أضحى جدل الهوية في السودان بين العروبة والأفريقانية والإسلام من قبل الاستقلال وحتى تاريخه، سمة ملازمة للدولة القُطرية مما ألقى بظلاله على المشهد السياسي المعقد الذى تأثر بتداعيات فشل مشروع الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وعدم قدرتها على تحقيق الاندماج القومي، كما أدى تفاقم سوء إدارة الاقتصاد والبلاد، وعدم عدالة تقسيم الثروة والموارد إلى تعقيد أزمات البلاد ما قاد إلى نشوء حركات مطلبية تحول بعضها إلى صراعات دامية، فضلا عن دور المتغير الخارجي في دعم وتغذية تلك الصراعات والتدخل في تفاعلاتها المختلفة كما هو الحال في جنوب البلاد (سابقا) وشرقها (ولايات شرق السودان) وغربها في دارفور والحرب المستمرة منذ أبريل 2023م والتي تكاد تكون آثارها عمت معظم ولايات البلاد، لعب المتغير الخارجي بقيادة أمريكا والدول الغربية وبعض دول الجوار دورا محوريا في تزكية تلك الصراعات على النحو التالي:

ملامح عامة من تاريخ ذريعة التدخل الدولي الإنساني في شؤون السودانية الداخلية 1955-2019م:

– التدخل في جنوب السودان: بدأ التمهيد لفكرة إشعال الحرب في السودان عبر محاولات فصل الشمال عن جنوب منذ عام 1898م حيث وُضعت اللبنات التي تكفل القطيعة التدريجية بين أبناء الوطن الواحد حينما تبنت الإدارة البريطانية الاستعمارية في السودان قانون سياسة المناطق المقفولة في عام 1904م، واستمرت الإدارة الاستعمارية في صنع عقبات لزرع الفتنة حتى عام 1955م، أي قبل الاستقلال بعام واحد عندما اندلع تمرد حركة أنانيا الانفصالية التي تشير بعض الكتابات إلى أنها كانت بدعم من الكنيسة الكاثوليكية بالمنطقة الاستوائية بالجنوب، ثم اندلعت الحرب في الجنوب، واستمرت من 1959 حتى 1972م بتوقيع اتفاقية أديس أبابا للسلام التي كان للمجلس العالمي للكنائس دور محوري فيها تحت ذريعة الغوث الإنساني الذي اضطلعت به منظمات الإغاثة الغربية مثل
World Vision and Christian Aid
انهار اتفاق أديس أبابا في عام 1972م لثلاثة أسباب رئيسية هي: معارضة القوى الجنوبية لاتفاقية قناة جونقلي، الخلاف حول منطقة أبيي، والخلاف حول استخراج النفط في الجنوب، ثم شكل تطبيق الشريعة في عام 1983م ذريعة أخرى لانطلاق الحرب بين الشمال والجنوب ليبدأ معها التدخل تحت ذريعة الإنسانية منذ عام 1989م، ففي عهد إدارة الرئيس بوش الأب الذي اقتصرت إداراته على الاهتمام بأعمال الإغاثة أصبحت الولايات المتحدة من أكبر المساهمين في برنامج “شريان الحياة” الذي انطلق في عام 1989م، ثم تدخلت الإدارة الأمريكية عبر ما أسمته كذبا “لائحة الدول الراعية للإرهاب” في أغسطس 1993 وبعده قدمت الإدارة الأمريكية مبلغ عشرين مليون دولار إلى جيران السودان الثلاثة إثيوبيا وإريتريا وأوغندا لدعم تجهيزاتهم العسكرية في مواجهة السودان؛ بسبب توتر علاقاتهم مع الخرطوم، وفي عام 1997م فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية أحادية على السودان، وفي 1998م ضربت مصنع الشفاء للأدوية تحت ذريعة مكافحة الإرهاب ثم في أكتوبر 2001م أقر مجلس الشيوخ الأمريكي قانون سلام السودان للضغط على حكومة السودان والحركة الشعبية للدخول في مفاوضات سلام بصورة جدية، وبعد كل تلك الذرائع تبنت أمريكا على عهد الرئيس بوش الابن في عام 2001م وساطة لتعيد الحيوية إلى وساطة دول الإيقاد لحل النزاع في الجنوب، زاعمة كذبا بأن تلك الوساطة ستفتح الباب إلى تحقيق السلام وتدعم التحول الديمقراطي والتوجه نحو التنمية مدعومة بالعائدات النفطية.

استغلالا للأوضاع الإنسانية في جنوب السودان حينها أطلقت الأمم المتحدة عملية قوس قزح للغوث الإنساني في عام 1986م تحت رعاية برنامج الغذاء العالمي، إلا أنها فشلت ثم أطلقت عملية أخرى في عام 1989م -وبضغط من أمريكا والدول الغربية- عرفت بعملية “شريان الحياة” التي شارك فيها برنامج الغذاء العالمي وصندوق الأمم المتحدة لرعاية الأمومة والطفولة و35 منظمة طوعية (بدعم سخي من أمريكا) لتقديم الإغاثة للمناطق المتأثرة بالحرب في جنوب السودان وتحت هذه الظروف تكثفت الضغوط على حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان للدخول في مفاوضات للسلام.

عرفت مفاوضات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية بمفاوضات نيفاشا التي انطلقت في مايو 2002م، واستمرت حتى ديسمبر 2004م لِتَوَقَّعَ اتفاقية سلام نيفاشا في عام 2005م والتي كان أهم بنودها السماح لجنوب السودان باستفتاء حول حق تحديد المصير الذي أجري بالفعل في عام 2011م وانتهى بفصل الجنوب عن السودان مكونا جمهورية جنوب السودان في يوليو 2011م وعاصمتها جوبا، يُشارُ إلى أن اتفاقية نيفاشا حوت من ضمن بنودها كذلك قنابل ملغومة ستظل قابلة للانفجار عاجلاً أو آجلاً وهي: اتفاقية المناطق الثلاث (أبيي، جنوب كردفان والنيل الأزرق) وترسيم الحدود بين الشمال ودولة جنوب السودان الجديدة.
يلاحظ أن كل تحركات الإدارة الأمريكية والدول الغربية (مستغلة منظمة الإيقاد) كانت تحت ذرائع مختلفة ومُختَلقة منها الإنسانية عبر شريان الحياة والسياسية عبر ما عرف بقانون سلام السودان ولائحة ما سمي بقائمة الدول الراعية للإرهاب وكانت تهدف كلها إلى تحقيق المصالح الأمريكية والغربية بفصل جنوب السودان لوقف المد الإسلامي في إفريقيا وتجميل صورة أمريكا في العالم الإسلامي التي تشوهت بانتهاكاتها لحقوق الإنسان تحت ذريعة مكافحة الإرهاب خاصة في العراق وفضائح سجن أبو غريب على وجه الخصوص.

– التدخل في دار فور: يعود أصل النزاع في دارفور ربما إلى أيام سلطنة دارفور الإسلامية التي امتدت في الفترة ما بين 1445-1874م حينما كانت ضمن سلطنات وممالك إسلامية في الحزام السوداني، وأصبحت دارفور جزءا مما عرف استعماريا بالسودان المصري العثماني منذ 1874م، كانت دارفور من قواعد الانطلاقة الكبرى للثورة المهدية، وكافحت الاستعمار البريطاني في عهد سلطانها على دينار إبان الحرب العالمية الأولى، ثم انضمت إلى السودان سنة 1916م، كانت قضية الحرب في دارفور نتاجاً طبيعياً لتراكم مجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تداخلت فيما بينها، واُستغلت من قبل قوى خارجية لها استراتيجيات تهدف إلى تطبيقها من خلال فرض وجودها في معالجة الأزمة تحت عدة ذرائع منها التدخل الدولي الإنساني الذي يهدف في حقيقته إلى تحقيق مصالح أمريكا والدول الغربية في دارفور.
صعدت القوى الغربية أزمة دارفور مستخدمة سلاح الإعلام مدعية أنها أسوأ كارثة إنسانية في مطلع القرن الحادي والعشرين، وعمل الإعلام الغربي على تضخيمها وعرضها بالصورة التي تخدم مصالحه مستغلا الترويج للتدخل الإنساني تحت ذريعة حماية حقوق الإنسان وتوصيل الغوث الإنساني في دارفور ولو على حساب انتقاص سيادة الدولة السودانية مع العلم أن الهدف الرئيسي هو الطمع فيما يزخر به إقليم دارفور من ثروات طبيعية ومتنوعة أهمها الثروة المعدنية الهائلة وكذلك التخوف الغربي بشكل عام من امتداد التأثير الإسلامي في جنوب القارة حيث يعد ذلك تهديدا لمصالحه.
يتواصل

د. أحمد عبد الباقي
المحقق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: والدول الغربیة جنوب السودان فی دارفور تحت ذریعة الحرب فی فی جنوب فی عام

إقرأ أيضاً:

نزوح جماعي في الفاشر.. والبرهان يتلقى رسالة من غوتيريش (شاهد)

تتواصل معاناة المدنيين في مخيمات مدينة الفاشلة وأجزاء من ولاية شمال دارفور، بسبب الحصار المطبق الذي تفرضه قوات الدعم السريع.

وصباح الخميس، أعلنت مصادر طبية مقتل 11 مدني وإصابة 35 في قصف الدعم السريع لمخيم أبو شوك وأحياء في الفاشر.

بدورها، قالت الأمم المتحدة إن سكان الفاشر وطويلة وأجزاء أخرى من ولاية شمال دارفور يواجهون "وضعا مروعا" بسبب النزوح الجماعي وسقوط ضحايا من المدنيين وتزايد الاحتياجات الإنسانية، حيث سعى العديد من المدنيين إلى إيجاد الأمن والمأوى بعد استيلاء قوات الدعم السريع على مخيم زمزم.

وأفاد شركاء الأمم المتحدة في المجال الإنساني على الأرض أن مئات الآلاف من سكان المخيم فروا إلى مواقع أخرى.

وفي مؤتمر صحفي اليوم الأربعاء، ذكّر المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، بأن بعض سكان المخيم كانوا يعيشون فيه منذ بداية الصراع في دارفور عام 2003، وأنه تم تأكيد ظروف المجاعة هناك مؤخرا.

وقال: "إن التدفق الهائل للنازحين إلى المجتمعات والبلدات المضيفة حيث الاحتياجات مرتفعة بالفعل يخلق ضغطا حرجا على الخدمات الصحية والبنية التحتية للمياه وأنظمة الغذاء المحلية في جميع أنحاء شمال دارفور".

تطلق منظمة مناصرة ضحايا دارفور نداء إنساني عاجل بشان الوضع الإنساني والصحي للنازحين الذين فروا من مخيمي زمزم وأبو شوك إلى محلية طويلة بولاية شمال دارفور الفاشر هذا الفيدو يوثق حال الاطفال وهم يواجهون نقصاً في الغذاء والماء. pic.twitter.com/gM7V68WBTr — Darfur Victims Support (@DVSorg) April 24, 2025
القدرة على الاستجابة
وقال دوجاريك إن المنظمة وشركاءها الإنسانيين يوسعون نطاق عملياتهم لتلبية الاحتياجات المتزايدة في مناطق متعددة من الولاية، إلا أن حجم النزوح، إلى جانب انعدام الأمن والقيود اللوجستية المتزايدة التي أعاقت وصول المساعدات الإنسانية، "يُثقل كاهل القدرة على الاستجابة بشدة".

وأشار المتحدث باسم الأمم المتحدة إلى العمل على تنسيق مهمة عبر الحدود من تشاد إلى دارفور في الأيام المقبلة، ستحمل مساعدات لما يصل إلى 40 ألف شخص. بالإضافة إلى ذلك، تدير المنظمات غير الحكومية المحلية في الفاشر عيادات صحية متنقلة وعيادات تغذية، وقد أطلقت مشروعا لنقل المياه بالشاحنات، يوفر 20 مترا مكعبا من المياه يوميا لعشرة آلاف شخص.

ودعا دوجاريك جميع الأطراف إلى احترام القانون الدولي الإنساني، وضمان المرور الآمن للمدنيين، وتسهيل وتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.


لعمامرة يكثف المساعي
وفي سياق متصل، وصل المبعوث الشخصي للأمين العام إلى السودان، رمطان لعمامرة، إلى بورتسودان، حيث التقى بالجنرال عبد الفتاح البرهان قائد القوات المسلحة السودانية، بالإضافة إلى كبار المسؤولين الآخرين. 

وتأتي هذه الزيارة في إطار تكثيف مشاوراته وتواصله مع الأطراف وجميع الجهات المعنية
لاستكشاف سُبل تعزيز حماية المدنيين وأي جهد لتهدئة الصراع.

وقال دوجاريك إن المبعوث الشخصي سيؤكد من جديد خلال زياراته دعوة الأمم المتحدة إلى حوار عاجل وحقيقي بين أطراف الصراع من أجل وقف فوري للأعمال العدائية.

وجدد المتحدث دعوات الأمم المتحدة إلى عملية سياسية شاملة لمنع مزيد من التصعيد، وحماية المدنيين، وإعادة السودان إلى مسار السلام والاستقرار.

وأضاف: "نحث الأطراف على اغتنام فرصة زيارة السيد لعمامرة إلى البلاد والمنطقة للالتزام بالانخراط في طريق شامل للمضي قدما وتعزيز حماية المدنيين، بما في ذلك من خلال محادثات غير مباشرة محتملة".
جابر للعمامرة: ما يحدث في الفاشر لتجويع مواطنيه والترويج لمجاعة في السودان فرية لتمرير اجندات خاصة

اكد عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق مهندس إبراهيم جابر خلال لقائه بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للسودان، السفير رمطان لعمامرة، عدم وجود مجاعة في السودان. pic.twitter.com/2DjqpA8f4R — SUDAN News Agency (SUNA) ???????? (@SUNA_AGENCY) April 24, 2025
وفي السياق، تسلّم رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، مساء الأربعاء، رسالة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تتعلق بدور المنظمة الدولية في دعم جهود إحلال السلام بالسودان.

جاء ذلك خلال لقاء عقده البرهان، بمدينة بورتسودان (شرق)، مع المبعوث   رمطان لعمامرة، بحضور وكيل وزارة الخارجية السودانية إدريس إسماعيل، وفق بيان صادر عن مجلس السيادة.

وقال إسماعيل، في تصريح صحفي، إن "لعمامرة، نقل لرئيس مجلس السيادة رسالة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تتعلق بدور المنظمة الدولية بشأن السودان سلما وحربا"، حسب البيان.

ومنذ نيسان/ أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 15 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، بينما قدر بحث لجامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.

وجدد البرهان، خلال اللقاء، الإعراب عن "ثقة السودان في الدور الكبير الذي تضطلع به الأمم المتحدة تجاه قضايا السودان"، وفق البيان.

وأكد "دعم هذا الدور من أجل تحقيق السلام والأمن، مع استعداد السودان لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع المحتاجين".

وتسارعت انتصارات الجيش في ولاية الخرطوم بما شمل السيطرة على القصر الرئاسي، ومقار الوزارات بمحيطه، والمطار، ومقار أمنية وعسكرية.

وفي الولايات الـ17 الأخرى، لم تعد "الدعم السريع" تسيطر سوى على أجزاء من ولايتي شمال كردفان وغرب كردفان وجيوب في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، بجانب 4 ولايات من أصل 5 بإقليم دارفور (غرب).

مقالات مشابهة

  • الرزيقات بين فرية التحريض وسندان الوطن الجريح
  • صربيا تطلب التدخل في قضية السودان ضد الإمارات بمحكمة العدل الدولية.. لماذا؟
  • السودان .. قطع الكهرباء عن ولايتي نهر النيل و البحر الأحمر
  • سفير السودان بالهند يدعو المجتمع الدولي للضغط علي الدول الداعمة للمليشيا لوقف الانتهاكات
  • السفير حسام زكي: الوضع الإنساني في السودان كارثي .. فيديو
  • مقتل عشرات المدنيين في مجزرة للدعم السريع بغرب كردفان
  • نزوح جماعي في الفاشر.. والبرهان يتلقى رسالة من غوتيريش (شاهد)
  • رؤية نقدية لمؤتمر لندن للقضايا الإنسانية حول السودان
  • دارفور التي سيحررها أبناء الشعب السوداني من الجيش والبراءون والدراعة ستكون (..)
  • وقطع (هلال) قول كل خطيب!!