تأثير مبادئ ثورة ١٩ وانتماء محفوظ للوفد على نظرته للصحافة
تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT
الحكيم.. صبرى.. غانم.. بركة.. أدباء تناولوا صاحبة الجلالةاللص والكلاب.. الثلاثية.. القاهرة ٣٠.. صحافة النفوذ والثراء
كثيرة هى الروايات والكتب التى مرت بأروقة صاحبة الجلالة، منها ما دلف حيث الكواليس، وفض أسرارها، وكشف مكنوناتها، ومنها ما مر مرور الكرام دون توغل يذكر..
فهذا كتاب «صاحبة الجلالة» لتوفيق الحكيم، الذى ذاع صيته وكان أحد أكبر أسباب شهرة كاتبه.
وتلك رواية «الرجل الذى فقد ظله» لفتحى غانم، التى تحولت إلى فيلم للمخرج كمال الشيخ، وبدا فيها الصحفى شخصية انتهازية، بينما عبر موسى صبرى فى روايته «دموع صاحبة الجلالة» عن أجواء العمل الصحفى وأسراره وطقوسه التى خبرها لنصف قرن من الزمان، وتُصور مناخاً عاماً للصحافة المصرية منذ أوائل الأربعينيات حتى ثورة 23 يوليو وما بعدها، فيما تمثل رواية «الحب فى المنفى» لبهاء طاهر، مرحلة الغربة التى عاشها، بعد فصله من العمل فى الإذاعة المصرية فى منتصف السبعينيات.
بينما تتناول رواية «أشباح بروكسل» لمحمد بركة، رحلة الصحفى مكاوى، الذى يسافر إلى بروكسل فى مهمة عمل ويسيطر عليه شعور بأنه منفى فيتعامل مع المهمة على أنها عبء ثقيل ثم ينخرط فى رحلة أخرى فى نفس الوقت يفرضها واقع جديد أخذ يتشكل فى أوروبا وهى رحلة اللاجئين الذين بدأوا التوافد بطرق غير شرعية.
وتحكى «باب الخيمة» لمحمود الوردانى عن معاناة الصحفيين، حيث تناول الوردانى عالم الوكالات والمكاتب الصحفية وصحف الحكومة ويقترب من الباب الخلفى لعالم الصحافة.
على أن القليل من الروايات التى تناولت صاحبة الجلالة، استطاع أن يرسم صورة أقرب وأكثر واقعية لشخصية الصحفى نفسه.
ففى الواقع لا يمكن فصل صورة الصحفى عن الخطاب الأدبى، فالصحفى يعد انعكاساً قوياً لطبيعة المجتمع وتوجهاته وتطوراته ورؤاه السياسية والأخلاقية بشكل أكثر وضوحا وتكثيفا.
وقد أولى أديب نوبل، نجيب محفوظ، اهتماماً خاصاً بشخصية الصحفى، فقد حفل أدبه سواء فى رواياته أو قصصه القصيرة، بنموذج الصحفى الذى يعتبره محفوظ شخصية تكاد تكون رئيسية ومؤثرة فى تطور أحداث النص، فتتعدد صور الصحفى، إلا أن السائد منها فى أدب محفوظ، هو ذلك الصحفى الانتهازى المتطلع المنافق، وأحياناً كثيرة الذى يبيع كرامته فى سبيل الوصول لمنصب أو تحقيق ثراء.
وغالباً ما يصف محفوظ الصحفى والكاتب فى بداياته بالمتحمس والواعد، وما يؤكد انحياز محفوظ لأفكاره ومن يمثلها من شخوصه، أنه لم يفلت صحفى فى رواياته من الجانب السلبى إلا من استمروا مخلصين للوفد مثل عامر وجدى فى «ميرامار»، أو صاحب ورئيس تحرير مجلة «الإنسان الجديد» المفكر التقدمى عدلى كرم فى «السكرية»؛ ربما لأنه يمثل سلامة موسى صاحب ورئيس تحرير مجلة «المجلة الجديدة» التى كتب فيها محفوظ مقالاته الفلسفية الأولى.
كما أنه أحياناً يتعاطف مع النماذج الصحفية التى تعرضت للظلم فى عهد عبدالناصر.
فهل تلك الصورة السائدة تعد واقعية وانعكاساً فعلياً للواقع، أم أنها وقعت تحت تأثير الرؤية الشخصية لمحفوظ عن الصحفي؟
فى البداية، دعونا نتحدث عن نموذج الصحفى من واقع أعمال محفوظ ثم نستنتج إجابة سؤالنا بالتبعية.
** الصحفى المتطلع الحالم بالنفوذ والثراء:
ونرى عند محفوظ نماذج صحفية عدة من الحالمين بالثراء والساعين إلى النفوذ مثل رؤوف علوان فى «اللص والكلاب» وأنوار بدران فى «قشتمر» وعزيز صفوت فى «الباقى من الزمن ساعة» ومحمد بدران صاحب الموضوعات الدعائية التى يقبض ثمنها من الشركات وعلى السيد فى «ثرثرة فوق النيل».
ولنتحدث عن بعض النماذج فى بعض الروايات بشىء من الإيجاز:
*نموذج الصحفى فى اللص والكلاب:
مثلاً فى رواية «اللص والكلاب»، نرى بطلها رؤوف علوان قد دفعته الانتهازية والنفعية والأنانية إلى احتلال المناصب العليا فى أشهر الصحف الحكومية، وعن طريق الانتهازية صعد فوق قمة المجد والشهرة والثروة وانضم إلى فئة الأغنياء بعد أن كان بالأمس يهاجمهم بمقالاته الصحفية.
** رواية (القاهرة الجديدة):
وتتجلى بتلك الرواية ثلاث شخصيات كانت لها علاقة بالصحافة (أحمد بدير ومحجوب عبدالدايم وعلى طه)، من خلالهم يقدم محفوظ رؤيته لمهنة الصحفى، مُركزاً على شخصية «محجوب» الصحفى الانتهازى الذى يتجرد من مبادئه، ثم تفضيله طريقاً آخر مختصراً إلى الصعود المادى والاجتماعى، وهو أن يبيع شرفه مقابل وظيفة عندما يتزوج من عشيقة مرؤوسه.
**وفى الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، تظهر الصحافة وحياة بعض الصحفيين قوية وحاضرة، وأول تناول لها نراه فى نشر كمال أحمد عبدالجواد مقالاً فى جريدة «البلاغ الأسبوعى»، وفى الحوارات الكثيرة بين كمال وأصدقائه، وفى «السكرية» نرى تبيان صورة مهنة الصحافة عام 1941 خاصة لدى البرجوازية التركية القديمة، ليصل المؤلف إلى أن صورة الصحفى الاشتراكى فى أدب نجيب محفوظ مستمرة ملامحها حتى الآن.
وفى الواقع فإن هناك أكثر من كتاب مهم تناول تلك التيمة لدى محفوظ، أهمها وأكثرها رصداً كتاب الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، بعنوان «الصحفى فى أدب نجيب محفوظ»، يدرس المؤلف من خلاله صورة الصحفى فى جميع أعمال نجيب محفوظ من روايات وقصص قصيرة.
ويرى المؤلف أن النماذج الصحفية فى أدب نجيب محفوظ – التى لا تزال حية حتى الآن – لا تخبرنا فقط عن خواص زمنية بالمهنة وقت كتابة الرواية أو القصة، بل تتجاوز ذلك عبر الزمن، ألا وهى الثقافة، وهو ما جعل نقاد وباحثى أدب نجيب محفوظ يرون مثلاً أن بعض نماذج رواية «المرايا»– التى نشرها عام 1971 تعبر عن شخصيات شغلت حيزاً كبيراً من القرن العشرين– ولا تزال نماذجها تعيش بيننا حتى الآن رغم مرور أكثر من نصف قرن على كتابة الرواية، فالعناصر الثقافية شبه الثابتة التى رصدها نجيب محفوظ بعبقريته وموهبته هى إفراز لخصوصية الخطاب الأدبى الراقى.
وفى تصورى (يقول المؤلف) إن «نماذج شخصية الصحفى التى أبدعها نجيب محفوظ، لا سيما بعد «أولاد حارتنا» ما زالت تعيش بيننا ومؤثرة فى صنع حاضرنا ومستقبلنا».
* علاقة محفوظ بالصحفيين:
والغريب أنه رغم إيراد محفوظ لنماذج صحفية سلبية فى قصصه ورواياته، إلا أنه كانت له علاقات طيبة بالصحفيين وله صداقات شهيرة مع العديد منهم، مثل رجاء النقاش ومحمد عفيفى وصلاح جاهين ويوسف القعيد وجمال الغيطانى وإبراهيم عبدالعزيز وغيرهم.
إلا أن الفكرة الأساسية عند محفوظ هى جرأته الصادمة فى تناول الشخصيات والنماذج التى يعرفها، لأنه يستقى منها شخصيات قصصه ورواياته، وكل من درج فى حارته كان له نصيب فى أدبه، كما أن كل من صادفهم فى الوظيفة الحكومية وجدوا أنفسهم فيما بعد فى أعماله، وأيضاً من الوسط الصحفى أخذ نماذج من الواقع الذى عاشه والشخصيات الصحفية التى صادفها.
** موسوعة نجيب محفوظ:
أما ما يراه الناقد الكبير وعاشق محفوظ مصطفى بيومى فى موسوعته ويمكن استنتاجه، أن وراء المصير المأساوى أو الحكم العنيف ضد زملاء المهنة هو الموقف السياسى لمحفوظ نفسه، فهو يرى الصحفى فى كل قصصه ورواياته ضمن منظوره لقيمة وأهمية ثورة 1919 وحزب الوفد. التى أثرت بشكل كبير فى توجهاته وأفكاره ومواقفه، بدءاً بوفديته وانتمائه لليبرالية اليسارية داخل الوفد ثم موقفه تجاه ثورة يوليو وإيمانه بمبادئها وكفره بسياساتها، وصدمته فى النكسة وفخره بالنصر، وموقفه تجاه السلام مع إسرائيل وغيرها.
فى النهاية نخلص إلى أن نماذج شخصية الصحفى التى أبدعها محفوظ لا سيما بعد رواية «أولاد حارتنا» ما زالت تعيش بيننا وتؤثر فى صنع حاضرنا ومستقبلنا، ولذا اتخذ واعتمد فى دراسته على تحليل صفات وأدوار الصحفيين وتطور ذلك عبر مراحل أدبه المختلفة، زمنياً وتقنياً، مازجاً ذلك برؤيته الشخصية تجاه مهنة الصحافة التى رفض الالتحاق بها لأنها ستلتهم جل وقته وقد تصبح حائلا بينه وبين الإبداع.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: صاحبة الجلالة قرن من الزمان للصحافة المصرية باب الخيمة أدب نجیب محفوظ صاحبة الجلالة الصحفى فى فى أدب
إقرأ أيضاً:
عبقرية سعد!!
قلنا فى الأسبوع الماضى، إن ذكرى عيد الجهاد قد تركت لنا دروسًا لا يمكنُ أن تُنسى أو تُمحى أبد الدهر، مثل ظهور فكرة الوطنية المصرية الجامعة، وأن الوفد فكرة غير قابلة للتكرار ولايمكن أن تنجح محاولات استنساخها، وأن ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول نجحت فى تصحيح أخطاء الثورات السابقة، وأنها حققت إنجازًا كبيرًا للمرأة المصرية التى خرجت من حصارها إلى المجتمع الرحب تعمل وتنتج وتناقش وتشارك وتثور، واخيرًا عرفنا أن سعدًا كان زعيمًا لا يتكرر، فقد انحاز للشعب فانحاز الشعب له.
ولكن من ضمن عبقريات هذه المرحلة، هو تجاوزها لكل معوقات الاتصال ونجاحها فى الوصول لكل المصريين بسهولة منقطعة النظير.
قطعًا.. تستطيع أنت الآن خلال جلوسك فى منزلك، أن تقرأ معلومات كثيرة عن أسباب انطلاق ثورة 1919، سوف تعرف تفاصيل دقيقة اجتهد غيرك فى الحصول عليها من خلال الوثائق التى تسجل يوميات الثورة، من خلال مستندات أو كتب راقب أصحابها الأحداث عن كثب، وكانوا شهود عيان على الثورة الأم، وبروز اسم زعيمها الأول سعد زغلول، الذى دارت حوله الأساطير فى زمن لم يعرف وسائل الاتصال الحالية، ولم يعرف سرعة التواصل مع الجماهير عبر الإنترنت أو التليفزيون أو حتى الإذاعة التى لم تظهر إلا بعد اندلاع الثورة بسنوات!
كان الوقت الذى ظهر فيه سعد، وقتًا يبحث فيه الناس عن زعيم يخلصهم من الاحتلال، وقائد يثقون فيه ولا يندمون على أتباعه، فكان سعد الذى هزم كل وسائل الاتصال، فلم تكن جماهيره تمتلك هاتفًا محمولًا، ولم تعرف سوى نقل المعلومة بطريق مباشر من شخص إلى آخر، وكانت الصحف المطبوعة هى أقصى قدرات عالم الاتصالات فى بلد كانت الأمية تسيطر على نسبة كبيرة من أبنائه، فكان المتعلمون ينقلون المعلومة بأنفسهم لمن هم دون القدرة على القراءة، ورغم ذلك تمكن سعد زغلول من صنع أسطورة لا تتكرر بسهولة، ومن ضمن الأساطير التى اقترنت باسم سعد، ما قيل حول تأكيده عدم جدوى مقاومة الاحتلال، وهى قصة غير حقيقية، روجها الإنجليز وأعداء الثورة، للنيل من سعد وثورته، وحزبه! فقد كان الاحتلال يعلم أن أى كلمة تخرج من فم سعد.. يصدقها الناس.. فاستغلوا جملة قالها وقاموا بترويجها لنشر الإحباط بين الناس!!
إذن ما هى القصة الحقيقية لانطلاق هذه المقولة؟ الحقيقة أن سعد زغلول لم يكن رجلًا يائسًا بل كان مناضلًا لا يتوقف عن الكفاح من أجل وطنه وحريته ولذلك لا نجد صحة المقولة التى يرددها المصريون على لسانه عندما قال «مفيش فايدة» فهى دعوة لليأس لم يطلقها سعد من أجل العمل الوطنى ولكنه كان يقصد أن حياته انتهت بعدما سيطر عليه المرض، فقد اشتد عليه وبات على يقين بأنه هالك لا محالة فقال لزوجته صفية زغلول وهى تحاول إعطاءه الدواء، مفيش فايدة، وتناقلها المصريون على أنه يعنى أن الإنجليز لن يخرجوا من مصر، فقد كانت مقولة سعد يتم تداولها بسرعة البرق وساعد الإنجليز على تدعيم فكرة نشر المعنى السلبى للمقولة ولكن سعد لم يكن يقصد إلا نفسه وقد مات فعلًا بعدها بأيام ليبقى رمزًا وطنيًا علم الناس معنى الثورة حتى أنه أصبح نموذجًا للثائر المصرى الذى لا تموت ذكراه مع جسده، بل ظل علامة فى التاريخ والوجدان والذاكرة المصرية.
كان سعد أستاذا للثورة بمفهومها الواسع، ثورة ضد الظلم، وضد الفقر، وفى مواجهة الجهل، باقتصاد قوى ومؤسسات علمية راسخة وحريات لا تتوقف إلا عندما تصطدم بحقوق الآخرين، وكان يهدف من وراء الثورة عملًا ومستقبلًا لا يهتز، وتماسكًا وطنيًا لا يصاب بشرخ، ويدًا تبنى لا تهتز، فهو أستاذ الثورة وعلمها ونموذجها الأكثر شهرة وبقاءً فى وطن عرف الثورة بعده بما يقرب من مائة عام!
سعد زغلول، قيادة نادرة، تمكن من تعليم الشباب كيف يثورون على الظلم والطغيان، وكيف يقولون للسلطان الذى أصبح ملكًا، ويقولون للاحتلال الذى استغل موارد البلاد، نحن أصحاب البلد، أو كما قال لهم يومًا: «إنكم أنبل الوارثين لأقدم مدنية فى العالم وقد حلفتم أن تعيشوا أحرارًا أو تموتوا كرامًا»، كان يقوم بتدريس الحرية فى كل كلمة، فكان أستاذًا لمنهج جديد يدق باب الوطن اسمه «الليبرالية» فكان نتاج هذه المرحلة ظهور قيادات تاريخية فى الاقتصاد فكانت شخصية أحمد عبود باشا وطلعت حرب الاقتصادى العظيم، وقيادات تاريخية فى الفن مثل سيد درويش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ونجيب الريحانى، وأسماء لا تنُسى فى السياسة والأدب والعلوم!
لابد أن تقرأ تاريخ الوفد لتعرف أنه تأسس على يد زعيم عظيم، وأن زعيمه عرفه الناس بوسائل اتصال بدائية، واستمر لمدة مائة عام قائمًا ومستمرًا وثابتًا لأنه حفر اسمه فى كتب التاريخ، ولذلك سيبقى -بأبنائه المؤمنين بأفكاره المتشبعين بمبادئه- حزبًا معبرًا عن أمة تستحق أن تعيش وبلدًا يجب أن يكون فى المقدمة!