أخبرنى نادل مقهى الفيشاوى العجوز الذى كان يقوم على تلبية طلباته وخدمة مريديه بأنه يظهر فى المقهى مرتين منذ رحيله عن عالمنا فى 30 أغسطس 2006، ثم اقترب منى متفرساً فى وجهى صائحاً: عرفتك يا بنتى، أنت من جالسته طوال نهار مولده فى ديسمبر العام الماضى، ورأيتك تبكين أمامه، ممسكة بكتابه «أصداء السيرة الذاتية» وهو يستمع إليك باهتمام وأنت تقرأين عليه رؤى شيخه التائة عبدربه، مرتباً على كتفك كلما فاضت دموعك وكثرت حركات يديك فى الهواء.
ثم صمت لبرهة وقال: تحدثوا فى المقهى أيام عما كتبته فى جريدة «الوفد» حينها بعنوان «نجيب محفوظ الذى أعرفه»، شكرته ببضع كلمات وقلت: هل نهار رحيله هو ظهوره الثانى فى المقهى؟ فأجاب بنعم، ثم بصوت هامس لا يريد أن يسمعه أحد غيرى قال: لكن لا يظهر إلا لمن يريد، ليس كل من بالمقهى يشعر بوجوده.
نكست رأسى وانصرفت أجلس على نفس الطاولة التى جاورته فيها فى ديسمبر العام الماضى، مرت الساعات وأنا أتلفت حولى وأطيل النظر فى الممر الطويل الذى يعج بالمارة والسائحين ويوصل لباحة المقهى من ناحية مسجد سيدنا الحسين.
بدأت خيوط شمس المغيب تتسلل إلى طاولتى لتعكس على زجاج أكواب الشاى وفناجين القهوة المستهلكة لوناً برتقالياً خافتاً يدعو إلى التأمل والسكون.
وبينما أنا فى حالة من الغفوة والأنتباة من طول الانتظار، هيئ لى أنه قادم بهيئته القديمة الممتلئة، وبذلته الرمادية الشهيرة، ممسكاً بكتابه الأخير «أحلام فترة النقاهة»، ابتسم حين لمحنى، ثم اقترب وجلس فى الطرف المقابل من طاولتى، طال الصمت بيننا، ثم ثحدث كمن يحدث شخصاً أمامه بصوته الأبوى الهادئ: إن الموت غاية كل حى، وإذا ألقينا بنظرة إلى الوراء قلنا: إن الميت قد وُجد قبل الحى.
وأضاف: قبل رحيلى عن هذا العالم، ومع تقدمى فى العمر وموت كثير من الأصدقاء وصعوبة الحركة بعد حادث الاعتداء علىَّ عام 1994 لم يعد أمامى يا بنتى عزاء إلا فى «أحلام فترة النقاهة».
أنصت فى إكبار لشيخنا الروائى الكبير «نجيب محفوظ» وتذكرت قوله فى أصداء سيرته الذاتية: كان الموت ما زال جديداً، لا عهد لى به إلا عابراً فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتماً لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى فكان يراه بعيداً بعد السماء عن الأرض.
ثم تذكرت فى روايته «قشتمر» يقول أحد الصغار: «نينة قالت لى إننا كلنا سنموت». ويعقِّب الراوى قائلاً: «لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس فى قوله جديد فى ما يبدو ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتم مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نسلِّم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمى به إلى موضع فى الزمان قصى».
أما عبارته النافذة: «الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة» من روايته المربكة «أولاد حارتنا» فشتت ذهنى لثوانٍ قبل أن أعود وأنتبهة لتوافد الجمع إلى الطاولة، لمحت من بين عشاق شيخنا «نجيب محفوظ» من البسطاء شلته «الحرافيش» كما أسماها وتضم راحلون وأحياء: المخرج توفيق صالح والكاتب الروائى ثروت أباظة والكاتب الصحفى محمد عفيفى والفنان أحمد مظهر ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان والفنان التشكيلى توفيق شفيق والطبيب يحيى الرخاوى والكاتب عادل كامل.
وقد كانت هذه المجموعة نسجت صداقة «بنجيب محفوظ» امتدت على مدار سنوات طوال، وضمت عدد من الكتاب والفنانين التشكيليين يجتمعون بشكل دائم فى المقاهى حيث يتبادلون أحاديث الثقافة والأدب والفن.
حينما هدأت ضجة الوافدين من حول كاتبنا وشيخنا الكبير «نجيب محفوظ» قال: سأختار من دون ترتيب حلم من أحلام مخطوطى «أحلام فترة النقاهة»، ثم شق صفحات الكتاب ووضع يده على صفحة بعينها، ثم بدأ يقرأ حلمه الخامس قائلاً: حلمت أننى أسير على غير هدى وبلا هدف، ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطُر لى فى خاطرى، فصرت كلما وضعت قدمى فى شارعٍ انقلب الشارع سيركاً.
اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلَّ محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.
سكت «نجيب محفوظ» ومال برأسه إلى حائط المقهى، بينما ساد الصمت الجميع، وبدأ المتحلقون حوله يغمضون أعينهم، ليحلم كل ضيف بسيرك حياته، فأتبعتهم فى استسلام وأغمضت عينى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نجيب محفوظ الوفد نجیب محفوظ
إقرأ أيضاً:
صاروخ «الموهوبة» يدمر أحلام شفيونتيك في إنديان ويلز
إنديان ويلز (أ ف ب)
فجرت موهبة التنس الصاعدة بسرعة صاروخية، الروسية ميرا أندرييفا، مفاجأة جديدة وأقصت البولندية إيجا شفيونتيك حاملة لقب دورة إنديان ويلز الأميركية للألف، من الدور نصف النهائي، ضاربة موعداً مع البيلاروسية أرينا سابالينكا المصنفة أولى عالمياً.
وتخطف أندرييفا، البالغة 17 عاما فقط، الأنظار خصوصاً بعدما أصبحت في فبراير أصغر متوجة بإحدى دورات الألف، في دبي.
وفيما كانت شفيونتيك لا تقهر في الأدوار الأولى من الدورة التي أحرزت لقبها مرتين وتطمح بأن تصبح أول لاعبة تتوج ثلاث مرات في صحراء كاليفورنيا، أوقفتها أندرييفا بثلاث مجموعات 7-6 و1-6 و6-3.
قبل المباراة، لم تخسر شفيونتيك، المصنفة ثانية عالمياً راهناً وأولى سابقاً، أية مجموعة منذ 2023، كما لم تمنح خصمتها أكثر من 12 شوطاً في 4 مباريات هذه السنة.
انتزعت منها الروسية 14 شوطاً في المباراة، وحصدت فوزاً بالغ الأهمية في كاليفورنيا.
ابنة مدينة كراسنويارسك التي انتقلت إلى كان الفرنسية من أجل خوض التمارين في مركز جان-رينيه لينار، كسرت إرسال خصمتها وتقدمت 5-4 في المجموعة الأولى، قبل أن تخسر إرسالها، لكنها أظهرت نجاعتها في الشوط الفاصل (تاي بريك).
شرحت في مؤتمر صحفي: «لا أعرف لماذا، رغبت بأن أخوض الشوط الفاصل وكأنه الأخير في حياتي».
هدأ إيقاع المراهقة الروسية في المجموعة الثانية، وتراجعت نتيجة اللعب الجيد من العمق لشفيونتيك وتقدمها الناجع على الشبكة، في ظل محاولات مدربتها البطلة الإسبانية السابقة كونشيتا مارتينيز لحثها على تقديم الأفضل.
في المجموعة الثالثة، شنت أندرييفا هجوماً وتقدمت 2-0 «قررت عدم تغيير طريقة لعبي كثيراً، بل أن أكون أكثر شراسة قليلاً، شعرت أيضاً بأنني قادرة على تمالك أعصابي».
تغيرت بوصلة المباراة مع ارتكاب شفيونتيك أخطاء أكثر، وسط صلابة خصمتها التي حققت فوزها الثاني على البولندية، بعد ربع نهائي دورة دبي.
وباتت أندرييفا التي ستبلغ الثامنة عشرة في 29 أبريل، أصغر متأهلة إلى نهائي إنديان ويلز منذ البلجيكية كيم كليسترز في 2001.
في أسوا الأحوال، ستصعد - الاثنين - إلى المركز الثامن عالمياً، وهو الأفضل في مسيرتها الشابة، وقد تصعد إلى المركز السادس بحال فوها في نهائي الأحد.
لكن كي يحصل ذلك، عليها التغلب على المصنفة أولى عالمياً سابالينكا التي قدمت أداءً رائعاً في نصف النهائي الثاني.
سحقت سابالينكا الأميركية ماديسون كيز 6-0,6-1 في 51 دقيقة فقط، وثأرت لخسارتها أمامها في نهائي بطولة أستراليا المفتوحة في يناير.
قالت البيلاروسية التي حرمتها كيز من أن تحرز لقباً ثالثاً على التوالي في ملبورن: «كنت راغبة جداً بهذا الثأر، لذا بقيت مركزة، أعتقد أني خضت مباراة جيدة من الناحية التكتيكية، لعبت جيداً منذ البداية، وفَقَدَت إيقاعها، دون أن تتمكن من تقديم أفضل مستوى لها. لهذا السبب انتهت المباراة بسرعة».
تابعت سابالينكا (26 عاماً) التي لم يؤثر عليها البرد والرياح في الملعب الرئيس: «مباراة بطولة أستراليا كانت مؤلمة للغاية بالنسبة إلى، وكنت بحاجة إلى بعض الوقت للتعافي بعد ذلك، كنت متعطشة لتحقيق هذا الفوز على ماديسون».
فوز ساحق على كيز التي كانت تحقق نتائج متميزة مع 16 انتصاراً متتالياً هذا الموسم، بعد تتويجها في أديلايد وملبورن، حيث أحرزت أول بطولة كبرى في مسيرتها.
وكانت أندرييفا خسرت مرتين أمام سابالينكا هذه السنة، في نصف نهائي دورة بريزبين (500) بنتيجة 6-3,6-2، ثم ثمن نهائي بطولة أستراليا في ملبورن (6-1,6-2).
قالت الروسية: «يمكنني القول إنها قتلتني، خصوصاً في ملبورن، سأحاول أن أثأر منها، لا شيء لدي لأخسره، أعتقد أن المباراة ستكون مسلية، مع الكثير من الكرات الفائزة».
ولم تخسر سابالينكا بعد أي شوط في خمس مباريات في إنديان ويلز التي لم تحرز لقبها حتى الآن.