126 عاماً على كرري: في الحرب يستحيل التنبؤ بالماضي
تاريخ النشر: 8th, September 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
مرت في الثاني من سبتمبر الجاري الذكرى 126 لمعركة كرري التي قضى فيها الجيش الإنجليزي- المصري على دولة المهدية في السودان (1885-1898). وقال ونستون تشرشل الذي رافق الحملة مراسلاً حربياً شاباً في كتابه "حرب النهر"، عن فرط بسالة المحاربين السودانيين إنهم لم يهزموهم في كرري، بل حطموهم ناظراً إلى البون الشاسع في تسليح الطرفين.
تمتح الكتابات العامة عن تاريخ المهدية من ثلاثة كتب هي "المهدية والسودان المصري" (1891) لفرانسس ريقنالد ونجت، رئيس قلم استخبارات الجيش المصري وحاكم السودان العام لاحقاً، و"السيف والنار في السودان" (1898) لرودلف سلاطين الذي كان آخر حكام دارفور تحت الحكم التركي- المصري وأسرته المهدية، فأسلم لغرضه، وألزمته بما عرف بـ"فروة" الخليفة عبدالله، أي أن يكون حاضراً عند بابه ما كان الخليفة في ديوانه، ثم تمكن من الهرب إلى مصر في 1895. أما الكتاب الثالث فهو "10 سنوات في أسر المهدي" (1891) للقس جوزيف أوهروالدر. وكان ونجت من وراء تحرير كتابي سلاطين وأوهروالدر.
وكانت قيمة هذه الكتب الباكرة لتاريخ المهدية موضوع نقد مهني من بيتر هولت الوثائقي الأول في ديوان الدولة الإنجليزية بالسودان الذي أشرف على فهرسة وثائق المهدية وتبويبها. وكتب "الدولة المهدية في السودان" (1977) الذي لا يزال المرجع الذي لا يعلى عليه. وخلص هولت إلى أن الدراسات عن المهدية في مصر وإنجلترا لم تبذل إلا العفو في توطينها في سياق التاريخ السوداني والأفريقي والإسلامي على رغم أهميتها التاريخية الجوهرية للسودان. ونعى تحرير ونجت لكتابي سلاطين وأوهروالدر. فقال إنهما في الإنجليزية غير ما هما في الألمانية بفضل ترجمة ونجت وتحريره لهما. فلم يعد الكتابان بالنتيجة مصدرين مستقلين للمعلومات عن المهدية كما ينبغي بقدر ما هما تلميع تلفيقي لم يضف كثيراً لكتاب ونجت نفسه. فتبنى في ترجمتهما أسلوباً إثارياً في لغة عاطفية للغاية ومبالغ فيها.
ولعب ونجت في الكتابين على شعواء الإهانة والغضب الذي أحسه البريطانيون لمقتل الجنرال تشارلس غردون علي يد المهدية في قصر الحاكم العام بالخرطوم الذي يؤرق ضميرهم لأنهم ضنوا عليه بالفرج الذي انتظره ولم يأت.
وخلص هولت إلى أنه ينبغي اعتبار هذه الثلاثية "دعاية حرب" لـ"استعادة" السودان من المهدية الموصوفة بأنها دولة استبداد ديني شرقي منقطع النظير. ولم يتورع ونجت عن كشف غرضه من الكتب وحث العالم المتحضر أن حتاماً تقف أوروبا وبريطانيا غير مكترثة حيال فتك الخليفة عبدالله وتحطيمه أهل السودان. بل ورغب سلاطين أن يكون للتفاصيل الشقية التي توافر عليها في كتابه عن استبداد نظام الخليفة عبدالله أهمية كبرى "عندما يجد وقت العمل، وعندما يبحث العاملون بحثاً جدياً في خلاص المغلوبين على أمرهم في السودان، وعندما يسمح الله باستخدام معلوماتي ومجهوداتي في سبيل إبادة الظلم الدرويشي، وإزالة حكم سيدي الجائر وعدوي (الخليفة) عبدالله، الذي سيظل ألد أعدائي طول الحياة التي أحياها في الدنيا".
وتقف حالة استعادة ماضي المهدية مثلاً في تعذر التنبؤ بالماضي التي قال بها الرجل الذي جئنا بخبره في أول المقال. فكانت أكبر مظاهر اجترار تاريخ المهدية إلى الحاضر ما اتصل بالمعركة الدائرة منذ أبريل (نيسان) 2023 حول كسب الخرطوم.
ونواصل
من ضمن ما ذَكّرت المعركة به كما لا مهرب حصار المهدية لمدينة الخرطوم، حاضرة الدولة التركية- المصرية، وسقوطها في 1885. فتبنى طرفا المعركة الحاضرة ذلك السقوط بما يخدم قضيتهما ليومهما. فتبنت قوات "الدعم السريع" الفتح التاريخي كسابقة لإهلاك دولة 56 التي استأثرت بها صفوة النيل الشمالي في قولهم من دون غيرهم. فالمهدية هنا قدوة. واكتملت عناصر المطابقة بحقيقة مجيء محمد حمدان دقلو إلى غزو الخرطوم في جند غالبه من "شعب البقارة" الذي كانت له الغلبة في دولة المهدية. والمفارقة هنا أن كثيراً من أنصار "الدعم" سبق أن كان لهم رأي سلبي في المهدية حين كانوا في معارضة الإنقاذ وعلى بينة الكتب الثلاثية المبغضة لها. فرأوا في دولة الإنقاذ الدينية إعادة حرفية للمهدية بجامع الثيوقراطية في كليهما.
وتجسد هذا التطابق حتى في الإبداع الروائي. فحصلت رواية "شوق الدراويش" لحمور زيادة، التي دارت دراماها في الدولة المهدية، بجائزة نجيب محفوظ التي ترعاها الجامعة الأميركية بالقاهرة في 2015. وميز المحكمون للجائزة استدعاء الرواية لماض من التطرف الديني في المهدية لا يزال حاضرنا يرزح من تحته. فقال أحد المحكمين في تزكية الرواية إنها "تجسيد للمشهد الحالي في المنطقة حيث تعم الفوضى نتيجة للتطرف الديني". ومن رأي عبدالرحمن الغالي القيادي في حزب الأمة معقل أنصار المهدي التاريخي، في كتابه "المهدية: قراءة في أطروحة رواية شوق الدراويش" (2016) أن الرواية دعاية ضد المهدية في ثوب جديد. فهي، في قوله، استوحت كتاب القس أوهروالدر سجين المهدية الذي كتب عن تجربته في سجنه. فجعلت حتى غلافها هو نفسه غلاف كتاب أوهروالدر. وأخذت بطلة الرواية نفس طريقه في الهرب باليوم والتاريخ ونوع الصحبة.
وأخذت الرواية بالنص عبارة لام فيها أوهروالدر الجنرال غردون لتساهله مع أسر من انضموا للمهدية ممن وصفهم بالوحوش المتعصبين. فبكل تأكيد، في قول أوهروالدر، كان يجب أن يلقى هؤلاء المتعصبون المهدويون المنافقون معاملة مختلفة جداً من الأوروبيين المتحضرين. وتجد صدى العبارة في بطلة رواية "شوق الدراويش" حين تقول "إن هؤلاء الوحوش لا يمكن إلا أن يعاملوا بالكراهية والتوحش الذين هم جديرون به". فخرجت الرواية عن المهدية وفي ذهنها نظام الإنقاذ أو أنها احتاجت للمهدية برماً بنظام الإنقاذ. وهذا جائز متى استقل الكاتب بمصادره لا يرسى حيث يمسي.
أما طرف الحرب الآخر الواقف مع القوات المسلحة فاسترجع بهجوم "الدعم السريع" وخراب الخرطوم على يده ما أشاعته الكتب الثلاثة وبالذات كتاب "سلاطين المغرب" واسع الانتشار نسبياً.
كما جاء إلى هذه السلبية حيال المهدية كثير من السودانيين بما تواتر في أوساط أهلهم من احتقان قديم على دولة المهدية. وكان خليفة المهدي على الدولة، الخليفة عبدالله، قد مكن لأهله التعايشة ومن أسرته خصوصاً من شعب البقارة في الدولة وهجرهم إلى أم درمان، عاصمة المهدية، بالأمر.
ومن ذكر تلك الهجرة التي لا تنضب معركة المتمة التي جرت أول يوليو (تموز) 1891. والمتمة هي حاضرة شعب الجعليين الشمالي على ضفة النيل الغربية من مدينة شندي وعلى بعد 160 ميلاً شمالي أم درمان. فأراد الخليفة إخلاء البلدة لوضعها الاستراتيجي ليرتكز فيها بعض جيشه وهو يعد لمواجهة الجيش الإنجليزي المصري الذي خرج للقضاء على المهدية.
واعترض أهل المتمة على ترحيلهم. واحتربوا مع جيش المهدية فانهزموا وصودرت أموالهم وسبيت نساؤهم. وبقيت ذكرى معركة المتمة وشماً لا ينمحي في ذاكرة السودان النيلي.
وتجد الإسلاميين ضمن هذا الطرف المناصر للقوات المسلحة. وتستغرب كيف قلبوا ظهر المجن للمهدية هكذا وهي من كانت بينتهم التاريخية في صلاح البلد بالإسلام جهاداً لتحريره الوطني ومثلاً شروداً في أوبة باكرة للدولة للدين. وتستغرب أكثر أن يكون للإسلاميين هذا الرأي السلبي في المهدية، وقد كان خصومهم يرونهم مجرد مهدية جديدة مستبدة أيضاً كما رأينا.
يبدو أن الماضي عندنا لا يريد أن يخلد إلى ماضويته. فهو ماض ينهض "بعاتي" ويأخذ بخناقنا لأننا لم نوفق بعد في الجدوى من دونه. فقعدنا من دون ترحيله من يومنا إلى رحاب التاريخ لتقع دراسته كأنه "بلد أخرى" كما يقولون. ولهذا صح القول، إن ماضي المهدية مما يصعب التنبؤ به.
ibrahima@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: المهدیة فی فی السودان
إقرأ أيضاً:
المجتمع الدولي وإدمان الفشل حول السودان
المجتمع الدولي وإدمان الفشل حول السودان
د. الشفيع خضر سعيد
كتبنا من قبل، أنه ولإطفاء نيران الحروب وإخماد بؤر التوتر وبسط السلام في مختلف بقاع العالم، ولأجل حماية حقوق الإنسان وصون كرامته، ولدرء مخاطر الكوارث الطبيعية ونقص الغذاء، ولتمتين التعاون والتنسيق والتكامل بين دول العالم في مجالات التنمية والصحة والتعليم وتطوير العلوم لصالح أمن وسلام وتقدم البشرية، توافقت بلدان العالم على مواثيق دولية وإقليمية يحميها القانون الدولي، وعلى مؤسسات ومنظمات دولية وإقليمية، كمنظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، يفترض أن تعمل على تحقيق المبادئ المضمنة في تلك المواثيق.
صحيح أن منظمة الأمم المتحدة تحتاج إلى إصلاحات جوهرية في إطار نظام عالمي جديد يحد من هيمنة القطبية ويحقق التكافؤية بين الدول، صغيرها وكبيرها، وعلى ذات المنوال ربما تحتاج المنظمات الإقليمية، وهذه مناقشة هامة ولكنها ليست موضوع هذا المقال. ونكتب اليوم، ما دامت حرب السودان دخلت عامها الثالث، ولاتزال مشتعلة تحرق وتدمر في البلد، وتهدد بنسف الأمن والإستقرار إقليميا ودوليا، خاصة في ظل ما يدور في محيطنا الجيوسياسي، وما دامت النخب السودانية، المدنية والعسكرية، لاتزال في قبضة الخلافات والتشرذم والعجز عن تقديم رؤية موحدة لوقف الحرب والانتقال إلى مربع السلام والتحول الديمقراطي، فإن المجتمع الدولي والإقليمي، محكوما بتلك المواثيق وبالقانون الدولي، كان لابد أن يواصل تدخله ومساهماته لوقف هذه الحرب اللعينة، والتي ابتدرها مباشرة بعد اندلاع الحرب بانتظام منبر جدة للتفاوض بين طرفي القتال في مايو/إيار 2023، وفي نفس الشهر خصص الاتحاد الأفريقي اجتماعا حول السودان خرج بخارطة طريق من ستة عناصر لوقف الحرب. ثم توالت بعد ذلك تحركات المجتمع الدولي، من إجتماعات ولقاءات هنا وهناك، كما حددت معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، مبعوثين مختصين بالتعامل مع حرب السودان، وعُقد مؤتمر باريس الدولي بعد مرور عام على الحرب، ومؤخرا عُقد مؤتمر لندن الدولي بعد مرور عامين، وكل الخوف أن يعقد مؤتمر دولي آخر في عاصمة أوروبية أخرى، بعد مرور ثلاثة أعوام على الحرب وهي لاتزال مشتعلة!
ومع تأكيدنا على قناعتنا التامة بأن قضية شعب السودان لا يمكن أن تحل من خارجه أو بالإنابة عنه،
افتقار تحرك المجتمع الدولي والإقليمي إلى استراتيجية قوية وشاملة، كان في إمكانها أن تعزز كتلة مدنية موحدة وقوية، مما قد يمنع إجراءات أحادية الجانب من قبل المتحاربين إلا أننا لا يمكن أن نرفض مساهمات المجتمع الدولي والإقليمي، أو نقلل من شأنها، بل نراها حتمية وموضوعية وضرورية. ولكن حتميتها وموضوعيتها وضرورتها هذه لا تستطيع أن تحجب عنا النتائج الضعيفة لهذه المساهمات والتي لم تتخط حاجز عبارات الشجب والإدانة حتى بتنا قاب قوسين أو أدنى من دمغها بإدمان الفشل. انظر إلى اجتماع لندن الدولي الذي عقد في الخامس عشر من هذا الشهر بمشاركة وزراء خارجية وممثلين لكل الدول الكبرى والدول المعنية بحرب السودان بالإضافة إلى الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الإيقاد، واللجنة الدولية للصليب الأحمر. فالمؤتمر فشل حتى في إصدار بيان ختامي، ولو تكرار لعبارات الشجب والإدانة، وذلك بسبب تضارب الرؤى بين المشاركين حول تفاصيل الأزمة في بلدنا. وأنظر إلى خطاب الاتحاد الأفريقي في المؤتمر والذي تضمن عبارات: لا حسم عسكري وعلى طرفي النزاع التوجه الى المفاوضات، ولن نقف مكتوفي الأيدي، ولا يمكن التسامح مع التداعيات الكارثية للحرب، ولن نسمح بتقسيم السودان، ودعوة كل الأطراف الخارجيه للتوقف عن التدخل في الشأن الداخلي للسودان، وكلها عبارات تكرر الجهر بها كثيرا منذ أن ضمنت في خارطة الطريق التي تبناها الاتحاد في مايو/إيار 2023. أما وسمنا للمجتمع الدولي والإقليمي بإدمان الفشل في التعاطي مع كارثة الحرب في السودان، فليس تحاملا أو تجنيا عليه في ظل اكتفائه، ولمدة عامين منذ اندلاع الحرب، بالخطب ورسم الخطط على الورق وعدم ترجمة ذلك إلى إجراءات عملية قوية لمنع تدفق الأسلحة والذخائر وأجهزة التجسس المتطورة إلى البلاد، ولحماية المدنيين، ولتكثيف المساعدات الإنسانية درءا للمجاعة والأوبئة.
لا أعتقد أن المجتمع الدولي والإقليمي نضب معين طاقته وتدابيره العملية لوقف الاقتتال في السودان. ولكن هناك كوابح عديدة تمنع تفجير هذه الطاقة وتفعيل هذه التدابير العملية، منها تضارب المصالح الذي يدفع الدول الكبرى، قائدة المجتمع الدولي والإقليمي، لإغماض أعينها عن مصدر تدفق الأسلحة ووقود الحرب إلى السودان، ومنها فقر المنهج الذي ظل يتبعه المجتمع الدولي والإقليمي تجاه قضية الحرب، والذي كان محدودًا وضيقًا ومفرطًا في تجنب المخاطر، وغالبًا ما كان خاضعا لنزوات المتحاربين الذين أيضا لاحظوا فقر المنهج هذا وتحايلوا لاحتوائه، ومنها افتقار تحرك المجتمع الدولي والإقليمي إلى استراتيجية قوية وشاملة، كان في إمكانها أن تعزز كتلة مدنية موحدة وقوية، مما قد يمنع إجراءات أحادية الجانب من قبل المتحاربين تضر بوحدة السودان المستقبلية، وذلك حسب ما نشرناه في مقالنا السابق على لسان أحد الخبراء الدوليين، والذي أشار إلى غياب التنسيق الاستراتيجي بين المنظمة الأممية والمؤسسات الإقليمية، باعتبارها تمثل منصات رئيسية لوساطة شفافة مصممة خصيصًا للسياق السوداني، كما أشار منتقدا غياب المشاركة الفعالة للمدنيين السودانيين في هذه الاستراتيجية، رافضا أن يكون هذا الإشراك عشوائيًا أو غير كامل، بل يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية المجتمع الدولي والإقليمي الشاملة، وركنا أساسيا في أنشطته الأساسية، بما في ذلك تعيين فريق مخصص للتعامل مع السياسيين وقيادات المجتمع المدني.
أخيرا، وبدل أن تحتوي أجندة حراك المجتمع الدولي على عموميات، أو مناشدات وإدانات مكررة بدون أي ردود فعل إيجابية تجاهها، أو مجرد عناوين لما يجب أن يفعل دون توفير تدابير وآليات للشروع العملي في التنفيذ، أن تركز الأجندة على كيفية التنفيذ العملي لثلاث قضايا أساسية: وقف إطلاق النار بدءا بمنع تدفق الأسلحة، تكثيف وتوصيل المساعدات الإنسانية ومنع استغلالها من أي طرف، وحماية المدنيين.
* القدس العربي