عودة اليسار لا تعني مواجهة اليمين في إسرائيل
تاريخ النشر: 7th, September 2024 GMT
بنى بعض المراقبين تقديراتهم على عودة دور اليسار للتأثير بقوة في المسار السياسي داخل إسرائيل، على مظاهرة حاشدة خرجت الأحد الماضي نظمها اتحاد نقابات العمال، الهيستدروت، تضامناً من أهالي الأسرى والمحتجزين لدى حركة حماس، وتجاهل هؤلاء أن هذه أول مرة يعلو فيها صوت اليسار بهذه الدرجة من الارتفاع منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، وكانت ولا تزال الغلبة لليمين المتطرف للحكم في مفاصل الشارع والسياسة والحرب، وهو ما يستمد منه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو جزءا كبيرا من قوته السياسية، والأعلى ضجيجا وصخبا على الساحة الإسرائيلية.
حرّكت مظاهرة الهيستدروت الكثير من المياه للوقوف على شكل العلاقة بين اليسار واليمين، والتي ظهرت تجلياتها السلبية في السنوات الماضية، إذ مالت تماما ناحية الثاني، بالصورة التي يعتمد فيها تشكيل الحكومات على أحزابه المحسوبة على اليمين بألوانه المتباينة، والذي ازداد تغولا وحصد مكاسب متعددة، ونجح في توظيف حرب غزة في شرعنة الكثير من سياسات الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، وتحول إلى شبكة أمان لنتنياهو من أجل مواصلة الحرب على القطاع، ووضع خطة تعيد احتلاله، أو على الأقل إدارته بالطريقة التي تتواءم مع مصالح رئيس الحكومة الحالية.
بدت مظاهرة الهيستدروت الحاشدة كطيف عمالي مـرّ علينا واختفى سريعا، لأن محكمة العمل قضت بعدم قانونية التظاهر ورفضت التسييس، وهي رسالة ردع ليبقى اليسار كامنا، ولا يحاول الخروج على الجمهور علنا مرة أخرى، لأنه سيُصدم عمليا بمظاهرات أشد قسوة من قبل المتطرفين، وتنقل معركة الحرب من الكنيست والحكومة وبعض وسائل الإعلام إلى الشارع، وغالبا ستحسم لصالح المتشددين الذين يملكون غطاء سياسيا متماسكا من وزيري الأمن القومي والمالية، ناهيك عن استجابة كبيرة من جانب رئيس الحكومة لدعم التيار الذي يمثلانه.
من راهنوا على خروج الهيستدروت من قوقعته، تذكروا دوره في المظاهرات التي خرجت قبل اندلاع حرب غزة اعتراضاً على تغيير النظام القضائي، وتجاهلوا أن لا أحد تقريبا يتحدث عن هذه القضية في خضم ما يروج له اليمين من ضرورة توجيه الدفة نحو الشعب الفلسطيني، لتقويض حلمه في دولة مستقلة، وتعزيز السيطرة اليهودية الكاملة على المسجد الأقصى، وهو ما لا نسمع عنه اعتراضا واضحاً من أحزاب اليسار والجهات المحسوبة عليه.
لم يعد دور الهيستدروت قاصراً على الدفاع عن حقوق العمال، وانخرط في السياسة بشكل حوّله سابقا إلى قوة ثمينة لليسار من دون أن يتخلى عن المبادئ التوراتية الرئيسية التي تنطلق منها إسرائيل، وتكفي الإشارة إلى أن غالبية الحروب العربية الإسرائيلية اندلعت في عهد حكومات ينتمي قادتها لليسار، بينما عقدت اتفاقيات السلام في عهد حكومات يمينية ومتشددة.
والدلالة التي تكشفها هذه المسألة تكمن في سهولة الدخول في حرب، وصعوبة الوصول إلى السلام بين إسرائيل وأي من الدول العربية، لأن دعم الحرب يظل ثابتا في الذاكرة الجمعية لليهود، بينما التسوية السياسية بحاجة إلى إرادة وقوة وقدرة على المواجهة، لأن الأخيرة تحمل في جوهرها ما يعرف بالتنازلات من جانب إسرائيل.
يمثل الهيستدروت مصالح نحو 800 ألف عامل، وهي نسبة قليلة مقارنةً مع الجبهات التي يمثلها المتطرفون بمشاربهم المتنوعة التي أصبحت تقدر بالملايين، ومع اتساع رقعة الحركة أمام اليمين انكمش اتحاد العمال، وركز جل همه على مهمته الرئيسية المتعلقة بدعم المؤسسات الصناعية والمالية والاقتصادية التي قامت عليها إسرائيل أصلاً عام 1948، فالاتحاد تأسس قبل نحو عقدين من هذا التاريخ، ويقال دوماً إنه أقدم من الدولة نفسها، ولعب دورا حيوياً في تلبية احتياجات العمال في زمن هجرة اليهود إلى فلسطين في الفترة الأولى، كما أن ديفيد بن غوريون هو زعيم الهيستدروت في سنوات التأسيس، أصبح رئيساً للوزراء بعد ذلك.
كشفت الذكريات التي اجتّرها البعض مع مظاهرة اتحاد العمال عن نوع من التفاؤل وأنه سوف يلعب دوراً في الدفع نحو التعجيل بعقد صفقة الأسرى، وحث الحكومة على تليين موقفها، لكن ما حدث أن المظاهرة انفضّت سريعاً ومن غير المتوقع تكرارها بعد حكم محكمة العمل، ونتانياهو ضاعف شروطه بما يوحي أنه لا يعبأ بسماع الهيستدروت أو غيره من اللوبيات، ومصمم على استكمال مشواره في التصعيد.
أكدت المظاهرة ذاتها وجود انقسام داخل أهالي الأسرى وداعميهم حيال التوقيع على الصفقة، فهناك جبهة تعارضها، وتعتقد أن القبول بها في هذه الأجواء من قبيل الاستسلام لحماس، ما يعني أن اليمين نجح في اختراق أهالي الأسرى، ولم تعد العملية منحصرة في تحريرهم بأي ثمن سياسي، وهو الذي يمكن رئيس الحكومة من توسيع نطاق صلفه في المفاوضات، وعدم الاكتراث باليسار أو اتحاد العمال، فقد حلّت حكومة الحرب بعد خروج بيني غانتس منها، ولا يزال نتانياهو متماسكاً.
رسخت الحرب وتداعياتها مؤشرات خفوت دور اليسار قبلها، وعززت قوة اليمين داخل إسرائيل، الذي يريد قادته تأكيد أنه استوعب دروس الماضي بشأن الذهاب إلى عمليات سياسية للحفاظ على أمن الدولة، حيث اكتشف أن هذه المهمة تتحقق بالقوة وليس بالركون إلى السلام، ما يعني أن من يراهنون على تسويات رضائية إقليمية ودولية لن يحالفهم الحظ، فكل التصورات التي طرحها نتنياهو والتصرفات التي قام بها تؤيد خيار القوة، فضلا عما ينوي عليه من توجهات لتصفية القضية الفلسطينية.
يمكن أن تتغير هذه المعادلة في حالتين، الأولى: وجود ضغوط داخلية تجبره على الانحناء، وهي غير موجودة حتى الآن، بل على العكس ثمة قوة تساعده على المضي قدما في طريقه، والثانية: إرادة قوية من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي للعودة إلى خيار السلام وحل الدولتين، وهو ما يسعى نتانياهو إلى تحطيمه مسبقاً من خلال الحلقات العسكرية الجهنمية التي تتم في قطاع غزة والضفة الغربية، وخلق ذرائع لأزمة مع مصر بشأن ممر فيلادلفيا، والاستغراق في تفاصيلها، في حين تمضي قوات الاحتلال في مخططها لتفريغ القضية الفلسطينية من مضامينها.
ولذلك فالتئام مظاهرة لليسار، ولو كانت حاشدة، لا يعني التصدي لليمين أو الدخول في مواجهة ممتدة معه، فقد نجح نتانياهو في إيجاد مساحة مشتركة بينهما على الأهداف الكبرى للحرب، ويندرج التباين الحاصل حول صفقة الأسرى ضمن أدوات اللعبة التي يتقنها، إذ يعي أن استطلاعات الرأي تميل لصالحه، وكل خصومه السياسيين من اليسار أو اليمين لا يوجد من يهدده بالشكل الذي يجبره على التراجع وتقديم تنازلات لحماس، لأنه بات على يقين أن الضغط العسكري هو الطريق الوحيد لتحرير ما تبقى من الأسرى والمحتجزين، وأن الحركة خسرت قوتها الضاغطة.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: الهجوم الإيراني على إسرائيل رفح أحداث السودان غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية غزة وإسرائيل رئیس الحکومة
إقرأ أيضاً:
مهندس خطة الجنرالات: إسرائيل فشلت فشلا ذريعا في غزة
نقلت صحيفة معاريف عن رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق الجنرال المتقاعد غيورا آيلاند قوله إن "إسرائيل فشلت فشلا ذريعا في حرب غزة".
وأضاف آيلاند وهو -مهندس خطة الجنرالات لتهجير شمال غزة- أن هزيمة إسرائيل بحرب غزة يمكن قياسها من خلال معرفة من حقق أهدافه وأي جانب فرض إرادته على الآخر.
وأردف قائلا "بالنظر إلى اتفاق غزة فإن إسرائيل فتحت معبر رفح وانسحبت من محور نتساريم بينما عاد آلاف الفلسطينيين إلى الشمال".
وطُرح اسم خطة الجنرالات في وسائل الإعلام الإسرائيلية أول مرة مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وهي خطة عسكرية تتألف من مرحلتين، وفق ما أعلنه منتدى الضباط والمقاتلين في الاحتياط.
وقضت المرحلة الأولى من الخطة بتهجير السكان المتبقين حينها في شمال القطاع الذي كان من المفترض إعلانه منطقة عسكرية خلال المرحلة الثانية، على أن تعمم التجربة لاحقا على كامل أنحاء القطاع.
كما قضت الخطة بتحويل المنطقة الواقعة شمال محور نتساريم إلى منطقة عسكرية مغلقة وإرغام نحو 300 ألف فلسطيني في شمال القطاع على النزوح خلال أسبوع.
وتهدف الخطة إلى القضاء بشكل كامل على أي وجود لحماس في شمال القطاع من خلال إفراغ المنطقة من سكانها وتحويلها إلى منطقة عسكرية مغلقة ومنع دخول المساعدات.
إعلان
3 أخطاء إسرائيلية
وقبيل اتفاق وقف إطلاق النار، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، مقالا لآيلاند انتقد فيه الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في الحرب على غزة، مشيرا إلى أن الضغط العسكري وحده لم يكن كافيا لتحقيق أهداف إسرائيل، معددا جملة أخطاء وقعت فيها إسرائيل في سياق حربها على غزة.
وفي مقاله الذي حمل عنوان "استنتاجات حرب غزة: الضغط العسكري لا يكفي"، أكد الجنرال الإسرائيلي المتقاعد أن أحد أكبر الأخطاء كان تبني الرواية الأميركية التي تساوي بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وتنظيم الدولة الإسلامية.
ووفقا لآيلاند، فإن حماس ليست مجرد "تنظيم إرهابي فرض نفسه على سكان غزة"، بل هي "دولة غزة" التي أعلنت الحرب على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرا إلى أن الحروب بين الدول عادة ما تتضمن فرض حصار اقتصادي على العدو.
وبحسب هذه الرؤية، فإن إسرائيل لم تكن ملزمة بتزويد غزة بجميع احتياجاتها الأساسية في هذه الحرب، بل كان بإمكانها تشديد الحصار بشكل أكبر، على حد زعمه.
أما الخطأ الثاني الذي أشار إليه آيلاند هو فشل إسرائيل في استغلال نقاط ضعف "العدو"، حيث قال "تهدف الحروب إلى إجبار الطرف الآخر على التصرف ضد إرادته"، وإن هناك 3 طرق رئيسية لتحقيق هذا الهدف، حسب رأيه:
تطبيق عقوبات اقتصادية على العدو، مما يخلق غضبا ومرارة بين السكان، وهذا هو جوهر خطة الجنرالات التي اقترحها، وتم تطبيقها في شمال غزة. دعم حكومة بديلة داخل غزة، وهو ما رفضته إسرائيل طوال فترة الحرب. التهديد بفقدان الأراضي (التهجير بمعنى آخر)، وهي إستراتيجية لم تجربها إسرائيل بعد، على حد زعمه.وبحسب الجنرال، فإن إسرائيل قد اختارت إستراتيجيات تقليدية تركز على الضغط العسكري فقط، وهو ما كان خطأ فادحا لأنها لم تأخذ في الاعتبار أن حماس أعدت نفسها لمدة 15 عاما لمواجهة هذا النوع من الضغوط.
إعلان
أما الخطأ الثالث الذي ذكره آيلاند، فكان فشل إسرائيل في وضع خطة سياسية واضحة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب.
وأشار إلى أنه في زيارة الرئيس الأميركي حينها جو بايدن إلى إسرائيل عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، سُئل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن خطط إسرائيل للمرحلة التالية من الحرب، وكانت إجابة نتنياهو خالية من أي مضمون أو خطة محددة، حيث قال "عندما نصل إلى اليوم التالي، سنتحدث عن اليوم التالي".
ويرى آيلاند في تصريح نتنياهو إهانة وتخليا عن الحاجة إلى رؤية سياسية لإدارة مرحلة ما بعد الحرب. وعلى حد تعبيره، كان من الأفضل لو أن الحكومة الإسرائيلية أوضحت موقفها بأن إسرائيل ليس لها مصلحة إقليمية أو سياسية في غزة، بل لها مصلحة أمنية تتلخص في نزع السلاح الكامل للمنطقة. وكان يجب على إسرائيل أن تكون مستعدة لمناقشة أي خطة مع الدول العربية أو الغربية تتعلق بتوفير بديل سياسي يمكن أن يضمن نزع السلاح بشكل دائم.
وختم آيلاند مقاله بالتأكيد على أن إسرائيل بحاجة إلى إعادة تقييم إستراتيجياتها العسكرية والسياسية في الحروب القادمة. فالضغط العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الأهداف الكبرى في الصراعات، بل يتطلب الأمر التفكير العميق في الوسائل الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار النظام المعادي وتحقيق الأهداف الأمنية والسياسية على المدى البعيد.
وبحسب الجنرال، فإن الفشل في تبني هذه الإستراتيجيات قد يؤدي إلى نتائج غير مضمونة ويطيل أمد الحرب على القطاع دون تحقيق الانتصار الشامل.