ليس صحيحاً أن الحياة صعبة لأنها تمتحن قدرتنا على الصمود في وجه أزماتنا الخاصة، إن مكمن الامتحان في الأرض لا يتصل بذواتنا، بل عندما يصاب كامل الجسد بالموت المبكر، ويعلن تَرَمُلهُ الصريح أمام عتبات الآخرين غير المعنيين به.. ليس صحيحاً أننا نموت عندما تغادرنا آخر ذرة أكسجين، فالحياة صعبة لأن الميت يختار من يعلن أمامهم رحيله، يُحَملِهُم وصاياه المكتومة مستوثقاً فيهم القيام بالمهمة الأصعب، وهي إعلان وفاته كونهم آخر من أغمض عينيه عنهم.

. ليس صحيحاً أن البقاء ليس ممكناً إذا تعاظمت الخطوب، وتجمعت في سماء دكينة تريد من إنسانها أن يترجى اهتتانها قطرات حيَّة في واقع مقيت.. بل ليس ممكناً مواجهة آثامٍ لم نرتكبها، بل فرضت علينا وجعلتنا نشارك في هذيان جماعي يستند على أوهام جَسيمة ممتلئة بالفخر كونها استطاعت أن تتخفى في زي الفَرْض وتتعانق مع الالتزام، وتبني حكايتها الخاصة، وأنه بالموت فقط يمكن للإنسان أن يحمي نفسه ويجعل لبقاءه معنى..

إلى أبي في رحيله، كان الوقت فجراً عندما تسَاندتَ إلى ذراعي وأنت في وهنٍ عظيم، ولكنها الابتسامة التي طبعت روحك منذ ولدت في أربعينيات القرن الماضي، حية لم تنهزم أمام ضربات الجسد المنهك، أوصَلتُكَ إلى مقعدك في العربة ولم يدُر بِخَلدي أنها المرة الأخيرة اسمع منك فيها عبارات الشكر الجذابة.. هي سمتك التي رافقتك شاباً وأباً وكهلاً مؤقتاً، ويا لقاموسك الرقيق المحتشد بالامتنان حتى لمن آذوك، ولعلها بقية صلاح في الروح اكتسبتها من جدي الذي لم أره إلا فيك، وكأننا (أنا وهو) على موعد منك نتقاسم آخر الأحرف في أسمائنا إعلان عن اتحاد لا يستقيم إلا بك.. وقد كنت خير وسيط بيننا جعلت من نفسك جسراً تعبر عليه أسماؤنا أنا وهو (غسان عثمان)..

لقد كان أول ما لفت انتباهي وأنت تجلس على مقعدك أنك لم تنظر في المرآة تراقب جودة الأصباغ وهي تُخفي حبات الشعر الأبيض الذي استقر على مضايقتك وابتزاز وجدانك المترع باستشفاف الجمال حتى في أحلك تجلياته قسوة.. سامحني لن أستطيع إكمال بقية القصة؛ قصتنا الأخيرة ونحن في الطريق إلى موتك، وأجعلني أحكي لك وأنت تنصت إلى أنين بلادك وتتفرج بحرقة على حريقها المنسي حتى من أهلها الأقربون.. دعني أحكي لك عن مدينتك أبي.. مدينتك التي تئن من فرط بَرَسِ أشقيائها.. اسمح لي بتدبير الحكاية التي قد تعرفها أكثر مني، فقد انضم إليك في مرقدك الخالد أجمل من نعرف، ولا زالت القائمة تتشهى المزيد.. اسمح لي..

أولاً ‏أصدُقك القول بأن مدينتك التي أحببت وعلمتني أسرارها تعيش امتحانها الشَكِسْ، لكنها لا زالت تقاوم، لا تزال قادرة على مواجهة الموت بالضحكات، وعندما يموت أحدهم يدفن نفسه بنفسه، ولا ينتظر الآخرين كي يشمتوا في شجاعته مرابطاً لا يريد أن يترك جدران الدار وحيدة.. أما أطفالها الذين تعودوا النوم هنيئاً باتوا ينامون تحت أصوات النيران وطلقات الهلاك، وعندما يستيقيظون صباحاً يعقدون حبلاً من آمال عِظام بأن في الغد فرج من الله قريب.. وأنهم لا يستحقون من الحياة إساءة.. وأبشرك بأنه لا يزال نسوة في الحي أحرار في هزأهم رغم ما أصاب جسومهم من ضعف حتى بدأن ضامرات لكن الروح لا زالت تتنفس.. وأُعلمك بأن طريقهن إلى (عباس) صاحب الدكان لم يعد ممهداً بسبب وشوم الفناء التي تحتضن الشارع المفروق، وأن مكايدتهن للرجل مستمرة رغم أنه قد مات منذ اليوم الأول للحرب.. أما كراسي شيوخ الحي فمستقرة أمام العتبات في انتظار أصحابها يعودون.. أما عمك جعفر فلا يزال يهرج بالتفاهات العذبة، ينادي كل شيء بغير اسمه طمعاً في تخليده.. رجل يحتقب الضحكة المشجعة على الفرح الأسيان، والسخرية من الخوف ذاته، وهو مستعد دائماً للأسوأ بأجمل ابتسامة. أخبرك بأنه يقريك السلام، وحتى لا ينالك لومه فأني متكفلٌ بكامل أتعاب المحبة أرسلها إليه نيابة عنك.. هل تعلم أبي منذ أيام أفكر في السر وراء قدرتك على مواجهة كل ضيق بسلاح بالتفاؤل.. كيف تفعلها..؟

المهم مر العام وأكثر على الحرب والتي رغم صمودي الأحمق في وجهها إلا أنني أُجبرت على ترك الديار خوفاً لا أكتمك.. نجاةً بما بقي فيني من صبابة لبلادي.. وارتحلت إلى بلاد فيها من بلادي الكثير، أناسها طيبون يا أبي يحبونني وأحبهم.. ولم أشعر بينهم أنني غريب الدار..

مدينتك أبي حزينة نعم، لكنها لم تمت.. متألمة فعلًا لكن سَمْرها المُسْكر يعيش، شوارعها خالية إلا من عبث الريح.. لكن مطرها المزعج يدبر أمراً ما.. يروي سكونها بالاستعداد للعيد المؤجل.. مدينتك أبي حُرة رغم القلوب الغليظة التي لم تعرف أن في الحياة شيءٌ اسمه عثمان حسين، وأن كابلي أو محمد وردي، والشيء الوحيد الذي كسبناه من هذه الحرب أن مدينتك قد تساوت فيها الطبقات، وأصاب الحزن كل سكانها، وأعرف أنه قد وصلك خبر موت محمد ميرغني ولعله بينكم لا يزال يحن إلى بحري ويطربكم بأجمل أغانيه «اشتقت ليك ساعة المساء فرد الجناح، لملم مصابيح النهار، والكون شِرب لون الجِراح، والعتمة نامت في الدروب، والليل لبس أجمل وشاح، في اللحظة ديك اشتقت واحتجت ليك»..

وحتى لا أنسى أخبرك بأن شارع الكنيسة رغم دماره إلا أن فيه سايمون لا يزال يتمرد على القبح صامداً في انتظار جرس الكنيسة يعود إلينا ويهنئنا بالمسيح الحي يهدي حواريه المحبة رغم الخيانة والنكوص.. أبي لا أطيل عليك ثق بأن مدينتك ستعود عفيّة كما عود الخيزران في حديقة جارنا إسحق.. وسيعود مسجدها ليجمع الناس يصلون لرب واحد يحميهم من شرور أنفسهم..

شيء أخير لا تنسى أن تدعو لنا بالرحمة في عالم مجنون.. وأنت هناك.. في وداعة الله أبي..

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لا یزال

إقرأ أيضاً:

خبراء: روسيا تعوض خسائر «كورسك» والحل الدبلوماسي لا يزال محتملاً

دينا محمود (لندن)

أخبار ذات صلة وفد إماراتي يشارك في المنتدى الإعلامي لـ«بريكس» في موسكو زيلينسكي يطلب من الغرب السماح بـ"تدمير" قواعد عسكرية روسية

وسط مؤشرات تفيد بإمكانية إعادة فتح باب التفاوض لتسوية الأزمة الأوكرانية بُعيد إعلان ألمانيا أن الوقت قد حان لإحلال السلام على صعيد هذا الملف، أكدت دوائر تحليلية أوروبية، أن العملية التي تشنها كييف في عمق الأراضي الروسية منذ مطلع الشهر الماضي، لم تقلل حتى الآن من ثقة موسكو في قدرتها على الحسم العسكري للصراع.
وشددت هذه الدوائر، على أن الكرملين لا يزال يرى أن بوسع روسيا تحقيق النصر، فيما أصبح يوصف بـ«حرب استنزاف» دائرة بينها وبين حكومة كييف، وذلك بعد قرابة خمسة أسابيع من انطلاق تلك العملية البرية في السادس من أغسطس، بتوغل مفاجئ في منطقة كورسك.
فبحسب محللين متخصصين في الشؤون الروسية، لا تبدو موسكو في عجلة من أمرها لطي صفحة المواجهة، حتى وإن كان التوغل الأوكراني في كورسك، يُمَثِل المرة الأولى، التي يجري فيها غزو أراضٍ روسية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
فرغم أن هذا التحرك العسكري، ربما يُشكِل إحراجاً للسلطات الروسية، استبعد المحللون أن يسبب ذلك التوغل مشكلات على الساحة السياسية في الداخل الروسي، كما كان يحسب مسؤولون أوكرانيون وغربيون.
فالمعارك المستمرة منذ أواخر فبراير 2022، باتت الآن بمثابة صراع يهم الروس بمختلف مشاربهم، بعد أن بدت في أول الأمر، مجرد مواجهة تعني الكرملين وحده.
ويتجسد ذلك، وفقاً للمحللين، في حقيقة أن الدعم المقدم للمجهود الحربي الروسي، من جانب سكان المناطق الواقعة على طول الحدود مع أوكرانيا والتي تعرضت لهجمات من جانب كييف مؤخراً، أصبح في ازدياد.
وتفيد تقديرات نشرتها صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية على موقعها الإلكتروني، بأن ذلك الدعم يزيد بنسبة تتراوح ما بين 10 و15% على المتوسط الوطني المُسجل في مختلف أنحاء روسيا، منذ اندلاع الأزمة.
ومن شأن هذه الأجواء، جعل مهمة السلطات الروسية في إقناع مواطنيها، بتحمل وطأة استمرار القتال لفترة أطول، أمراً أكثر سهولة.
ومن جهة أخرى، يشير خبراء عسكريون، إلى أن كبار المخططين الاستراتيجيين في موسكو، يرون أن بمقدورهم مواجهة ما حدث في كورسك، عبر تحقيق مكاسب ميدانية في منطقة دونباس الواقعة في الشرق الأوكراني، من دون إغلاق الأبواب في الوقت نفسه، أمام إجراء أي مفاوضات محتملة.
ويعتبر المتابعون لملف الأزمة الأوكرانية، أن المعطيات الراهنة، تعني أنه بات على الحلفاء الغربيين لحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي، الاستعداد لمواصلة تقديم الدعم لكييف لفترة طويلة، إذا تعثرت الجهود الحالية الرامية لمنح الدبلوماسية فرصة جديدة، لوضع حد للمعارك.

مقالات مشابهة

  • ناتشو يكشف كواليس قرار رحيله عن ريال مدريد
  • بقيادة فيرمينو .. تشكيل أهلي جدة أمام برسبلويس الإيراني في منافسات أبطال آسيا
  • دوري الأبطال.. القنوات الناقلة لمباراة أهلي جدة وبرسيبلويس الإيراني اليوم الاثنين
  • تشكيل أهلي جدة المتوقع لمواجهة برسبوليس الإيراني بدوري أبطال آسيا
  • عادل عصام الدين: يظل الهلال هو الهلال اللي يخوف ولا يزال متقدم ع الاتحاد .. فيديو
  • خبراء: روسيا تعوض خسائر «كورسك» والحل الدبلوماسي لا يزال محتملاً
  • المندوه: البعض لا يزال يعاند الزمالك.. ولنا حق في ملف بوبيندزا
  • NYT: بايدن لا يزال خائفا بشدة من توسع الحرب بين روسيا وأوكرانيا
  • فان دي بيك يعلق على على رحيله من مانشستر يونايتد
  • ماجد عبدالله: يجب رحيل كاسترو لكن رحيله في الوقت الحالي صعب .. فيديو