الصراع الفكري والشخصي داخل الحزب (2)
تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT
يعرف علم الاجتماع الماركسي أو ما يعرف بالمادية التاريخية، نظرية الصراع، كمصطلح مفاده أن الطبقات المجتمعية تعيش حالة من الصراع الدائم، كل طبقة تهدف لتعظيم منافعها. هذه الحالة تسهم بشكل أساسي في إحداث حالة حراك وتطور اجتماعي يصل إلى أقصى درجاته مع قيام الثورات وما يصاحبها من تطورات سياسية. هناك نوعان من الصراع صراع سلمي أو ثانوي، وآخر صراع تناحري: الأول يعالج بالحوار الجاد، والثاني لا علاج له إلا بإنتصار طبقة على الطبقة التي تتنازع معها حول ملكية أدوات ووسائل الإنتاج.
بالنسبة للصراع السلمي، الذي أصطلح على تسميته في الأدب الماركسي بالصراع الفكري، تتم معالجته بالديالكتيك، الذي يعني الجدل أو الحِوار بين طرفين، وتبادل الحجج. كل يدافع عن وجهة نظره بأسلوب منطقي وعلمي وبصورة حضارية، في جو ديمقراطي، وتحت ظرف موضوعي مؤاتٍ للحوار. ذلك ما تعنية المادية الديالكتيكية أو الجدلية "الأسلوب المنطقي والعلمي في دراسة الظواهر الطبيعية وتفسيرها والوقوف على حيثياتها من أجل فهمها وتحليلها والوصول إلى فكرة تلك الظواهر."
شهد الحزب الشيوعي السوداني، خلال مسيرته الممتدة قرابة الثمانية عقود، مختلف أنواع الصراعات، خرج من بعضها وهو أكثر تماسكاً وعنفواناً، ومن بعضها واهن العزيمة، متضعضع، متصدع، مثلما جرى في انقسامي 1964 و1970.
الصراع الفكري يعد المحرك الجوهري في تطور الحزب إذا تم وفق منهج ديالكتيكي يقوم على وحدة وصراع الأضداد. وكان الحزب قد أفرد مدّة زمنية لمعالجة الصراع الفكري فيما عرف بالمناقشة العامة بسبب التغييرات السياسية التي جرت نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية في شرق أوروبا.
انبثقت تلك المناقشة عن عدة تيارات ورؤى، أهما تياران، تيار يدعو للتمسك بالأسس اللينينية التنظيمية (المركزية الديمقراطية) واسم الحزب، وكان على رأس هذا التيار الأستاذ الراحل التيجاني الطيب. وتيار يدعو للتغيير والتخلي عن التجربة والأسس اللينينية في بناء الحزب، وعن طموحات بناء الشيوعية، وأن ينكب على تطبيق برنامج التحول الوطني الديمقراطي المؤجل منذ الاستقلال، حزب تقوم وحدته الفكرية لا على أسس أيديولوجية ونصوص عقائدية، بل على أساس برنامج ودستور الحزب. ويقود هذا التيار الأستاذ الراحل الخاتم عدلان. كان الأستاذ الراحل محمد إبراهيم نقد على الرغم من ميوله وافكاره التي كانت مع التغيير لكنه كان توفيقياً مثل اجتراحه لمفهوم الدولة المدنية في ظل الصراع بين مؤيدي العلمانية والثّيوقراطيّة، لكن من المهم أن نعلم أن كلا التيارين كانا يتفقان على الماركسية كمرشد لاستقراء الواقع وتحليله والانفتاح على الفكر الإنساني والتجارب الثرة للشعوب والإرث الثقافي والاجتماعي السوداني.
على العموم كانت الرغبة صادقة لدى قيادات الحزب في استنهاض حزب ثوري معافى من الجمود والانغلاق، يسترشد بالماركسية في استقرائه واستنتاجاته لمعرفة الواقع وتغييره للأفضل، وفق منهج ديمقراطي، يؤمن الحرية لأعضائه وهيئاته في المشاركة في القرار وإدارة شؤون الحزب.
كما أن هناك تيار ثالث، ربما لم يساهم في المناقشة العامة بطريقة مباشرة، كان يمني النفس بأن يحذو الحزب حذو الحزب الشيوعي البلجيكي، الذي كان يعد، في وقت من الأوقات، من أقوى الأحزاب الشيوعية في غرب أوروبا، حيث قام في 1989 بحل نفسه في اجتماع ضخم وتبادلوا فيه الأنخاب ومضى كل منهم لحال سبيله. ومن بين هؤلاء - الأخيرين - من يرى أن يلتحق الشيوعيون بالأحزاب الوطنية الكبرى مثل الاتحادي الديمقراطي والأمة ويعملوا من داخلها كتيارات يسارية لاستمالتها لبرنامج التحول الوطني الديمقراطي، على أساس أن هذين الحزبين الكبيرين هما الأقرب للسلطة في أي حكومة ديمقراطية.
كانت المناقشة محتدمة. وكان تيار التغيير هو المتقدم والأوسع وتوقع الكثيرون تغيير اسم الحزب والتنازل عن الحلم النبيل في بناء المجتمع الشيوعي، والاكتفاء بالعمل على تطبيق البرنامج الوطني الديمقراطي ، وتوسيع قاعدة الحزب ليضم كافة الفصائل والطبقات صاحبة المصلحة في تحقيق ذلك البرنامج، وتأجيل مشروع بناء الشيوعية للأجيال القادمة التي هي في رحم الغيب. حيث يمكنها أن تنطلق من أساس متين في ظلّ المتغيرات التي تطرأ في المفاهيم والعلوم والمعرفة. وعليه أسقط المؤتمر الخامس الذي انعقد في يناير 2009 من لائحة الحزب وبرامجه أهم المبادئ اللينينية وهو مبدأ المركزية الديمقراطية وكذلك أسقط البرنامج دكتاتورية البروليتاريا والحلم النبيل في بناء المجتمع الشيوعي أو (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته). وإن كان قد أبقى على أهم المبادئ التنظيمية التي تضمن وتؤمن سلامة الحزب من وجود المركز الواحد وجعل خضوع الهيئات الأدنى للهيئات الأعلى مشروطا بصحة وسلامة القرارات التي تأتي من الهيئات الأعلى، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية واحترام حقوق الأقلية في أبداء الرأي، والانتخاب السري للقيادة من مكاتب الفروع والهيئات الحزبية حتى اللجنة المركزية. وتلك إجمالاً مبادئ ديمقراطية معمول بها في كافة الكيانات السياسية الديمقراطية المحترمة بمختلف مشاربها، وتنوع مناهجها. وإن لم يتم تغيير اسم الحزب إلا أن التوجه العام، والخط الذي قاده السكرتير العام السابق محمد إبراهيم نقد كان يمضي في ذلك الاتجاه. ولكن في رأيي أن أهم إضافة تمت في المؤتمر الخامس، وتمثل نقلة نوعية في مسار تطور الحزب وتخرجه من عزلته الجماهيرية هو ما نصت عليه المادة الرابعة من دستور الحزب التي نصت على ما يلي:
((برنامج ودستور الحزب هما أساس الوحدة الفكرية بين أعضائه)) حيث كانت النظرية الماركسية هي أساس الوحدة الفكرية، قواعدها ونصوصها تشكّل المرجعية في الصراع الفكري. وهذا التعديل الذي يقضي بأن تكون البرنامج واللائحة هما الأساس الذي يوحد المناضلين الثوريين الذين تعاهدوا طوعياً على إنجاز البرنامج الوطني الديمقراطي والاشتراكية بما يتناسب وخصائص الشعب السوداني يمثل نقلة نوعية، تتيح الفرصة لعدد كبير، من غير الماركسيين، الذين على قناعة راسخة بصحة وسلامة البرنامج الوطني الديمقراطي، و برؤى الحزب في الانضمام له، دون تحمل تبعات الماركسية ومفاهيمها وتعقيداتها الفلسفية.
وللحديث بقية ...
في اللقاء القادم (3) صراع فكري ... صراع شخصي
عاطِف عبدالله قسم السيد
atifgassim@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الوطنی الدیمقراطی
إقرأ أيضاً:
من تحت قبة الإمام المهدي و حكاية المهدية في زمننا المعاصر
حزب الأمة القومي، أحد أبرز الأحزاب السياسية في السودان، يمر بأزمة متعددة الأوجه نتيجة التعقيدات الداخلية والصراعات على مستوى القيادة في ظل المشهد السوداني الحالي. هذه التعقيدات تتجلى بشكل خاص بعد وفاة الإمام الصادق المهدي، زعيم الحزب السابق، حيث ظهرت اختلافات حادة بين أبنائه وقيادات الحزب، مما يعكس تحديات بنيوية تحول دون استقرار الحزب وتوحد رؤاه حول المستقبل السياسي للسودان.
أولاً واقول الصراع على القيادة والرؤية داخل حزب الأمة
بعد رحيل الإمام الصادق المهدي، نشأ فراغ قيادي داخل الحزب، وبدأ يظهر جليًا التباين بين أبناء الإمام والقيادات الحزبية الأخرى في توجهاتهم السياسية. ويقود هذا التباين حاليًا:
عبد الرحمن الصادق المهدي - الابن الأكبر للإمام عبد الرحمن، المعروف بدوره كمساعد سابق للرئيس السابق عمر البشير، تبنى خلال السنوات الماضية توجهات تصالحية، ورغم ارتباطه بحزب الأمة، إلا أن مواقفه العملية تميل أحيانًا نحو الوسطية والتقارب مع العسكريين. تصريحات عبد الرحمن الأخيرة تعبّر عن رغبة في لعب دور وسيط ومؤثر يحاول التقريب بين الجيش والكيانات المدنية، مما يخلق حالة من الحيرة لدى مناصري الحزب حول توجهاته الحقيقية تجاه التحول الديمقراطي.
الصديق الصادق المهدي - الأخ غير الشقيق وقيادي في حزب "تقدم": الصديق يختلف في رؤيته وأسلوبه عن أخيه عبد الرحمن. حيث اتجه للعمل في إطار مستقل من خلال تأسيس حزب "تقدم"، وهو حزب ينادي بمدنية الدولة والابتعاد عن أي نوع من التحالفات مع الجيش. يُعد الصديق من القيادات التي ترغب في قطع علاقة الحزب بالجيش والبحث عن نموذج سياسي حديث يركز على الديمقراطية وحقوق الشعب السوداني. وتباعد رؤيته عن حزب الأمة الأم يشير إلى رغبة في تكوين حركة شبابية جديدة قادرة على التغيير بعيدًا عن الإرث التقليدي للأنصار.
الأنساب والقيادات الأخرى الداعمة لحزب "تقدم" عن بُعد: دعم بعض الأنساب لحزب "تقدم" يعطي إشارة واضحة إلى تعمق الانقسامات الأسرية داخل أسرة الإمام الصادق المهدي، حيث أن هؤلاء الأنساب يرون في حزب "تقدم" حركة بديلة تجسد تطلعات جديدة وأفكارًا تقدمية بعيدًا عن الانغلاق التقليدي لحزب الأمة. دعم هؤلاء لحزب "تقدم" من بعيد يعكس رغبتهم في الدفع بتغيير سياسي جوهري، إلا أن هذا الدعم عن بعد أيضًا يثير تساؤلات حول إمكانية استقرار هذا الحزب الجديد ونجاحه في ملء الفراغ الذي يعجز حزب الأمة عن ملئه بسبب صراعاته الداخلية.
ثانيًا التحديات السياسية لحزب الأمة في ظل الأزمة السودانية الحالية
التنافس على القاعدة الشعبية: يواجه حزب الأمة تحديًا في الحفاظ على قاعدته الشعبية، خاصةً وأن الصراعات العائلية والسياسية أضعفت قدرته على جذب المؤيدين، في حين تستغل أحزاب أخرى مثل "تقدم" والانشقاقات الجديدة المناخ السياسي الحالي لاستقطاب الشباب والشرائح التي فقدت الثقة في الحزب.
التوجهات المتناقضة حيال الجيش: أحد أهم القضايا التي تسببت في الخلاف الداخلي داخل الحزب هو الموقف من الجيش. إذ أن هناك جناحًا داخل الحزب، يمثله عبد الرحمن الصادق المهدي، يدعو للتقارب مع الجيش حفاظًا على الاستقرار ودرءًا للفوضى. بينما يميل الجناح الآخر، ممثلًا في الصديق الصادق المهدي وقيادات "تقدم"، إلى اتخاذ موقف حازم ضد مشاركة الجيش في السلطة، ويدعون إلى حكم مدني ديمقراطي بحت. هذا التباين يؤدي إلى حالة من عدم الاتساق في خطاب الحزب ويضعف مصداقيته أمام الناخبين.
التحديات التنظيمية والبنيوية: إضافة إلى الصراعات القيادية، يواجه حزب الأمة مشاكل بنيوية، إذ يعاني من انقسامات داخلية وغياب رؤية واضحة لمستقبل الحزب في ظل هذا التشرذم. كذلك، تتسبب غياب هيكل تنظيمي قوي في عدم القدرة على تفعيل قرارات واضحة أو تنسيق الجهود بين القيادات المختلفة، مما يعزز من حالة الفوضى والتشرذم.
التأثير العائلي والتوريث السياسي: تعد النزاعات العائلية داخل عائلة الإمام الصادق المهدي تحديًا كبيرًا أمام تماسك الحزب. هذه النزاعات تجسد مخاطر "التوريث السياسي"، حيث أصبح الحزب رهينة لصراعات العائلة الممتدة. وهذا الوضع يُبعد قطاعات واسعة من السودانيين الذين يرون في الحزب ضرورة لتجاوز المصالح العائلية والتوجه نحو حلول وطنية.
ثالثًا مستقبل حزب الأمة في ظل الصراعات الداخلية
من الصعب أن يحقق حزب الأمة استقرارًا سياسيًا في ظل هذه الصراعات ما لم يتمكن من التوصل إلى رؤية مشتركة تجمع قياداته حول مواقف واضحة ومحددة. إن استمر هذا الانقسام بين أبناء الإمام والقيادات التقليدية، فإن الحزب قد يفقد المزيد من التأييد الشعبي، مما قد يمهّد الطريق لظهور حركات جديدة (مثل "تقدم") تستقطب هذه القاعدة المتزعزعة.
الوضع الحالي داخل حزب الأمة يعكس مأزقًا سياسيًا عميقًا يتمحور حول كيفية التوفيق بين الإرث التقليدي للجماعة الأنصارية وضرورة التحديث لتلبية تطلعات الشعب السوداني في الحكم المدني الديمقراطي. ما لم يتمكن الحزب من تجاوز الخلافات العائلية والسياسية وصياغة رؤية متسقة ومستدامة، فإنه قد يجد نفسه معزولًا في مواجهة أحزاب جديدة قادرة على تمثيل الجيل الجديد وتطلعاته
نحن إذن سنكون أمام حزب جديد في المرحلة المقبلة؛ يستفيد من تجارب المرحلة الماضية ويحدد رؤية جديدة للمستقبل على ضوء المعطيات والتطورات الجارية في السودان و سوف نري الكمثير من تحالفات جديدة القوي المدنية خلال الحرب وبعدها .
zuhair.osman@aol.com