حب المصطفى في القلوب والعقول منذ عرف كل منا نفسه وحتى يأتي الموت، هكذا هم المتيمون بحب الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل يعبر عن ذلك بذكره والصلاة عليه في كل وقت وحين، ولكن للشعراء في كل العصور طرقهم وآرائهم وقصائدهم التي جاءت في مدح خير البرية فكانت حصيلة من القصائد والدواوين في المديح النبوي يستمتع بها القراء والمستمعون منذ قرون من الزمان مضت.
أصبح المديح النّبويّ كغرض شعري قديم متجدّد جوهره الثّناء والشّكر والتّنويه بمناقب خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وصفاته وأخلاقه وسلوكياته، ويستوحي مادته الإبداعية من منظور ديني بحت، فهو لون من ألوان التّعبير عن العواطف الدّينيّة، وهو شعر ينصبُّ على نظم سيرة رسول الله، وتعداد صفاته الخَلقيّة والخُلقيّة، وإظهار الشّوق لرؤيته وزيارة قبره، والأماكن المقدّسة الّتي ترتبط بحياته، مع ذكر معجزاته الماديّة والمعنويّة، والإشادة بغزواته ضدّ الكفّار والمشركين، والصّلاة عليه وعلى آله وصحبه تقديراً وتعظيماً، بعيداً عن ظاهرة التّكسّب بالشّعر.
سنورد شذرات من بعض القصائد لعدد من الشعراء في مدحه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمناسبة حلول المولد النبوي الشريف:
قصيدة عينية
يقول الشاعر والصاحبي حسّان بن ثابت الأنصاري وهو أحد الشعراء الذي تكفلوا بمهمة الرد على هجاء شعراء الكفار والمشركين، وأبرز المدافعين عن الإسلام، ومما قال في قصيدته العينية المشهورة:
إنّ الـذوائبَ منْ فهرٍ وإخوتهم
قدْ بينوا سنة ً للنّاسِ تتبـعُ
يَرْضَى بهَا كُلُّ مَن كانَتْ سرِيرَتُهُ
تقوى الإلهِ وبالأمرِ الّذي شرعوا
قومٌ إذا حاربوا ضروا عـدوهم
أوْ حاوَلُوا النّفْعَ في أشياعِهِمْ نَفعوا
سجية تلكَ منهمْ غيرُ محدثة
إنّ الخـلائِق فاعلَمْ، شرُّها البدَعُ
بانت سعاد
وفي قصيدته الشهيرة ختم الشاعر كعب بن أبي سلمى قصيدته بأبيات يمدح فيها رسول الله، ويُثنِي فيها على المهاجرين لخروجهم مع رسول الله من مكّة إلى المدينة بإرادتهم مقتنعين بما يفعلون، لا خوفا منه، ولا تهيُّبا من القتال والموت فيقول:
إِنَّ الرَسـولَ لَسَيـفٌ يُستَضاءُ بِـهِ
مُهَنَّدٌ مِـن سُيوفِ اللَـهِ مَسـلولُ
في عُصبَةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهُم
بِبَطنِ مَكَّةَ لَمّـا أَسَلَموا: زولوا
زَالوا، فَمازالَ أَنكاسٌ، وَلا كُشُفٌ
عِندَ اللِقاءِ وَلا مـيلٌ مَعازيـلُ
شُـمُّ العَرانـيـنِ أَبطالٌ لَبوسُهُمُ
مِن نَسْـجِ داوُدَ في الهَيجا سَرابيلُ
بيضٌ سَـوابِغُ قَد شُكَّت لَها حَلَقٌ
كَأَنَّها حَلَـقُ القَفعاءِ مَجدولُ
بردة البويصري
أما الشاعر شرف الدين البويصري رائد المدائح النبوية فله قصيدة اسماها «البردة» أو «الكواكب الدرية في مدح خير البرية» ويقول في مطلعها:
محمد سيد الكونين والثقليـ
ـن والفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ
أبر في قولِ لا منه ولا نعم
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هولٍ من الأهوال مقتحم
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبلٍ غير منفصم
فاق النبيين في خلقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يدانوه في علمٍ ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
وواقفون لديه عند حدهم
من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
فهو الذي تم معناه وصورته
ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النسم
منزهٌ عن شريكٍ في محاسنه
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعثه النصارى في نبيهم
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له
حدٌّ فيعرب عنه ناطقٌ بفم
بشرى النبوة
وقد برع الشاعر الكبير عبدالله الردوني في وصف مولد النور وقال:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار
وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذى سحراً
وأعلنت في الربى ميلاد أنوار
وشقت الصمت والأنسام تحملها
تحت السكينة من دارٍ إلى دار
وهدهدت “مكة” الوسنى أناملها
وهزت الفجر إيذاناً بإسفار
* * *
فأقبل الفجر من خلف التلال وفي
عينيه أسرار عشاقٍ وسمار
كأن فيض السنى في كل رابيةٍ
موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري
تدافع الفجر في الدنيا يزف إلى
تاريخها فجر أجيالٍ وأدهار
واستقبل الفتح طفلاً في تبسمه
آيات بشرى وإيماءات إنذار
وشب طفل الهدى المنشود متزراً
بالحق متشحاً بالنور والنار
في كفه شعلةٌ تهدي وفي فمه
بشرى وفي عينه إصرار أقدار
وفي ملامحه وعدٌ وفي دمه
بطولة تتحدى كل جبار
ولد الهدى
وأوجز أمير الشعراء الشاعر أحمد شوقي مولده صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قصيدته المشهورة:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ
لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي
وَالـمُـنـتَـهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِـالـتُـرجُـمـ انِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ
وَالـلَـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ
فـي الـلَـوحِ وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
النبويات
وتتصدر (النبويات) في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد أحد ديوان الشاعر ابن جنان الأندلسي واحتلت نصف الديوان تقريباً، ومما قال:
أيذهبُ يومٌ لم أكـفّرْ ذنوبَه
بذكرِ شفيعٍ فـي الذنوبِ مشفّعُ
ولم أقضِ في حقِّ الصـلاةِ فريضةً
على ذي مقامٍ في الحسـابِ مُرفّعُ
أرجّي لديـه النفعَ فـي صدقِ حبِّه
ومن يربحُ المختارَ لا شـكَّ ينفعُ
وأهدي إلى مثـواهُ مني تحيةً
إذا قصدتْ بابُ الرضى ليسَ تدفعُ
قصيدة جيمية
يقول الشاعر محمود سامي البارودي في قصيدته الجيمية:
يا صارم اللحظ من أغراك بالمهج
حتى فتكت بها ظلما بلا حـرج
مازال يخدع نفسي وهي لاهية
حتى أصاب سواد القلب بالدعج
طرف لو أن الظبا كانت كلحظته
يوم الكريهة ما أبقت على الودج
وشّيتُها ذهباً
فيما يؤجج الشاعر أنس الدغيم المشاعر العظيمة تجاه خير البرية فيقول في إحدى قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
وشّيتُها ذهباً وراقَ الماءُ
في كأسها فتسابقَ النّدماءُ
رقّتْ محاسنُها فلا هي أحرفٌ
تُتلى ولا هي غادةٌ صهباءُ
القاصراتُ الطّرفِ من خَفَرٍ لها
دِيَمٌ وأنت لمائهنّ إناءُ
يوشينَ بالمعنى ويمسكُ بعضها
خجلاً فلا ألفٌ يُرى أو باءُ
يا ماءَ بدرٍ لو لمستَ قصائدي
سُقيا لزهر قصائدي يا ماءُ
آنستُ نارَكَ فالتمسْ لخواطري
قبساً يضيءُ القلبَ يا سيناءُ
تَرِبتْ يداي إذا حُرِمتُك شافعاً
ومُنعتُ حوضَكَ أيّها السّقّاءُ
يا أيّها المكتوبُ في أعماقنا
أنت الكتابُ وكلّنا قُرّاءُ
أي يا ابن عبدالله ما بلغَ الهوى
منك الذي يرجو ولا الشّعراءُ
كم غادر الشّعراءُ من نظمٍ وكم
راحوا على طُرقِ البيانِ وجاؤوا
وتظلُّ في كلّ القلوبِ محمّداً
الصّمتُ فيكم والكلامُ سَواءُ
صِلْني فَوا فقري إذا لم ترضَ عن
وصلي وترضَ القبّةُ الخضراءُ
وإذا قريشٌ لم تسَعْكَ بيوتُهــا
فالشِّعبُ قلبي والفِدا الأحشاءُ
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
«رمضان» شهر التقوى والمغفرة
شرع الله الصيام مغفرة للسيئات، وزيادة في الحسنات، ورفعة في الدرجات، ولله الحمد على أن جعلنا من عباده الصائمين، إذ إن الصيام عبادة راقية، كتبها الله تعالى على جميع المكلفين، فقال سبحانه: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾، وفرضه عز وجل في شهر رمضان، قال تعالى: ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾.
للصيام فضائل جمة، وفوائد مهمة: أولاً: «الصيام طاعة لله تعالى»، وسبب لمرضاته، ونيل جزيل ثوابه، قال رسول الله ﷺ: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه -أي: رائحة فم الصائم- أطيب عند الله من ريح المسك».
الأمر الثاني «الصيام يشفع لصاحبه» يوم القيامة، «يقول الصيام: أي رب، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه». كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والأمر الثالث أن «الصيام منجاة من النار»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بينه وبين النار مسيرة سبعين خريفاً»، والأمر الرابع الصيام سبيل إلى دخول الجنة من باب الريان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان»، والأمر الخامس أن للصيام فوائد صحية عظيمة، فهو يساعد على إزالة السموم من الجسم، وتقوية جهاز المناعة، وتحسين وظائف القلب والأوعية الدموية، إضافة إلى دوره في ضبط مستويات السكر في الدم، والمساعدة في فقدان الوزن بشكل صحي.
وينبغي للأبوين أن يعودا أولادهما على الصيام منذ صغرهم، حسب قدرتهم وطاقتهم، ليكون الصيام رفيقاً لهم طوال حياتهم، ويفوزوا جميعاً برضا ربهم، وثواب صيامهم.
فقد فرض الله علينا الصوم، وجعل له حكماً بالغة، ومقاصد سامية، قال جل في علاه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ولذا فإن معرفة المقاصد في العبادة لها دورٌ كبير في تحسين أداء العبادات، فهي تزيد الإيمان، ولها أثر واضح على النفوس والأبدان. وإنَّ من أبرز مقاصد الصيام، التحقق بمقام التقوى بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، كما أشارت الآية في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
تقوى الصائم
تقوى الصائم تعني: ضبط نفسه عن الشهوات، وتزكيتها من الرذائل، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، فحري بالصائم أن يحرص على ضبط جوارحه عموماً، فلا تمتد يده إلى شبهة، ولا تخطو رجله إلى باطل، ولا يُجري على لسانه كذباً ولا نميمة ولا غيبة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَ شَرَابَه».
حديث
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما من كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: أما أهل السعادة فيسيرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيسيرون لعمل الشقاوة ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى} [الليل: 6] الآية.