أصوات وظلال لشخصيات منسية من قاع مجتمع يتخلص من أزماته

لا شك أن الحروب التي ضربت أوروبا بشكل خاص كانت ولا تزال من الموضوعات المفضلة التي تصدت لها العديد من الأفلام السينمائية وخاصة أجواء الحرب العالمية الثانية وآثارها وتبعاتها الاجتماعية إذ ما زلنا نشاهد المزيد من الأفلام التي تحكي قصصا من أجواء تلك الحرب الكارثية.

وفي هذا الإطار تنوّعت المعالجات السينمائية لهذا النوع الفيلمي، فهنالك أفلام جسدت وقائع ويوميات الصراع العنيف بين القوى المتحاربة وبشكل مباشر وبما في ذلك المعارك الطاحنة التي شهدتها العواصم والمدن الأوروبية ومنها معارك دونكريك وستالينينغراد ولندن وبيرل هاربر وكراكوف وبرلين وغيرها بينما عالجت أفلام أخرى أحداثا ووقائع اجتماعية تحت ظل الحرب أو بعدها وكيف انعكست آثار الحرب على المجتمع وعلى الأفراد وعلى سلوكياتهم والقصص واليوميات التي عاشوها.

ينتمي الفيلم للمخرجة باولا كورتيليسي إلى النوع الثاني الذي ذكرناه آنفا، فهذا الفيلم الذي تم تصويره بالكامل بالأبيض والأسود يحكي يوميات عائلات تعيش في روما بعيد الحرب العالمية الثانية وتحديدا منتصف عام 1946 ويبدو أن اختيار المخرجة التصوير بالأبيض والأسود كان هدفه هو تقريب الأحداث من ذائقة المشاهد وكأنه كان يعيشها كما هي في وقت وقوعها.

ولعل المسألة الأخرى الملفتة للنظر في هذا الفيلم هو إقدام الممثلة باولا كورتيليسي بالإخراج وهي التي عرفها الجمهور في إيطاليا وأوروبا من خلال ظهورها في أكثر من 20 فيلما، لتقدم لنا فيلمها الروائي الطويل الأول من إخراجها وليحظى بنجاح ملفت للنظر في شباك التذاكر في إيطاليا ويحصد عدة جوائز من مهرجان روما السينمائي فضلا عن عرضه في العديد من المهرجانات من حول العالم فضلا عن اهتمام النقاد وإشادتهم به.

ها نحن مع ديليا وهي الممثلة الرئيسية والمخرجة، في وسط أسرتها المكونة من ولدين صغيرين وفتاة في سن المراهقة بالإضافة لزوجها ووالد زوجها المقعد لكننا ومنذ المشاهد الأولى سوف نكون مع ظاهرة التعنيف والإيذاء التي تتعرض لها الزوجة على يدي الزوج ولو من أبسط خطأ وكلما أمعن الزوج ايفانو – يقوم بالدور الممثل فاليريو ماستندريا، في تعنيف ديليا كلما أرجع ذلك إلى تأثيرات الحرب على نفسيته، حيث كان جنديا فيها.

لكن معالجة المخرجة للأحداث لم تكن بتلك الصورة القاسية بل إنها لجأت إلى تغليفها بغطاء سردي كوميدي مختلف إذ كان من الطريف أنه كلما أقدم الزوج على تعنيف زوجته ما يلبث أن يقوم بمراقصتها بينما هي كائن مسلوب الإرادة ليس لها سوى التضحية من أجل أبنائها.

يتابع الفيلم يوميات شخصيات آذتها الحرب بشكل أو بآخر فضلا عن طبقية سادت المجتمع وعمقت الفقر وكل هذه المعطيات تم الاشتغال عليها من خلال شخصية ديليا المضطهدة مسلوبة الإرادة التي تتحمل غلظة الزوج وترعى له والده وترعى ثلاثة أبناء وتعمل طيلة النهار متنقلة من عمل إلى عمل.

في المقابل هنالك خط سردي مواز يتمثل في وجود الجنود الأمريكان وحيث يتطوع أحدهم لتلبية رغبة ديليا بتعطيل المقهى الذي كان الزوج يطمع في الاستفادة منه ماديا في مقابل تزويج ابنته لابن صاحب المقهى وذلك في سلسلة مشاهد قلبت الأوضاع رأسا على عقب وصار العقاب الذي يتلقاه الزوج يأتيه من حيث لا يدري.

هذه الدراما الفيلمية التي محورها المرأة تتشعب بنا إلى مسألة التمييز الجندري واضطهاد المرأة من خلال شخصية ديليا وابنتها وهو ما سوف يتصاعد تدريجيا إلى درجة سعيها للهرب من المنزل وكل ذلك والمجتمع الإيطالي يخرج تدريجيا من شرنقة الحرب ليدشن أول انتخابات عامة وانتخابات تشريعية سنة 1946 وحيث تتمرد ديليا وتنظم لطوابير النسوة الإيطاليات اللائي يدلين بأصواتهن للمرة الأولى وذلك في سلسلة مشاهد مصنوعة بعناية وبشكل ملفت للنظر.

تلقى الفيلم انطباعات إيجابية من طرف عدد من نقاد السينما الإيطاليين والأوروبيين، فقد أشادوا بالإخراج والسيناريو خاصة في معالجة القضايا المتعلقة بالأنثوية والذكورية، فضلا عن مهارات التمثيل لدى الممثلين، وخاصة كورتيليسي نفسها، وفاليريو ماستاندريا، ورومانا ماجيورا فيرغانو.

وفي هذا الصدد كتب باولو ميريغيتي، في مراجعته للفيلم في صحيفة إل كورييري ديلا سيرا الإيطالية، أن عمل كورتيليسي "متميز للغاية" حيث تحاول من خلال حلولها الإخراجية "إيجاد توازن موضوعي بين ما هو واقعي وآخر أكثر مثالية وتعبيرا عن نزعة التمرد ضد تابوهات المجتمع التقليدي".

أما الناقد بوريس سولازو من هوليوود ريبورتر فيعرض كفاءة المخرجة في التقاط " المواقف الأكثر تطرفا وعنفا، وخاصة تلك التي تجلت من خلالها شخصية الزوج ايفانو، حيث تحققت المفارقة التامة ما بين الشخصيات المتضادة وخاصة ديليا وايفانو وهما يعودان لبعضهما بعد كل جولة صراع.

على أن تلك المساحة العريضة التي أعطيت لديليا ما تلبث أن تكافئها مساحة مقابلة لوالد الزوج الذي يعبر عن عقلية تقليدية داعيا لزواج أبناء وبنات العمومة ثم ظهوره في مشهد خطوبة حفيدته وكل ذلك في إطار ساخر حرصت قيه المخرجة على بث تلك المشاهد للحد من رتابة وقتامة المشهد.

في المقابل أعطيت مساحة إنسانية شفافة لتلك العلاقة التي تربط ما بين ديليا وصديق فتوتها وشبابها نينو – يقوم بالدور الممثل فينسيو مارتشيوني وهو الذي يدفعها إلى التمرد على الواقع الذي تعيشه.

وأما على صعيد الإيقاع الفيلمي، فالملاحظ أن المخرجة قد وظفت التصوير والمونتاج لتحقيق إيقاع موضوعي هادئ توالت فيه الحبكات الثانوية بما وفر متعة في المشاهدة مبنية على أسس واقعية، فلم يتم تضخيم دور ديليا ولا تحولها إلى رمز للكفاح الجندري بل بقيت ذلك الكائن المسالم الذي يتلقى الأذى بصمت في مقابل ملامسة هادئة لغرض إصلاح الحطام الذي ينتشر حولها.

وأما إذا انتقلنا إلى شخصية ايفانو، التي تختصر العنف الجندري بشكل مقيت فإنه عبر عن واقع تلك الشخصيات القادمة من قاع الحرب فيما هي عاجزة عن فعل شيء ذي قيم سوى ترهيب العائلة وإيذائها والتعامل بأنانية مفرطة معها وخلال ذلك هنالك شخصيات مطواعة ترتضي أن يقع عليها كل ذلك الثقل المفرط من التعنيف والاستخفاف.

من جهة أخرى هنالك هامش من السخرية تغلف أكثر المشاهد تصعيدا دراميا، فلا شيء يجب بالضرورة أن يحمل على محمل الجد ما دام غير متزن وغير موضوعي وزائل ولهذا كانت تلك السخرية حلا إخراجيا بديلا آخر وظفته المخرجة بشكل متميز بالإضافة إلى توظيفها الناجح للتصوير بالأبيض والأسود وتوظيف اللقطات العامة بشكل مقنع فضلا عن توظيف المونتاج ليعزز ذلك البناء البصري -الذي جاء محملا بوفرة من الرسائل الجمالية- لم يضعف منها شيئا إنها قد صنعت بالأبيض والأسود.

إخراج/ باولا كورتيليسي

تمثيل/ باولا كورتيليسي- ديليا، فاليريو ماستندريا – ايفانو ، رومانا ماغيورا- مارسيلا، فينيسو مارتشوني- نينو، ايمانويلا فينالي – ماريسا

سيناريو/ باولا كورتيليسي، فيوريو اندريوتي

مدير التصوير/ ديفيد ليون

التقييمات/ بليكس 10من 10، روتين توماتو 98%، أي ام دي بي 8 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بالأبیض والأسود فضلا عن من خلال

إقرأ أيضاً:

ابراهيم في ذكرى غياب المطران اندره حداد: نكرّمه كمن لا يزال حيًّا بيننا

ترأس راعي أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع للروم الملكيين الكاثوليك المطران ابراهيم مخايل ابراهيم، اليوم الاحد، قداساً وجنازاً في الذكرى السابعة لرحيل المطران اندره حداد، في كاتدرائية سيدة النجاة في زحلة.     شارك في القداس، النائب الأسقفي العام الأرشمندريت نقولا حكيم والأرشمندريت عبدالله عاصي، وبحضور ابن شقيق المطران الراحل روبير حداد ووفد من العائلة حضر من بلدة روم الجنوبية، رئيس بلدية زحلة-المعلقة وتعنايل المهندس اسعد زغيب، رئيس تجمع الصناعيين في البقاع نقولا ابو فيصل، رئيس جمعية تجار زحلة زياد سعادة، الصناعي جان اسطفان، المهندس وسيم رياشي، رجل الأعمال نقولا السروجي، وعدد كبير ممن عملوا مع المطران الراحل وحشد من المؤمنين. وقال المطران ابراهيم في عظته: "نجتمع اليوم حول مذبح الرب في أحد الأجداد المُهيأ لعيد الميلاد المجيد وعندنا ذكرى غالية على قلوبنا، ألا وهي الذكرى السابعة لرحيل سيادة المطران أندره حداد، الرابع عشر في سلسلة مطارنة أبرشية الفرزل وزحلة والبقاع منذ عام 1724. نُحيي ذكراه ليس كواجب أو كفرض فقط، بل كفعل إيمان ووفاء لرجل عاش الإنجيل في أصعب الظروف، وأعطى حياته قربانًا من أجل رعيته، فأضحى رمزًا حيًّا للشجاعة والالتزام والمحبة".

أضاف: "المطران أندره حداد لم يكن مجرد أسقف حمل عصا الرعاية في ظروف طبيعية، بل كان راعيًا في عين العاصفة، تسلَّم أبرشيته في أحلك أيام لبنان، وسط الحرب والانقسامات والدمار. الله وحده يعلم الصعوبات الجمة التي واجهت هذا الأسقف المميز. ومع ذلك، حمل الصليب دون تردد، وخدم دون ملل، وحمى شعبه دون أن يهاب الخطر. كان المطران أندره حداد مثالاً حيًّا للراعي الذي يواجه عندما يرى الخطر. فعندما كانت زحلة تحت نيران الحصار والقصف، كان هو الحصن المنيع الذي احتمى به أبناؤها. لم يكن ينام الليل، بل كان يسهر على أمن المدينة والرعية، مُحافظاً على الأرض والحضور المسيحي في زحلة والبقاع. تَحقيقُ هذا الهدف النبيل دفعه لقبول أصعب التحديات على الأطلاق، ألا وهو مد الجسور مع بعض من لا يستحقون المصافحة أو المجالسة، لكنه أرغم نفسه على فِعل ذلك من أجل الحفاظ على زحلة والبقاع. ظلمَ المطران أندره نفسَهُ ليُنصف الآخرين ويحمي أبناءه وأبرشيته. في نهاية المطاف، حكمة المطران اندره هي التي انتصرت وحكم الطغاة هو الذي انكسر. وقد أتم المطران اندره وعده الذي قطعه على نفسه حينما قال في خطاب الأسقفية: "سأسعى بمعونة الله أن أكون راعياً أمينًا على الدور والتراث". هذا هو مصير كل أسقف يضحي بنفسه في سبيل العدل والشفافية. إنه لشرف كبير لي أن استلهم سيرةَ هذا القائد الروحي والوطني المقدام".

وتابع: "في زمن كثر فيه الاضطراب، كان المطران أندره رجل السلام. لم يسعَ إلى تحقيق السلام بالكلام فقط، بل بالأفعال الجريئة، وبالانفتاح على الجميع دون تمييز. كانت علاقاته مع كل الأطراف، من مسيحيين ومسلمين، من القوى السياسية والفعاليات الاجتماعية، جسورًا من التفاهم والمحبة، هدفها حماية الإنسان وكرامته. لقد آمن أن الكنيسة هي بيت الجميع، وأن الراعي الحقيقي هو من يحمل هموم الناس كافة. وقف في وجه الظلم والخطف والتعديات، وتدخل مرارًا لإنقاذ المظلومين والمختطفين، غير مبالٍ بالمخاطر التي تهدد حياته. قال: "البطولة ليست في أن يموت الإنسان سدى، بل هي في أن يبقى في أرضه ويحافظ عليها. المطران أندره لم يكتفِ بدور الراعي الروحي فقط، بل كان بنّاءً ومُجدِّدًا. شهدت الأبرشية في عهده ورشة بناء لم تتوقف: كنائس ترممت، قاعات أُنشئت، مدارس افتُتحت، ومؤسسات رعوية واجتماعية ازدهرت. كان يرى في كل حجر يبنيه إحياءً للرجاء، وفي كل مؤسسة يُقيمها دعامةً لصمود الإيمان. لقد أعطى الشباب مكانة خاصة، فلقب بـمطران الشباب. فتح أبواب المطرانية أمامهم، واحتضن طموحاتهم، ونظّم لهم الأنشطة واللقاءات، مؤمنًا أن الشباب هم مستقبل الكنيسة والوطن".

وقال: "إننا إذ نحيي ذكرى هذا الراعي الصالح، لا نرثيه كمن فقدناه، بل نكرّمه كمن لا يزال حيًّا بيننا. إن إرثه باقٍ في كل حجر رفعه، في كل قلب أحبّه، وفي كل نفس أنقذها من الخوف واليأس. إن المطران أندره حداد هو شاهد حيٌّ على أن الإيمان الحقيقي يُختبر في المحن، وأن المحبة المسيحية لا تعرف حدودًا، وأن الراعي الصالح لا يتخلّى عن قطيعه أبدًا. فلنكن على مثاله أمناء لدعوتنا، ثابتين في إيماننا، متمسّكين بأرضنا وكنيستنا. ولندعُ الرب أن يُقيم في كنيسته رعاة أمناء، يحملون صليب الخدمة كما حمله المطران أندره، ويمشون بشجاعة على درب المسيح".

وختم: "في هذا القداس الإلهي، وبحضور العزيز روبير حداد ابن المرحوم جرجي عجاج حداد "أبو عجاج" الذي انتقل مؤخرا ليكون في الملكوت مع سيدنا اندره ومن سبقوه الى السماء من أفراد العائلة الفاضلة التي قدمت للكنيسة والوطن عظماء. نرفع صلاتنا من أجل راحة نفوسهم، واثقين بأنهم في حضرة الرب الذي خدموه بإخلاص. "طوبى لمن اختارهم الرب وقبلهم، فإنهم في ملكوت السماوات إلى الأبد. آمين".

وفي نهاية القداس أقيمت صلاة النياحة لراحة نفس المطران حداد وانتقل الحضور الى قاعة المطران اندره حداد حيث تقبلت العائلة والمطران ابراهيم التعازي من الحضور.

مقالات مشابهة

  • المطران عطا الله حنا: يجب أن تتوقف الحرب التي يدفع فاتورتها المدنيين الأبرياء
  • استجابة لدعوة إيطالية: الصديق الصور يناقش ملف المحكومين الليبيين في إيطاليا
  • كوفيد طويل الأمد لا يزال يعطّل حياة الكثيرين
  • مقتل الفلسطيني خالد نبهان.. الجد الذي أبكى العالم أثناء وداع حفيدته "روح الروح"
  • جرافات إسرائيلية تهدم 6 منازل شمال القدس
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • ابراهيم في ذكرى غياب المطران اندره حداد: نكرّمه كمن لا يزال حيًّا بيننا
  • الزمالك بالأبيض والمصري بالأخضر في مواجهة الكونفدرالية
  • الزمالك بالأبيض الكامل أمام المصري البورسعيدي في الكونفدرالية
  • "دراما شيلڤ" تُطلق "المهرج" على شاهد قريبًا