديمقراطية تحققت، ولا التنمية الحقيقية على النمط الغربي حصلت. وبقيت البلدان الأفريقية في معظمها تراوح مكانها في مربعات الفقر والجهل والمرض والفساد والانقلابات العسكرية والديون التي تجاوزت تريليون دولار عام 2023 حسب تقرير البنك الأفريقي للتنمية.

بدا أن تحويل الكثير من الدول الأفريقية البوصلة نحو الصين -بدرجة أقل روسيا وتركيا- يمثل بشكل ما استيعابا لدرس عقود من “الإهمال الغربي لأفريقيا”، ونتيجة لذلك “الإحباط في العالم النامي وتطلعاته” وفق توصيف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.

قبل 4 سنوات، جاءت أزمة لقاحات كورونا، التي أهملت فيها أفريقيا بشكل جعلها الأكثر تضررا، كجزء من هذا الدرس، ثم أتت مفارقة منح الدول الغربية نحو 500 مليار دولار من المساعدات المختلفة لأوكرانيا في ظرف سنتين، بما يفوق ما منح لأفريقيا خلال عقود، منها نحو 50 مليار دولار كقروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، تأكيدا لهذا الدرس.
بشكل عام، يمكن فهم متلازمة الانقلابات التي شهدتها بعض دول الساحل والصحراء وإنهاء النفوذ الفرنسي والأميركي فيها (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وبدرجة أقل تشاد) وكذلك أفريقيا الوسطى وغيرها، والاتجاه نحو روسيا والصين في سياق إحباطات أفريقية، ومراجعات وجرد لمكاسب الارتباط لعقود بالغرب، جاءت نتائجه سلبية لتعزز فك الارتباط والبحث عن خيارات أخرى.

يشير محللون إلى أن الغرب لا يتحمل وزر كل أزمات القارة الأفريقية المعقدة، لكنه بالمحصلة جزء مهم رئيسي منها، ويعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة معظم الدول الأفريقية لعلاقاتها السياسية والاقتصادية تبعات إرث استعماري وعقودا من الفشل الاقتصادي والتنموي وفق المقاربات الغربية، وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.

في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد -وهو مقرب من الغرب- تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: “الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال”.

من جهته، قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا أيضا على المنبر نفسه: “لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال”، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من “الوصاية”.

وفي سياق تلك التحولات، تنقل صحيفة نيويورك تايمز عن إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع “مشروع الجنوب العالمي للصين” (China Global South Project) قوله: “إن الصين تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تنفصلان بشكل متزايد عن أفريقيا”. ويبدو أن هذا الانفصال يتم بزخم سريع مقابل تمدد الأواصر الأفريقية مع الصين.

بناء الجسور وملء الفراغات

منذ سنة 2000، حين أنشئ منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) بدأ التوجه الصيني نحو أفريقيا بمنطلقات جديدة، وباتت بعد نحو عقدين أكبر شريك تجاري للقارة، والمستثمر الأكبر فيها، وهي أكبر دائن لها أيضا، وما زال هذا المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات يمثل حجر الرحى في العلاقات الأفريقية الصينية، وانبثقت عنه عمليا 36 وكالة تنفيذية.

ويعد المنتدى أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين، لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها أفريقيا، ومنها “مبادرة الحزام والطريق” (عام 2013) التي تضم 52 دولة أفريقية، و”مبادرة التنمية العالمية” (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى “مبادرة الحضارة العالمية” و”مبادرة الأمن العالمي” التي يندرج ضمنها “منتدى السلام والأمن الصيني الأفريقي”.

ودأبت الصين في سياق التحولات العالمية والصراعات الجيو إستراتيجية للترويج لنفسها باعتبارها نموذجا ومرجعية “أكثر فائدة لأفريقيا من الغرب”، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها “الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثل في ضرورة التحول السريع، وفق شي جين بينغ، الذي بات يعتبر بلاده “المدافعة عن العالم النامي”.

ومقابل “إهمال” الغرب لأفريقيا، تتسم سياسة الصين في القارة بطابع مؤسسي شديد التنظيم، لا تركز على الاقتصاد فقط، بل أيضا على الجوانب السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلامية والأمنية والعسكرية ويتم تحت إشراف مباشر من كبار مسؤوليها وقادتها.

فبين عامي 2008 و2018، زار كبار المسؤولين الصينيين أفريقيا 79 مرة، وقام الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ بين عامي 2014 و2020 بـ10 زيارات إلى أفريقيا مقابل 48 زيارة لوزير الخارجية وانغ يي.

وعلى الصعيد السياسي يعمل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (التابع للحزب الشيوعي الصيني) مع 59 منظمة سياسية في 39 دولة أفريقية، ويرتبط بعلاقات مع 35 برلمانا أفريقيا.

كما تدير إدارة الاتصال الدولي للحزب الشيوعي الصيني -وهي جهاز تابع للجنة المركزية ووكيل تنفيذي لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي- بعلاقات مع 110 أحزاب سياسية في 51 دولة أفريقية، وتشرف إدارة الجبهة المتحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أكثر من 30 “جمعية واجهة” في 20 دولة أفريقية، وفق بيانات مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.

ومنذ عام 2018، تستضيف الصين سنويا مسؤولين حكوميين أفارقة وملحقين عسكريين وأمنيين من 50 دولة أفريقية لمدة أسبوعين، لحضور ندوات وزيارة مواقع جيش التحرير الشعبي والبحرية، تتولى تدريب قوات أمنية وعسكرية. وتتولى أيضا تدريب آلاف الطلاب والمهنيين الأفارقة، بنسبة أكثر من أي دولة صناعية أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.

وحسب بيانات وزارة التعليم الصينية، يبلغ عدد الطلاب الأفارقة المسجلين في المؤسسات الصينية أكثر من 81 ألف طالب عام 2018، مقارنة بأقل من 2000 في عام 2003، وهو ما يمثل 16.5% من إجمالي الطلاب الأجانب في البلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن 16% من جميع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة تتم عبر الحكومة الصينية.

وتخطط الصين أيضا لتدريب 500 مدير ومعلم من ذوي الكفاءة العالية في الكليات المهنية كل عام، و10 آلاف موظف فني لتدريبهم على اللغة الصينية والمهارات المهنية.

وحسب آخر الإحصاءات (عام 2019) قدمت الصين نحو 50 ألف منحة جامعية للطلاب الأفارقة سنويا، و50 ألف حصة تدريبية لموظفي الخدمة المدنية، وكبار المسؤولين التنفيذيين والقادة الطموحين، و2000 حصة تدريبية للشباب بينها حوالي 10% مخصص لقطاع الأمن في أفريقيا. وتنتشر أيضا معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في 46 دولة أفريقية، إضافة إلى مدارس الحزب الشيوعي الصيني في بعض البلدان.

وتمثل هذه الأنشطة المتنوعة، التي “تستثمر في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري إضافة إلى مشاريع البنية الأساسية العملاقة” -حسب تقرير لفورين أفيرز- توسعا هائلا لنفوذ الصين في مختلف أنحاء القارة، يستند إلى تصور واضح للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وتشير الصحيفة إلى أن جهود بكين تؤتي ثمارها مبدئيا، حيث يقيّم 63% من الأفارقة نفوذ الصين في القارة بشكل “إيجابي”.

وتحصد الصين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية، في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الأفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة أفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان كدولة أو إلغاء الاعتراف بها كدولة، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.

الوسومأطماع أفريقيا الصين المنتدي الصيني الأفريقي

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: أطماع أفريقيا الصين

إقرأ أيضاً:

هل قال ابن خلدون كل شيء عن قوانين نهوض الدول وسقوطها؟

الكتاب: ما لم يقله ابن خلدون: قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها
الكاتب: كمال القصير.
الناشر مدارات للأبحاث والنشر-القاهرة – مصر..  الطبعة الأولى 2024
عدد الصفحات:320


استأثر تراث ابن خلدون بدراسات كثيرة، ونال كتابه "المقدمة" الذي جعله توطئة لكتابه التاريخي الضخم:" العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" الحيز الأوفر من هذه الدراسات، بحكم أنها تضمنت الجينات الأولى لعلم الاجتماع، ذلك العلم الذي لم يؤسس بهذا الاصطلاح إلا مع الفيلسوف الوضعي أوكست كونت.

وقد شكلت المقدمة، قبلة للدارسين من مختلف الأطياف، حت أضحت مستندا للتأصيل، سواء بالنسبة إلى الماركسي (كتب العروي دراسة عن خلدون بعنوان "ابن خلدون وماكيافللي"، وكتب الجابري أكثر من كتاب حوله أشهرها "فكر بن خلدون العصبية والدولة") أو القومي (ساطع الحصري) أو الإسلامي (عماد الدين خليل في كتابه ابن خلدون إسلاميا)، وقد حقق المفكر المغربي بن سالم حميش في كتابه :" التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون"-وهو من الدارسين المميزين لابن خلدون- في عدد الذين كتبوا عن ابن خلدون، بين الدارسين العرب والغرب،  وبين الباحثين في كتبه والمترجمين والمنتقدين لها،  فتحدث عن اكثر من أربعين شخصية.

ويفيد هذا الغنى والثراء في تخريج كتاب مقدمة ابن خلدون وتحقيقها وطبعها وترجمتها وشرحها ونقدها مدى الإضافة النوعية التي قدمها ابن خلدون فيه، والريادة التأسيسية له في علم الاجتماع، ومدة الحاجة المتجددة لدراسة ما تضمنته "المقدمة" من أفكار واستقراءات واستنتاجات تهم قيام الدول وانفراط عقدها، وقواعد تأسيس العمران وانهياره.

بيد أن هذا الجهد الكبير في تناول هذا التراث السوسيولوجي الذي خلفه ابن خلدون، تأرجح الاهتمام به، بين اتجاهين اثنين، معتن بالمتن في كل أبعاده، تخريجا وتحقيقا وشرحا وترجمة ونشرا، ودارس ومنتقد له من خلفيات مختلفة، تحكمها أحيانا الغيرة الحضارية، وذلك حتى يحفظ للغرب فرادته واستثناؤه في تأسيس علم الاجتماع. وتحكمها أحيانا أخرى النظرة الإيديولوجية، التي تحاول أن تختطف ابن خلدون، وتحوله إلى ناطق باسم المذهب، يؤصل قواعده حتى وكتابه "المقدمة"، كتب قرونا قبل نشأة هذا المذهب، قوميا كان، أو ماركسيا، أو ليبراليا.

في الكتاب الذي نقدمه بين أيدينا، أي  "ما لم يقله ابن خلدون" خيار ثالث، أو مقاربة مختلفة، تنطلق من خلفية البناء على التراكم الذي حققه ابن خلدون، ومحاولة استكمال البياضات الموجودة في نموذجه التفسيري، وملأ الفراغ الذي تركه في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها، وصاحبه-كمال القصير-الكاتب والباحث  الأكاديمي أخذ وقته الطويل في بناء أطروحته، وتسويغ بنائها، وإسناد إضافاته النوعية بالوقائع التاريخية الممتدة من عهد نبي الله سليمان إلى العهد العثماني وما بعده، مرورا بصدر  الإسلام، والدولة الأموية والدولة العباسية، ودول المماليك، وغيرها، دون أن ينسى أن يعرج على تاريخ المغرب، ويستدل على عاملية قانون الفراغ في تفسير سقوط الدول، سواء بالنسبة للدولة المرابطية أو الموحدية أو المرينية، انتهاء بعصر السيبة، الذي خلق الفراغ الذي شكل المغرب الحديث.

سؤال الأطروحة ومفهوم قانون الفراغ

لا يتردد الباحث في تحديد موضوعه وإشكاليته البحثية بكل دقة، فهو معني بدرجة أولى بمناقشة أسباب قيام الدول والجماعات وانهيارها، وسؤاله البحثي منصب على جهد ابن خلدون في تفسير هذا الإشكال، ومساهمته النظرية في هذا الحقل، وهل استطاعت نظريته أن تغطي هذا الإشكال بالجواب المكتمل، أم أنها تركت بياضات كثيرة تحتاج إلى استئناف نظر، حتى تسوي النظرية على أصولها، وتكتمل قواعدها، وتمتلك بذلك قدرتها التفسيرية التفصيلية.

العصبية التي كان يربط ابن خلدون قيام الدول بها، والتي تقوم على الروابط بين الجماعات (رابطة الدم، والمعايشة المستمرة، والنسب، والولاءات والأحلاف) لم تعد تستوعب التحولات التي عرفتها الدول الحديثة، ولم تعد قادرة على تفسيرهاهذا الموضوع المحدد، والسؤال البحثي الدقيق المرتبط به، قاد الباحث إلى اكتشاف ما أسماه "قانون الفراغ"، فحاول في هذا الكتاب أن يبسط النظر على كل متعلقات هذا القانون، من الجانب النظري، ثم التاريخي، أي ذكر الوقائع التي تدعم وجود هذا القانون وعامليته في التفسير، فصرح في مقدمة كتابه أنه بهذا الجهد، إنما يريد أن يكمل ما أنجزه ابن خلدون في موضوع العصبية ودورها في قيام الدول والجماعات وسقوطها، وأنه يعتزم تطوير هذا المفهوم وما ارتبط به من مفهوم الدعوة الدينية، أو الرابطة الدينية،  وأن ما يبرر  الحاجة لهذا التطوير والاستئناف، هو تحول القواعد التي تقوم عليها الدول، وظهور أشكال جديدة لقواعد نشأة الدول وشرعيتها، غير العصبية وغير الدعوة الدينية، مما لم يكن يتخيله ابن خلدون ولا جيل المؤرخين ممن عاصره أو لحقه.

فالعصبية التي كان يربط ابن خلدون قيام الدول بها، والتي تقوم على الروابط بين الجماعات (رابطة الدم، والمعايشة المستمرة، والنسب، والولاءات والأحلاف) لم تعد تستوعب التحولات التي عرفتها الدول الحديثة، ولم تعد قادرة على تفسيرها، وحتى التراتبية التي حدد مراحلها ابن خلدون، حين زعم أن الدولة تتأسس على العصبية، وأن الملك حين ترسى قواعده، ينتهي فيه الحاكم إلى الانفراد بالحكم في مرحلة ثانية، لتأتي مرحلة السقوط بالتفرغ للدعة والترف وتشييد المباني العظيمة، وينتهي بتفكك العصبية. هذه التراتبية التي أصل لها ابن خلدون في نظريته التفسيرية لقيام الدول وانهيارها، تحتاج إلى نظر استئنافي، يجدد قدرتها على التفسير، ويملأ البياضات التي تكتنفها، لاسيما ما يرتبط بالشروط التي تسبق حالة السقوط، في حالة الفراغ التي تعيشها الدولة أو الجماعة، قبل أن تنهار بشكل كلي، فيرى الباحث أن ابن خلدون، اهتم بالأسباب المادية المشاهدة لقيام الدول وانهيارها، ولم يقف على كثير من العوامل الخفية من العلل غير المادية التي تؤدي لسقوط دول وقيام أخرى على أنقاضها، وأن هذا هو الذي سوغ له البحث في  قانون الفراغ، حيث نصبه الباحث في مرتبة العلة الخفية المفسرة لكثير من التحولات التي تعرفها الدول والجماعات قبل سقوطها.

وهكذا، ينتهي الباحث إلى أن فراغ المضمون الداخلي للدولة وتآكله، هو ما يدفع نحو سقوطها، وأن هذه الحالة، هي التي ينبغي التوقف عند مؤشراتها ومظاهرها بدل الاهتمام فقط بالأسباب المادية الصلبة.

يستند الباحث إلى قصة موت نبي الله سليمان، وكيف لم يدرك الذين تحت قهره وسلطته أنه مات، حتى خر ساقطا بعد أن أكلت حشرات الأرض عصاه التي كان يتوكأ عليها، وأن تأخر إدراك هؤلاء لموته ناتج عن الصيرورة الزمنية التي أخدها التآكل البطيء للعصا من الداخل،   ليخلص من ذلك إلى أن حالة الفراغ تأخذ وقتها في الزمن، وأن الدول تفقد في الجوهر مقومات استمرارها في الحياة بشكل مبكر، لكن هياكلها الداخلية تبقى  مستمرة، فيخيل في الظاهر أنها ترمز لعافية الدولة، ولا تظهر حقيقتها حتى تقتلعها القوى الجديدة، وتنشئ شرعيتها الجديدة على أنقاض زوالها.

تذهب جرأة الباحث بعيدا في القول بأن  قانون الفراغ يفسر في عدة مواضع نماذج سياسية أكثر مما يفسره قانون العصبية، ، فيرى  أن قانون العصبية ليس لديه كثير مما يمكن قوله في تشكل تنظيم القاعدة، أو تنظيم الدولة داعش،  فهذان التنظيمان سيطرا على مناطق ممتدة في الجغرافيا، مع انتفاء شروط القبيلة والعرق المعروفة لدى ابن خلدون. وفي  المقابل، فإن قانون الفراغ، يقدم التفسير الفعال لنشأة هذه التنظيمات، فمناطق التوحش والفراغ، تغري هذه التنظيمات بمحاولة إقامة دولة بها، وهو ما يفسر خارطتها الجغرافية في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا، وفي أجزاء كبيرة من أفغانستان، واليمن، وفي صحراء كل من ليبيا ومالي.

لا ينسب الباحث لنفسه سمة الريادة في طرح قانون الفراغ، ولا التأصيل لكل مفرداته، بل على العكس من ذلك، إنه يقر بتواضع بأن ابن خلدون أشار إلى هذا المفهوم، وذكر بعض لوازمه المفهومية، مثل مفهوم التوحش، ومفهوم الترف باعتباره  حالة من حالات الفراغ، ومفهوم خراب العمران، لكنه، مع ذلك، يجعل من مهمته البحثية الكشف عن هذا القانون، والتأصيل لأبعاده النظرية، ومختلف المفاهيم التي تؤسس النموذج التفسيري المنطلق من خلفيته، هذا فضلا عن الإبحار في الحقل التاريخي، والبحث عن الوقائع التاريخية الكثيفة التي  تختبر فيها عاملية قانون الفراغ في تفسير  قيام الدول وسقوطها.

قانون الفراغ.. الأبعاد النظرية والتطبيق العملي في التاريخ

قسم الكاتب كتابه إلى خمسة فصول، خصص الأول، للجانب النظري، أي بحث الأبعاد النظرية لقانون الفراغ وبنيته وارتباطاته، وأهم المفاهيم الدائرة في فلكه، سواء عند ابن خلدون أو بحسب الاستقراء العام الذي اعتمده الكاتب.  أما الفصول الأربعة المتبقية، وهي جوهر الكتاب وثمرته، فقد خصصها لبحث تفاصيل النموذج العملي لتطبيقات قانون الفراغ وعامليته في الخبرة التاريخية الإسلامية، وذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى نهاية الدولة العثمانية مع إفراد الخبرة التاريخية المغربية بقدر كثيف من البحث في الفصل الثالث، ويظهر من لائحة مصادر البحث ومراجعه مدى الجهد النظري والبحثي الذي قدمه الباحث في هذا العمل.

ولأن المقام لا يسمح باستعراض كل النقاط المتعلقة سواء بالبناء النظري أو النموذج التطبيقي، فسنحاول أن نقدم بعض الشذرات التي تحقق الغرض من مراجعة هذا الكتاب وتقديمه للقراء، في أفق أن تسنح الفرصة لاحقا لمناقشته بشكل تفصيلي، والتفاعل مع بعض أطره النظرية ونماذج من إعمال النموذج التفسيري على الوقائع التاريخية.

فعلى مستوى البناء النظري، يتوقف الباحث في شرحه لمفهوم قانون الفراغ على ما أسماه تآكل المضمون، ويعني به تآكل مضامين الهياكل السياسية والإيديولوجية للدولة، وانخفاض كثافة عصبيتها الاجتماعية، وانكفائها على الأشكال الخارجية المتبقية وتمكسها بها، إذ تحصل هذه العملية في اللحظة التي يتوقف فيها تجديد المضامين ومراجعتها، فيحل الجمود محل التجديد، ويسود التقليد بدل الاجتهاد، ويتم الانعطاف إلى التقديس والتنميط. ويمثل الباحث لهذه الصورة في الدولة الحديثة، التي تفقد مضمونها الداخلي، فتنكفئ على الأشكال الخارجية، ومنها القومية، التي لا تحمل أي مضمون يمكن الرهان عليه لتجديد المضمون الثقافي والإيديولوجي والسياسي والاجتماعي، وإنما هو مجرد وعاء خارجي يحتاج هو نفسه لمن يملأه بمضمون حضاري يدفع نحو الفاعلية والتجديد والحركة.

ويضرب لذلك مثلا بتركيا ما بعد العثمانيين، وكيف فقدت مضمونها الداخلي رغم تمسكها بالوعاء القومي، وكذلك بالدول العربية القطرية التي نشأت بعد الزمن العثماني، متجردة عن أي مضمون فكري وسياسي واجتماعي، مما اضطرها للاغتراب في إيديولوجيات الأجنبي في محاولة فاشلة لإضفاء مضمون داخلي على الوعاء القومي الذي تبنته.

اكتشاف الجزر الفارغة واستثمار الفراغ.. دروس من التاريخ

يعتبر الباحث في تفسيره لصعود دولة المدنية في التجربة الإسلامية النبوية، أن اتجاه النبي الكريم إلى المدينة المنورة كان القرار الأكثر ذكاء في العالم في تلك المرحلة، بالنسبة إلى انبعاث دين جديد وانتشاره، إذ تم توطين المشروع في جغرافية فارغة ملائمة للصعود والتمدد، ويفسر الباحث هذا الاستنتاج بالقول بأن المدينة المنورة كانت تشكل منطقة فراغ بامتياز، سواء من حيث غياب العصبية القبلية الجامعة لمكوناتها، أو من حيث غياب الإيديولوجيا الكثيفة، وذلك مقارنة بمكة التي كانت مركزا للكثافة الدينية ومركزا للعقيدة الوثنية، وكانت تركيبة السلطة فيها تخضع لقواعد صارمة، لا يملك أحد أن يحصل على جزء منها ما لم يكن ممثلا في دار الندوة، ولم يكن بإمكان أي قبيلة أن تتخذ قرارها بشكل مستقل عن باقي الشركاء سواء في قضايا الحرب أو السلم أو بخصوص إدارة شؤون الحرم.  في حين لم تكن في المدينة المنورة سلطة منظمة، وهو ما أسهم في بناء نموذج سياسي بعيدا عن الضغوطات ودون مخاصمة لنموذج سياسي قائم.

يقدم الباحث نموذج الفتوحات الإسلامية وخارطة التمدد الإسلامي في العالم كنموذج تطبيقي لتفسير سقوط امبراطورية فارس والروم، حيث اعتبر هذه الفتوحات شاهدا على أشكال من استثمار جغرافية الفراغ التي تشكلت بسبب سقوط عصبيات الدول الكبرى، إذ بدأ التمدد من استثمار الفراغ في أطراف الامبراطوريتين (منطقة الجزيرة العربية، مصر، طرابلس، وبرقةويقدم الباحث نموذج الفتوحات الإسلامية وخارطة التمدد الإسلامي في العالم كنموذج تطبيقي لتفسير سقوط امبراطورية فارس والروم، حيث اعتبر هذه الفتوحات شاهدا على أشكال من استثمار جغرافية الفراغ التي تشكلت بسبب سقوط عصبيات الدول الكبرى، إذ بدأ التمدد من استثمار الفراغ في أطراف الامبراطوريتين (منطقة الجزيرة العربية، مصر، طرابلس، وبرقة، المغرب).

ومن الأمثلة والوقائع التي أعمل عليها الباحث نموذجه التفسيري المستند إلى قانون الفراغ  سقوط الدولة الأموية، فألمح إلى الثورات التي واجهها الأمويون،  وكيف ضعفت إيديولوجيتهم  في مواجهة خصومهم في الحجاز والعراق ومصر،  وذكر سبيين رئيسين لتحلل دولة  الأمويين أولهما هو ظهور مشكلة الأطراف، والثورات في منطقة الفراغ وزحف هذه الثورات على السلطة، ثم ثانيا انتشار وباء الطاعون سنوات متواصلة، وركز على الجانب فراغ الدولة من مضمونها الإيديولوجي في مواجهة إيديولوجية عباسية صلبة وكثيفة، وكيف تم استثمار  الفراغ في منطقة خراسان، حتى أضحت الخاصرة التي ضرب منها الأمويون، إذ لم يستطيعوا ان يبنوا عصبية قبلية جامعة في خراسان،  فلم تتمكن القبائل المتناحرة في هذه المنطقة من مواجهة صعود العباسيين، وذلك بالرغم من جهود الأمويين في إدارة مسألة العصبية في تلك الأطراف، واستطاع الفرع العباسي الأكثر دينامية ونشاطا أن يستثمر أجواء الفراغ، وضعف العصبية، ليبرر صعوده وتمرده على الدولة  الأموية.

وقد تناول الباحث فراغ الأندلس بنفس الأدوات التحليلية، إذ كانت الأندلس تعيش بعد سقوط الدولة الأموية وضعا مشابها، من جهة مواجهة كثرة الاضطرابات والصراعات بين اليمينة والقيسية والانقسامات العرقية، وغياب عصبية جامعة، إذ لم يساعد تدهور الدولة الأموية على تدخلها لحل النزاعات في الأندلس،  فساعدت سنوات القحط وسوء أحوال  الاقتصاد  في بروز فراغ سياسي وتفكك عصبي، فجاء أموي آخر هارب من المشرق (عبد الرحمان بن معاوية)، واستثمر أجواء الفراغ،  فأقام دولة عصبية أموية جديدة  بعيدا عن السلطة المركزية للعباسيين، فجدد  الدولة الأموية في الأندلس على حد ما ذهب إليه ابن خلدون في مقدمته.

وقد تناول الباحث أيضا الصعود الفاطمي كجواب عن الفراغ الذي تركته الدولة العباسية لاسيما في الأطراف، وفسر ذلك بفشل الشيعة في مواجهة العباسيين في المركز واضطرارهم إلى  الانتقال بدعوتهم نحو الأطراف أي مصر، وتناول في المقابل، ظهور دولة الأدارسة على أطراف نفوذ الدولة العباسية (المغرب)، إذ بنى الأدارسة نموذجا للتسنن الممزوج بحب آل البيت في المغرب الأقصى، فأسسوا دولتهم في الفراغ، الذي كان في الواقع ينتمي لمنطقة جغرافية مستقلة نسبيا عن النفوذ العباسي بعد أن أقطع هارون الرشيد إبراهيم بن الأغلب شمال إفريقية، والأمر نفسه يصدق على دولة العبيديين في الأطراف من شمال إفريقيا  التي تأسست في منطقة تعرف فراغا إيديولوجيا وفكريا وتعاني من المظالم الضريبية.

خاتمة

لقد قدم الباحث نماذج تاريخية تطبيقية كثيفة لاختبار نموذج التفسيري القائم على قانون الفراغ يصعب هنا استقصاؤها كلها لضيق المجال، ونجح إلى أبعد الحدود في ذلك، وشكل البعد التطبيقي في منهجه الحيز الأكبر من كتابه (أربعة فصول، وأكثر من 250 صفحة)، وهي علامة دالة على استقرار البناء النظري، وسعة تجريبه في الوقائع التاريخية، بما يضمن في الغالب، إكساب المفاهيم والأبعاد النظرية لقانون الفراغ بعدها العلمي.

ولعله من نافذة القول التنويه بهذا الجهد النظري، وسعة الاشتغال التطبيقي، والتأكيد على أنه يمثل إضافة نوعية في التراكم المعرفي الخاص بتفسير قيام الدول والجماعات وانهياريها، وأن جهد التعريف بهذا الكتاب، يقصد بالأساس تحريض الباحثين على مدارسته والتفاعل مع معطياته ومناقشة حيثياته، والتأمل العميق في خلاصاته ونتائجه.

مقالات مشابهة

  • حشود الزائرين تملأ مركز بغداد لإحياء الزيارة الرجبية (صور)
  • ترامب يعفو عن شرطيين مدانين بقتل شاب من أصول أفريقية
  • لماذا تعزز الصين حضورها في إفريقيا..وما هو موقف ترامب من توسع النفوذ الصيني؟
  • صور: الصين تستعرض قوتها بفرقاطة جديدة بإمكانيات عالية من طراز "054 بي"
  • المواقع الدولية الأفريقية تختار مصر ضمن أفضل الوجهات السياحية في أفريقيا
  • عضو أفريقية النواب: لن ننسي تضحيات الشرطة فداء للوطن
  • يجب على المجاهدين والمستنفرين والمقاومين، ألا يكونوا مثل قحت
  • القسام تكشف عن عمليات جديدة في معركة طوفان الأقصى
  • مصر وجنوب إفريقيا تتصدران الدول الأفريقية التي رفعت قدراتها من إنتاج الطاقة الشمسية في 2024
  • هل قال ابن خلدون كل شيء عن قوانين نهوض الدول وسقوطها؟