بوابة الوفد:
2024-09-16@23:27:03 GMT

«نجيب محفوظ».. حياً

تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT

أخبرنى نادل مقهى الفيشاوى العجوز الذى كان يقوم على تلبية طلباته وخدمة مريديه بأنه يظهر فى المقهى مرتين منذ رحيله عن عالمنا فى 30 أغسطس 2006، ثم اقترب منى متفرساً فى وجهى صائحاً: عرفتك يا بنتى، أنت من جالسته طوال نهار مولده فى ديسمبر العام الماضى، ورأيتك تبكين أمامه، ممسكة بكتابه «أصداء السيرة الذاتية» وهو يستمع إليك باهتمام وأنت تقرأين عليه رؤى شيخه التائة عبدربه، مرتباً على كتفك كلما فاضت دموعك وكثرت حركات يديك فى الهواء.

ثم صمت لبرهة وقال: تحدثوا فى المقهى أيام عما كتبته فى جريدة «الوفد» حينها بعنوان «نجيب محفوظ الذى أعرفه»، شكرته ببضع كلمات وقلت: هل نهار رحيله هو ظهوره الثانى فى المقهى؟ فأجاب بنعم، ثم بصوت هامس لا يريد أن يسمعه أحد غيرى قال: لكن لا يظهر إلا لمن يريد، ليس كل من بالمقهى يشعر بوجوده.

نكست رأسى وانصرفت أجلس على نفس الطاولة التى جاورته فيها فى ديسمبر العام الماضى، مرت الساعات وأنا أتلفت حولى وأطيل النظر فى الممر الطويل الذى يعج بالمارة والسائحين ويوصل لباحة المقهى من ناحية مسجد سيدنا الحسين.

بدأت خيوط شمس المغيب تتسلل إلى طاولتى لتعكس على زجاج أكواب الشاى وفناجين القهوة المستهلكة لوناً برتقالياً خافتاً يدعو إلى التأمل والسكون.

وبينما أنا فى حالة من الغفوة والأنتباة من طول الانتظار، هيئ لى أنه قادم بهيئته القديمة الممتلئة، وبذلته الرمادية الشهيرة، ممسكاً بكتابه الأخير «أحلام فترة النقاهة»، ابتسم حين لمحنى، ثم اقترب وجلس فى الطرف المقابل من طاولتى، طال الصمت بيننا، ثم ثحدث كمن يحدث شخصاً أمامه بصوته الأبوى الهادئ: إن الموت غاية كل حى، وإذا ألقينا بنظرة إلى الوراء قلنا: إن الميت قد وُجد قبل الحى.

وأضاف: قبل رحيلى عن هذا العالم، ومع تقدمى فى العمر وموت كثير من الأصدقاء وصعوبة الحركة بعد حادث الاعتداء علىَّ عام 1994 لم يعد أمامى يا بنتى عزاء إلا فى «أحلام فترة النقاهة».

أنصت فى إكبار لشيخنا الروائى الكبير «نجيب محفوظ» وتذكرت قوله فى أصداء سيرته الذاتية: كان‏ ‏الموت‏ ‏ما زال‏ ‏جديداً‏، ‏لا‏ ‏عهد‏ ‏لى ‏به‏ ‏إلا‏ ‏عابراً‏ ‏فى ‏الطريق‏، ‏وكنت‏ ‏أعلم‏ ‏بالمأثور‏ ‏من‏ ‏الكلام‏ ‏أنه‏ ‏حتماً‏ ‏لا‏ ‏مفر‏ ‏منه‏، ‏أما‏ ‏عن‏ ‏شعورى ‏الحقيقى ‏فكان‏ ‏يراه‏ ‏بعيداً‏ ‏بعد‏ ‏السماء‏ ‏عن‏ ‏الأرض.

ثم تذكرت فى روايته «قشتمر» يقول أحد الصغار: «نينة قالت لى إننا كلنا سنموت». ويعقِّب الراوى قائلاً: «لا يتصور أن تموت أمه أو يموت أبوه. وليس فى قوله جديد فى ما يبدو ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتم مؤجل إلى أجل غير مسمى. كلنا نسلِّم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمى به إلى موضع فى الزمان قصى».

أما عبارته النافذة: «الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة» من روايته المربكة «أولاد حارتنا» فشتت ذهنى لثوانٍ قبل أن أعود وأنتبهة لتوافد الجمع إلى الطاولة، لمحت من بين عشاق شيخنا «نجيب محفوظ» من البسطاء شلته «الحرافيش» كما أسماها وتضم راحلون وأحياء: المخرج توفيق صالح والكاتب الروائى ثروت أباظة والكاتب الصحفى محمد عفيفى والفنان أحمد مظهر ورسام الكاريكاتير بهجت عثمان والفنان التشكيلى توفيق شفيق والطبيب يحيى الرخاوى والكاتب عادل كامل.

وقد كانت هذه المجموعة نسجت صداقة «بنجيب محفوظ» امتدت على مدار سنوات طوال، وضمت عدد من الكتاب والفنانين التشكيليين يجتمعون بشكل دائم فى المقاهى حيث يتبادلون أحاديث الثقافة والأدب والفن.

حينما هدأت ضجة الوافدين من حول كاتبنا وشيخنا الكبير «نجيب محفوظ» قال: سأختار من دون ترتيب حلم من أحلام مخطوطى «أحلام فترة النقاهة»، ثم شق صفحات الكتاب ووضع يده على صفحة بعينها، ثم بدأ يقرأ حلمه الخامس قائلاً: حلمت أننى أسير على غير هدى وبلا هدف، ولكن صادفتنى مفاجأة لم تخطُر لى فى خاطرى، فصرت كلما وضعت قدمى فى شارعٍ انقلب الشارع سيركاً.

اختفت جدرانه وأبنيته وسياراته والمارة، وحلَّ محل ذلك قبة هائلة بمقاعدها المتدرِّجة وحِبالها الممدودة والمُدلَّاة وأراجيحِها وأقفاصِ حيواناتها، والممثِّلون والمُبتكِرون والرياضيُّون، حتى البلياتشو.

سكت «نجيب محفوظ» ومال برأسه إلى حائط المقهى، بينما ساد الصمت الجميع، وبدأ المتحلقون حوله يغمضون أعينهم، ليحلم كل ضيف بسيرك حياته، فأتبعتهم فى استسلام وأغمضت عينى. 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: نجيب محفوظ الوفد نجیب محفوظ

إقرأ أيضاً:

شاهد.. ينجو من الموت بعد سقوطه في بالوعة

سقط شاب تركي في بالوعة وسط الطريق عندما كان مشغولاً بهاتفه المحمول.

وحسب اللقطات التي سجلتها كاميرات مراقبة في منطقة يجيتلر في يلدريم بتركيا، سقط الشاب في البالوع، ليهرول المارة إليه لإنقاذه.
وأُصيب الشاب بجروح طفيفة، بعد الحادثة، واتهم المواطنون البلدية بالإهمال لتركها شبكة الصرف دون غطاء.
وأثارت الحادثة جدلاً على منصات التواصل الاجتماعي، التي شهدت تداول الفيديو على نطاق واسع.

مقالات مشابهة

  • شاهد.. ينجو من الموت بعد سقوطه في بالوعة
  • محفوظ: التنازع في قضية المركزي يعد بمثابة معركة كسر عظم
  • في اليوم العالمي للديمقراطية.. الشباب السوداني بين أحلام «ديسمبر» وكوابيس حرب الجنرالات
  • رحلة الموت من أجل بطارية شحن في غزة
  • سمير فرج يكشف تفاصيل جلسة وزير الدفاع مع جنوده في قاعدة محمد نجيب (فيديو)
  • صاحب رواية باب الشمس.. رحيل الروائيّ والكاتب اللبنانيّ إلياس خوري
  • “احترموا تاريخنا”.. أحلام تكذب مخرج عراقي على العلن
  • «وسط الضباط والجنود».. وزير الدفاع يتناول الغداء مع المقاتلين في قاعدة محمد نجيب (صورة)
  • وزير الدفاع من قاعدة محمـد نجيب العسكرية: ماضون بكل قوة في تطوير التدريب القتالي
  • وزير الدفاع يتفقد قاعدة محمد نجيب العسكرية