ينسب الى لويس الرابع عشر كلماته المشهورة- l’état c’est moi ” أنا الدولة” ويحسب بعض المؤرخين أنها قد تكون من بين الأسباب غير المباشرة لتفجر الثورة الفرنسية لاحقاً ومهما يكن الأمر وجدتني أتأمل و أتذكر هذه المقولة وما تنطوي عليه من المعاني والمدلولات و أتساءل هل كان القائل يحاول أن يعرف ماهية الدولة وهل تحتاج الدولة الى تعريف؟ وهل من مهام رجل الدولة أن يعرف ماهية الدولة؟ أم أنها بالأحرى مهمة المفكرين.

يقال أنه من أصعب الأشياء محاولة تفسير الأشياء الأولية أو في أطوارها الأولية – prototypes كذاك الذي فسر الماء بعد الجهد بالماء.
هل كان القائل يرمي الى تجسيد الدولة ، وهل تحتاج الدولة الى تجسيد، فجسدها في شخصه فقط هو و ليس في أشخاص آخرين مما جلب عليه نقمة الناقمين وصوروه بأنه يمثل السلطوية والأوتوقراطية في أوج تحكمها وسيطرتها.
وهل تحتاج الدولة الى تجسيد؟ هل كانت كلماته التي أطلقها ولا يزال صداها يتردد عبر القرون مجرد زلة لسان أم أن لويس حاول بمقولته أن ينقل مفهوم الدولة من عالم المُثُل الأفلاطوني، عالم الأفكار التجريدية المحضة الى عالم الحقائق الموضوعية المادية الماثلة للعيان و التي تدركها الحواس منذ الوهلة الأولى.
الدولة يمثلها رجال الدولة من مدنيين وعسكريين تمثلها البيروقراطية المدنية والعسكرية الدبلماسيون و المعلمون و العمال والزراع و التجار ورجال الأعمال والمال و مقدمي الخدمات و المنتجين وغيرهم كثيرين ممن يتعامل المواطن معهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تصريف أمور الحياة وشؤونها اذا كان لابد من تعريف الدولة فهي كيان يعبر عنه نشاط متشعب متمدد متعدد الجوانب والمجالات والأغراض ,متغير تعتريه المتغيرات متبدل لا يستقر على طور شامل متناسق متكامل متطور الخ كل هؤلاء الأشخاص الطبيعيين أو الإعتباريين لا يدعون انهم الدولة و يقولون أنهم رجال الدولة حيناً أو ممثليها أحياناً وهذا صحيح لأن الدولة تقبع في عالم المُثُل وتحتاج أن تتنزل الى عالم الواقع. من الملاحظ أنه لم يدعي أحد عبر عصور التاريخ الإنساني أنه الدولة بخلاف لويس الرابع عشر وهذا يجعل كلماته لا تخلو من الطرافة بالرغم من وضوح خطلها و مجافاتها لحقائق الحياة و التاريخ.
الدولة لها علاقة ما بالرمزية لان علاقتها برجالها تحكمها الرمزية فنحن نقول رجال الدولة، إذن الدولة شيء آخر غير رجالها وغير ممثليها وغير رمزها الأعلى ومن ثم يتضح خطأ لويس فهو في أحسن الأحوال ليس الا رمز الدولة و ليس الدولة نفسها كما إدعى كاذباً ذاك الأوتوقراطي المتغطرس
إذن الدولة ليست سوى مفهوم تجريدي يحتاج الى التنزيل الى عالم الحقائق الأرضية الموضوعية ويحتاج الى التجسيد في شكل اشخاص أو مؤسسات طبيعيين أو إعتباريين ولكن هذا يقودنا الى جانب آخر من جوانب الاهتمامات الحياتية أو الثقافية الانسانية موازٍ لما ذكرناه سابقاً وهو جانب يتعلق بالأشياء المادية التي ينزع البعض نحو جعلها مثالية أي تماماً عكس ما فعله لويس الرابع عشر حين حول المثالي الى المادي المتجسد والأمثلة كثيرة على ذلك ومنها على سبيل المثال لا الحصر المثالية في عالم الحب حينما يعمد بعض العشاق الى تحويل المعشوق الى قيمة مثالية محضة منفصلة تماماعن عالم الماديات- idealization process وتوجد كذلك في عالم السياسة او ما يسمي بعبادة الشخصيات حينما يعمد أتباع الزعيم الى تحويل الزعيم من شخص عادي او رجل دولة عادي الى شخصية اسطورية ويضفون عليه من المناقب والصفات الخارقة مما يحول شخصيته شيئاً فشيئاً الى قيمة معنوية مثالية لا تنتمني الى عالم الحقائق المادية الموضوعية المتعارف عليها. وتوجد هذه النزعة أيضاً بقوة في الفكر الصوفي إذ غالباً ما يجنح المريدون الى إضفاء هالات القداسة على الشيخ وأنه قادر على فعل كذا وكذا من الخوارق وأنه يستطيع فعل أي شيئ قد يخطر ببال المريد أو لا يخطر وأنه يتمتع بقوة روحانية هائلة خارقة و ما اليه
مع الفارق بين هذا و ذاك فان الطوطمية و عبادة الاوثان لا تخرجان عن المفهوم المشار اليه لانها تنطوي على تحويل المادي سواء أكان الصنم او الطوطم أو مظاهر الطبيعة الى المثالي الذي تسبغ عليه صفات الألوهية
فهل هناك نزعة أو حاجة انسانية لتحويل المثالي الى مادي والعكس أي المادي الى مثالي هل هناك نهج انتهجه البشر من هذا القبيل منذ عصور التاريخ السحيقة ولايزال ماثلاً الى يومنا هذا وأننا متنازعون دوماً بين هذين القطبين
ينسب الى السياسي النمساوى مترنخ داهية السياسة الألمانية في القرن التاسع عشر قوله “إن الدولة كائن لا يتعبد” . ونستشف من هذا القول ,إذا صحت نسبته اليه، أنه كان يعتقد أن الدولة، بحكم طبيعتها ووظائفها، تتجسد في شخص غير طبيعي أو أشخاص غير طبيعيين-Artificial entity ولسبب آخر لا يفوت على فطنته وهو أن الشخص الطبيعي قد يتعبد و قد لا يتعبد
سرت كلمات مترنخ سريان النار في الهشيم أو سارت بذكرها الركبان كما كان يقول أسلافنا، تناقلها الرواة وتداولها العلمانيون من كل حدب و صوب وازدهرت في أوساطهم و في أدبياتهم وأصبحت شعاراً يرفعه دعاة الدولة المدنية في مواجهة دعاة الدولة الدينية.
أما كارل ماركس وهو أيضاً من كبار الفلاسفة والمفكرين والناشطين السياسيين في القرن التاسع عشر فكان يرى أن الدولة هي آلية القهر الطبقي التي سوف تنتفي حينما تفضي التطورات التاريخية اللاحقة، وفقاً لمنظوره للحتمية التاريخية ، الى إنتهاء المجتمع الطبقي ومن ثم إنتفاء وتلاشي الدولة تلقائياً اذ لن تعد هناك حاجة اليها. و,نفهم مما قاله ماركس أو دعى اليه أنه، أي مشروع إلغاء الدولة، هدف بعيد المنال لأن تحقيقه يتوقف على هدف أو مشروع آخر صعب المنال.

صلاح الدين التهامي المكي
sameki@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الى عالم

إقرأ أيضاً:

«الخارجية» ودورها في ترسيخ السياسة العمانية

وزارة الخارجية في أي دولة تحمل أهمية كبرى؛ فهي منوط بها ترجمة السياسة الخارجية وما تقوم عليه من مبادئ إلى مهام عملية تعزز مكانة الدولة بين المجتمع الدولي.

وتقوم وزارة الخارجية العمانية بهذا الدور على أكمل وجه.. وإذا كان الجميع، مؤسسات وأفرادا، مخاطبين كل حسب دوره في بناء الصورة الذهنية عن عُمان في الخارج فإن مهمة وزارة الخارجية أكبر وأساسية بل إن عملها يتمثل في ترجمة مبادئ السياسة الخارجية العمانية إلى واقع ملموس. وإذا كانت السياسة الخارجية العمانية قد اكتسبت سمعة طيبة بين الأمم والشعوب فإن لوزارة الخارجية العمانية دورا أساسيا في ذلك خاصة في تكريس الخطاب العماني المتزن المستمد من المبادئ والقيم العمانية ومن الإرث الدبلوماسي العريق الذي أسسه العمانيون عبر القرون الطويلة.

وجاء المرسوم السلطاني رقم 21 /2025 ليحدد اختصاصات وزارة الخارجية والتي بدت متنوعة وشاملة وتحقق طموحات عُمان المستقبلية في بناء صلاتها بدول العالم وتكشف أيضا عن رؤية دبلوماسية متكاملة سواء في بناء علاقات عُمان بالعالم أو في بناء منظومة المصالح العمانية حول دول العالم. وتؤسس الاختصاصات لفهم عميق لمسارات السياسية الخارجية العمانية. ورغم أن عِلم الدبلوماسية هو أحد الأوعية التي عبرها يمكن نشر السياسة الخارجية لسلطنة عمان إلا أن الترابط الكبير بين «السياسة الخارجية» و«الدبلوماسية» يكشف الدور الكبير المناط بالدبلوماسية لتحقيق ونشر السياسة الخارجية العمانية.

وأسند المرسوم السلطاني إلى وزارة الخارجية دورا أساسيا في متابعة التطورات السياسية العالمية، ورصد التحولات الإقليمية والدولية، وهو ما يعكس رؤية عُمان في ضرورة أن تكون السياسات الخارجية مبنية على قراءة متأنية للواقع الدولي.. فلا يمكن تحقيق استقرار داخلي دون فهم ديناميات العالم الخارجي، ولا يمكن بناء تحالفات استراتيجية دون امتلاك قدرة تحليلية متقدمة.

وتسهم «الخارجية» في تعزيز مسار الدبلوماسية الوقائية، من خلال تشجيع الحوار كوسيلة لحل النزاعات، والمشاركة الفاعلة في المنظمات الدولية، والعمل على صياغة مواقف سياسية عُمانية تبرز أمام المحافل العالمية كصوت داعم للأمن والسلم الدوليين.

ولا تقتصر تلك المهام على الشأن السياسي فقط، بل تمتد إلى مجالات أوسع تشمل الترويج للاستثمار، وتعزيز التبادل التجاري، والتعاون في المجالات الثقافية والعلمية، وهي مجالات تعكس فهما حديثا لمفهوم «القوة الناعمة». ولا شك أن نجاح سلطنة عُمان في ترسيخ صورتها كدولة داعية للسلام، ومنفتحة على العالم، يعتمد على التكامل بين جهودها السياسية والاقتصادية والثقافية.

وتسعى الوزارة في تطوير الكوادر الدبلوماسية من خلال الإشراف على الأكاديمية الدبلوماسية، مما يعزز من قدرة سلطنة عُمان على مواكبة المتغيرات العالمية بفاعلية، ويضمن استمرار نهجها الدبلوماسي الرصين.

إن قراءة الاختصاصات التي أنيطت بوزارة الخارجية تكشف عن فهم عميق لدور الدبلوماسية في هذه المرحلة من المراحل التي يمر بها العالم الذي تتشابك فيه المصالح والتحديات والذي لا يمكن السير فيه دون فهم ووعي بكل المتغيرات التي تحصل في العالم وكذلك سياقاتها التاريخية ومنطلقاتها الفكرية. وستواصل سلطنة عُمان دورها التاريخي في تشجيع الحوار والدعوة له باعتباره الخيار الأمثل في بناء العلاقات بين الدول الأمر الذي يؤكد التزام عُمان بمبادئ السلام والتنمية المستدامة.

مقالات مشابهة

  • سيارة تدهس المارة في مدينة مانهايم الألمانية
  • خدعة الثلاثة أحرف: كيف سقط الآلاف في فخ FBC وماذا نتعلم من فضيحة FTX؟
  • «الخارجية» ودورها في ترسيخ السياسة العمانية
  • مفاجأة.. لويس دياز يحسم مستقبله مع ليفربول
  • لويس إنريكي يشيد بأداء باريس سان جيرمان ويؤكد جاهزيته لمواجهة ليفربول
  • سوريا بين خرائط “برنارد لويس” وحكومة الجولاني (استطلاع)
  • سوريا بين خرائط “برنارد لويس” وحكومة الجولاني
  • عندما تُملي السياسة على التكنولوجيا.. كيف غيّر ترامب مسار غوغل؟
  • لويس إنريكي يعلن قائمة باريس سان جيرمان لمواجهة ليل
  • بريطانيا بين مراجعة ميزانيات الإنفاق وحسابات السياسة