بوابة الوفد:
2024-11-08@03:18:16 GMT

«نجيب محفوظ».. حياً

تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT

أخبرنى نادل مقهى الفيشاوى العجوز الذى كان يقوم على تلبية طلباته وخدمة مريديه بأنه يظهر فى المقهى مرتين منذ رحيله عن عالمنا فى 30 أغسطس 2006، ثم اقترب منى متفرساً فى وجهى صائحاً: عرفتك يا بنتى، أنت من جالسته طوال نهار مولده فى ديسمبر العام الماضى، ورأيتك تبكين أمامه، ممسكة بكتابه «أصداء السيرة الذاتية» وهو يستمع إليك باهتمام وأنت تقرأين عليه رؤى شيخه التائة عبدربه، مرتباً على كتفك كلما فاضت دموعك وكثرت حركات يديك فى الهواء.

ثم صمت لبرهة وقال: تحدثوا فى المقهى أيام عما كتبته فى جريدة «الوفد» حينها بعنوان «نجيب محفوظ الذى أعرفه»، شكرته ببضع كلمات وقلت: هل نهار رحيله هو ظهوره الثانى فى المقهى؟ فأجاب بنعم، ثم بصوت هامس لا يريد أن يسمعه أحد غيرى قال: لكن لا يظهر إلا لمن يريد، ليس كل من بالمقهى يشعر بوجوده.

نكست رأسى وانصرفت أجلس على نفس الطاولة التى جاورته فيها فى ديسمبر العام الماضى، مرت الساعات وأنا أتلفت حولى وأطيل النظر فى الممر الطويل الذى يعج بالمارة والسائحين ويوصل لباحة المقهى من ناحية مسجد سيدنا الحسين.

بدأت خيوط شمس المغيب تتسلل إلى طاولتى لتعكس على زجاج أكواب الشاى وفناجين القهوة المستهلكة لوناً برتقالياً خافتاً يدعو إلى التأمل والسكون.

وبينما أنا فى حالة من الغفوة والأنتباة من طول الانتظار، هيئ لى أنه قادم بهيئته القديمة الممتلئة، وبذلته الرمادية الشهيرة، ممسكاً بكتابه الأخير «أحلام فترة النقاهة»، ابتسم حين لمحنى، ثم اقترب وجلس فى الطرف المقابل من طاولتى، طال الصمت بيننا، ثم ثحدث كمن يحدث شخصاً أمامه بصوته الأبوى الهادئ: إن الموت غاية كل حى، وإذا ألقينا بنظرة إلى الوراء قلنا: إن الميت قد وُجد قبل الحى.

وأضاف: قبل رحيلى عن هذا العالم، ومع تقدمى فى العمر وموت كثير من الأصدقاء وصعوبة الحركة بعد حادث الاعتداء علىَّ عام 1994 لم يعد أمامى يا بنتى عزاء إلا فى «أحلام فترة النقاهة».

أنصت فى إكبار لشيخنا الروائى الكبير «نجيب محفوظ» وتذكرت قوله فى أصداء سيرته الذاتية: كان‏ ‏الموت‏ ‏ما زال‏ ‏جديداً‏، ‏لا‏ ‏عهد‏ ‏لى ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابراً‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏بالمأثور‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏أنه‏ ‏حتماً‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏منه‏، ‏أما‏ ‏عن‏ ‏شعورى ‏الحقيقى ‏فكان‏ ‏يراه‏ ‏بعيداً‏ ‏بعد‏ ‏السماء‏ ‏عن‏ ‏الأرض.

ثم تذكرت فى روايته «قشتمر» يقول أحد الصغار: «نينة قالت لى إننا كلنا سنموت». ويعقِّب الراوى قائلاً: «لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس فى قوله جديد فى ما يبدو ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتم مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نسلِّم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمى به إلى موضع فى الزمان قصى».

أما عبارته النافذة: «الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة» من روايته المربكة «أولاد حارتنا» فشتت ذهنى لثوانٍ قبل أن أعود وأنتبهة لتوافد الجمع إلى الطاولة، لمحت من بين عشاق شيخنا «نجيب محفوظ» من البسطاء شلته «الحرافيش» كما أسماها وتضم راحلون وأحياء: المخرج توفيق صالح والكاتب الروائى ثروت أباظة والكاتب الصحفى محمد عفيفى والفنان أحمد مظهر ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان والفنان التشكيلى توفيق شفيق والطبيب يحيى الرخاوى والكاتب عادل كامل.

وقد كانت هذه المجموعة نسجت صداقة «بنجيب محفوظ» امتدت على مدار سنوات طوال، وضمت عدد من الكتاب والفنانين التشكيليين يجتمعون بشكل دائم فى المقاهى حيث يتبادلون أحاديث الثقافة والأدب والفن.

حينما هدأت ضجة الوافدين من حول كاتبنا وشيخنا الكبير «نجيب محفوظ» قال: سأختار من دون ترتيب حلم من أحلام مخطوطى «أحلام فترة النقاهة»، ثم شق صفحات الكتاب ووضع يده على صفحة بعينها، ثم بدأ يقرأ حلمه الخامس قائلاً: حلمت أننى أسير على غير هدى وبلا هدف، ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطُر لى فى خاطرى، فصرت كلما وضعت قدمى فى شارعٍ انقلب الشارع سيركاً.

اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلَّ محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.

سكت «نجيب محفوظ» ومال برأسه إلى حائط المقهى، بينما ساد الصمت الجميع، وبدأ المتحلقون حوله يغمضون أعينهم، ليحلم كل ضيف بسيرك حياته، فأتبعتهم فى استسلام وأغمضت عينى. 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نجيب محفوظ الوفد نجیب محفوظ

إقرأ أيضاً:

أحلام مستغانمي: حاكم الشارقة فارس انبرى لإنقاذ ذاكرة إرثنا الحضاري

ألقت الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي كلمة بمناسبة تكريمها بشخصية العام الثقافية لهذه الدورة من المعرض قدمت فيها شكرها وامتنانها إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، والشيخة بدور بنت سلطان القاسمي رئيسة مجلس إدارة هيئة الشارقة للكتاب، على هذا التكريم، مشيدةً في كلمتها بالأدوار الكبيرة التي تقوم بها إمارة الشارقة بقيادة سموه في نشر العلم والمعرفة والاحتفاء بالكتاب والعلماء والمثقفين، مما فتح أبواب الأمل واسعة أمامهم لمزيد من الإبداع والإنتاج الأدبي والمعرفي بلا حدود.
وتناولت مستغانمي بدايات حضورها إلى الشارقة وتعرفها إلى بيئتها المعرفية والثقافية المتكاملة، مشيدةً بما تعمل عليه الإمارة الباسمة من ترحيب وتكريم لكل من يحمل القلم ويكتب، وما تقدمه من معاني الأصالة والعروبة والثقافة، قائلةً: قبل عقدين من الزمان وصلت لأول مرة إلى الشارقة بزي غربي لحضور معرض الكتاب، ثم صليت في مساجدها، وخبرت طمأنينة بيوتها وطيبة أهلها وبساطتهم أياً كان مقامهم، ومن يومها وقعت في حب الشارقة، وما عدت إليها إلا مرتديةً عباءتي إجلالاً لمقامها، لقد بلغت من الحبر عمراً لا وقت لي فيه إلا لقول ما في القلب، ومن القلب أقول: أحبكم.
وأشادت بالأدوار العظيمة التي يعمل عليها صاحب السمو حاكم الشارقة في مجالات اللغة العربية والتاريخ وحفظ التراث العربي، وأهميتها، قائلةً: لا أعرف كيف أحب هذه الأرض الطيبة من دون أن أضاهيها أصالةً ولذا جئتكم على هودج عروبتي، شاهرةً ذاكرتي، بعباءة تزينها أبجدية عربية، فأنا في حضرة من نذر جهده وماله لإهداء لغة القرآن الكريم ذلك الإنجاز المذهل، وهو المعجم التاريخي للغة العربية. على كل ناطق بالعربية ومحب لها أن يعلم أن فارساً انبرى للدفاع عنها ب127 مجلداً لإنقاذ ذاكرة إرثنا اللغوي والحضاري.
واستعرضت إسهامات العديد من رجال الفكر والثقافة الذين ارتبطت تجربتهم بالشارقة أمثال الراحلين تريم عمران وسلطان العويس، اللذين ما زال تأثيرهما وإرثهما الثقافي والمعرفي موجوداً ومساهماً في تكريم الشباب وتعزيز مشروع الثقافة العربية.
وأعربت عن فرحتها الكبيرة بالتكريم بجائزة شخصية العام الثقافية من معرض الشارقة الدولي للكتاب لأن الشارقة ارتبطت بالكتاب وجعلته محور اهتمامها وتفوقت في ذلك على أكبر المعارض الدولية.
وتحدثت مستغانمي عن تجربتها القرائية مع أحد إصدارات صاحب السمو حاكم الشارقة «الخنجر المرهون» والذي جعلها تعرف سر ارتباط الشارقة بالكتاب، وتعزيز ذلك الشغف لدى أبنائها وبناتها وكل من يقيم فيها، لافتةً إلى ما تقدمه الإمارة من تسهيلات كبيرة تضاف إلى الاحتفال والتكريم للكاتب والذي يعتبر تكريماً لوطنه كله، وقالت: شكراً للشارقة، النخلة الباسقة في صحراء عروبتنا، المشرقة على مدار السنة احتفاءً بالكلمات، شكراً على تكريمي.

مقالات مشابهة

  • استشاري أسري: رأي الأم في شريكة حياة ابنها عين الصواب
  • انفراجة.. محفوظ رمزي يقدم بشرى سارة للمواطنين حول أزمة الدواء
  • «الجونكور»  لداود
  • الخطاط لـRue20 : خطاب المسيرة الخضراء ينسف أحلام الخصوم 
  • من نجيب الريحاني إلى يوسف شاهين.. رحلة فنية حافلة للراحلة رجاء حسين (فيديو)
  • أحلام راشد تحرز ذهبية البطولة العربية للشطرنج
  • أحلام مستغانمي: حاكم الشارقة فارس انبرى لإنقاذ ذاكرة إرثنا الحضاري
  • نبيلة محمد نجيب.. من هي ابنة هدى سلطان التي لا يعرفها الجمهور؟
  • محفوظ كشف عن مئات الاطنان من المساعدات المجمعة في المطار
  • قضى 40 عاما في كتابة قصة الحضارة.. من هو الفيلسوف والكاتب ويل ديورانت