المستشرق مرجليوث.. أفعي المحاصرة والتطويق
تاريخ النشر: 6th, September 2024 GMT
كان المستشرق الإنجليزي ديفيد صمويل مرجليوث أستاذا لتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة أكسفورد البريطانية في الفترة من 1889 إلى 1937، ولكنه وصف بالتعصب ضد المسلمين والخروج عن الموضوعية من قِبَل نقاده.
ذلك المستشرق القس، الذي فتن به طه حسين وعلي عبد الرازق، وأخذا عنه كتاب "الإسلام وأصول الحكم" كما أفاد بذلك عشرات الشهود والباحثين، وفي مقدمتهم الدكتور ضياء الدين الريس، في كتابه الفاصل "النظريات السياسية في الإسلام"، والعلامة الدكتور إبراهيم عوض حديثا.
ومن أهم ما قام به مرجليوث، لتدجين أبناء المستعمرات البريطانية في المشارق والمغارب، وتسميم أفكار أبنائهم، ما قام به عن كامل وعي مسبق، بترجمة كتاب " تاريخ التمدن الإسلامي" بأجزائه الخمسة للأديب اللبناني جورجي زيدان، وتقرير تدريسه من قبل أستاذ اللغة العربية المستشرق الألماني يوسف هارويز كمنهج دراسي على طلاب جامعة "عليكرة " في الهند "إحدى كبرى المستعمرات البريطانية، وأحد أضخم التجمعات الإسلامية العالمية أيضا".
وكذلك كان مرجليوث قد وضع عام 1905 كتابه الشهير "محمد ونشأة الإسلام" وكان غاصا بالاختلاقات الكاذبة، والتشويه العمدي، والتدليس المشين، ولما وجد الدكتور يوسف هارويز الأستاذ بجامعة عليكرة ضالته في هذا الكتاب أيضا قرر تدريسه هو الآخر بنفس الجامعة.
وجاء تدريسه ضمن مقررات درجة "المولوية" التي تعني "المشيخة"، فوقف لهم العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعماني، الذي كان يعمل بجامعة عليكرة أستاذا للغة العربية والأدب العربي، منذ يناير/كانون الثاني 1883 لما رأى من فرض وتدريس لمناهج خبيثة، ودسها بكل نعومة ودهاء.
ووجد هذا الالتفاف من مرجليوث، بالتعاون مع أحد أهم مساعدي المستشرقين في العالم "جورجي زيدان".. الذي كان وثيق الصلة بهم، وعمل من أول يوم في حياته، موظفا رسميا بوزارة المستعمرات البريطانية، ضمن جهاز المخابرات كمترجم بحملة "ويلسلي" التي أرسلها الإنجليز لإنقاذ "غوردون باشا" من المهدي ورجاله، الذين وصفهم جورجي زيدان بالأعداء العصاة.
ولما عادت الحملة من السودان بعد 10 أشهر، كرّمه الإنجليز بإهدائه النجمة الملكية الذهبية الإنجليزية، وميداليتين أخريين، زيادة في التقدير والتكريم.
يقول الدكتور محمد حرب: "ولم يستطع المؤرخون حتى الآن معرفة المهمة التي قام بها جورجي زيدان في السودان في ذلك الحين"، وقد كانت هذه الحملة عام 1884 وكان قوامها 7 آلاف من خيار الأشراف والنبلاء الإنجليز وأبنائهم.
وكانت هناك علاقة ثقافية واسعة بين العلامة شبلي النعماني وجورجي زيدان، حيث كان زيدان ينشر للعلامة النعماني بالهلال بصفة دائمة تقريبا، وبينهما مراسلات وعلاقات، ضمن الإطار الثقافي الذي كان يجمع كل الناطقين بالعربية بمصر في ذلك الوقت، باعتبارها قلب العروبة والثقافة والإسلام.
يقول العلامة الشيخ شبلي النعماني في "الانتقاد على التمدن الإسلامي" (طبعة الهند): "لما نشر زيدان ذلك، وكنت دائم التصويب والتصحيح له، ولكنه لما لم يجد من يرد عليه في المنطقة بأسرها، ووجد الجو صافيا.. فأرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية بالعرب، عموما وخلفاء بني أمية خصوصا".
ويتابع "وكان يمنعني من النهوض إلى كشف دسائسه، اشتغالي بأمر "ندوة العلماء".. لكن لما عمّ البلاء وتوسع الخرق وتفاقم الشر، لم أطق الصبر فاختلست من أوقاتي أياما، وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف، وإزالة ما فيه من الدس والإفك والزور، وأصناف التحريف والتدليس".
ولما وجد العلامة شبلي النعماني هذه الأفعال المطوقة لأبناء المسلمين، ما بين تعاون "مرجليوث ويوسف هارويز وجورجي زيدان".. قرر قطع صلته نهائيا بجورجي زيدان، وقام عام 1911 بوضع مؤلفه العلمي الرصين "الانتقاد على تاريخ التمدن الإسلامي للفاضل جورجي زيدان".
وقد طبع هذا الكتاب أول مرة بنفسه في إحدى مطابع لكنهؤ بالهند، في يناير/كانون الثاني 1912، ثم أرسله إلى رشيد رضا لينشره بالمنار في مصر، حيث كان له دور كبير ومبكر، في إماطة الأخطاء التي نسبها جورجي زيدان للتاريخ الإسلامي والتي دسها بنعومة وذكاء.
وهو الرجل الواعي بما يصنع، والذي بدأ حياته بحفظ المزامير، قبل تعلم القراءة والكتابة، بقبو القس إلياس، وقد وضع شبلي النعماني مؤلفه الفخم باللغة العربية، وكان يتقن العربية والإنجليزية والفارسية والهندية والأردية والتركية والفرنسية.
وبأرقى درجات الأدب، تناول شبلي النعماني، تصويب وتصحيح أوهام وتدليس ودسائس جورجي زيدان، لتكون الرسالة أتم وأبلغ.. بلسان عربي مبين، لأن روايات زيدان في ذلك الوقت، كانت قد لقيت رواجا منقطع النظير، بفضل الآلة الترويجية الميسرة والمسيرة، لمثل هذا النوع من الاختراق المفعم بالتشويه الناعم، والسم المعسول.
يقول محرم جلبي: "كان زيدان ينهج النهج الغربي في كل ما كتب، تحت تأثير المستشرقين.. خاصة من يحملون وجهة النظر المعارضة والمعادية للإسلام، من أمثال دي ساسي وبروكلمان ونولدكه وسيدي وفون كريمر وجولدتسيهر وغيرهم".
وكذلك لجدة فن الرواية في ذلك الوقت، وإتقان جورجي زيدان للتسلل من خلال هذا الفن الجديد، بحمل التاريخ في طياته، حتى حدا الأمر ببعض كبار المفكرين العرب أن يقول: "إنما جورجي زيدان أراد أن يعلمنا تاريخنا من خلال هذه الرواية التي ابتكرها وأضافها إلى أدبنا الجديد".
وكذلك دأب زيدان المنقطع النظير، الذي توفر فيه على كل وسائل النجاح والنشر التي وضعت تحت يديه وما أظن القروش والجنيهات التي ربحها زيدان في ذلك الوقت، كانت كافية لبناء هذا الصرح الفخيم بقلب القاهرة، والتي كانت الدولة نفسها لا تملك له مثيلا، والمسمى عن وعي مسبق "دار الهلال".
ومن الأيادي البيضاء أيضا لمولانا العلامة شبلي النعماني، أنه اقترب كثيرا جدا من العلامة الإنجليزي المفكر المنصف "توماس أرنولد T٠Arnold) "1864-1930) الذي كان يعمل أستاذا بنفس الجامعة، والذي كان من قبل، معلما مباشرا للشاعر المفكر الفيلسوف محمد إقبال.
واتفقا معا أن يعلم كل منهما الآخر لغة عالمية، حتى درجة الإتقان فكان على النعماني أن يعلم أرنولد اللغة العربية وآدابها، ونحوها وصرفها كذلك قام أرنولد بتعليم النعماني اللغة الفرنسية وتاريخها، ومناهج البحث بنفس الإتقان ويا طالما اصطحبا في رحلات علمية وسياحية حول العالم.
ومن المعروف أن "ديفيد مرجليوث" هو أول من شكّك في أصول اللغة العربية، وأول من شكك في الشعر الجاهلي القديم وفي مصدريته للغة والتاريخ، وخرج من نظريته تلك، بنتائج في غاية الخطورة، مفادها الشك في تاريخ الأنبياء والقرآن نفسه.
وكان أحد أهم من كتبوا دائرة المعارف البريطانية، كما كان عضوا بالجمعية الآسيوية الملكية، ثم أصبح رئيسا لها فيما بعد، كذلك كان عضوا بالمجمع اللغوي لمصر، والمجمع العلمي بالعراق.
لكنه كان يؤدي رسالته كقنصل من قناصل الاستعمار، الذي بدا في ثوب مستشرق، وفي زي باحث، وفي هيئة أستاذ جامعي ولغوي مرموق.
أهم المراجعأحمد حسين الطماوى: جورجي زيدان، "سلسلة نقاد الأدب 11" الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992.
أمين بن حسن الحلوانى: نبش الهذيان من تاريخ جورجي زيدان، دراسات منهجية في الاستشراق، مكتبة ابن القيم، المدينة المنورة، السعودية 1410ه/1989م.
محمد حرب: رحلة جورجي زيدان إلى الأستانة عام 1909، كتاب الهلال، دار الهلال.
شبلي النعماني: الانتقاد على تاريخ التمدن الإسلامي للفاضل جورجي زيدان، الهند،1911م.
شوقي أبو خليل: جورجى زيدان في الميزان، ط3، دار الفكر، دمشق، 1403ه/1983م.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات اللغة العربیة فی ذلک الوقت الذی کان زیدان فی
إقرأ أيضاً:
السؤال الذي يعرف الغرب الإجابة عنه مسبقا
لا يُمكن فصل السّيَاسات الدولية اليوم تجاه فلسطين أو تجاه كافة دول العالم الإسلامي عن الموقف من الإسلام في حد ذاته. تحكم السياساتِ الدولية بشكل عامّ مصالح وصراعاتٌ اقتصادية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي يُلاحَظ أن هناك عاملا خفيا يُغلِّف كل هذه السياسات له علاقة بكون هذه الدولة بها غالبية من المسلمين أم لا، بغضِّ النظر عن المذهب أو طبيعة نظام الحكم أو التاريخ أو الجغرافيا لتلك الدولة.
في آخر المطاف تجد اتفاقا بين الدول الغربية في أسلوب التعامل مع أي منها يقوم على فكرة مركزية مفادها ضرورة إذعان هذه الدولة للنظام العالمي الغربي والقَبول بهيمنة القواعد المتحكِّمة فيه وعدم الخروج عنها بأيِّ صفة كانت، وإلا فإنها ستُحارَب بكافة الوسائل والطرق. لا يهم إن كانت هذه الدولة فقيرة مثل الصومال أو غنيّة مثل السعودية أو تركيا أو إيران. جميعهم في نظر السياسات الغربية واحد، فقط هي أساليب التعامل مع كل منهم التي تختلف. بعضهم يحتاج إلى القوة وآخر إلى الحصار وثالث إلى التّهديد ورابع إلى تحريك الصراعات الداخلية إلى حد الاقتتال وسادس إلى إثارة خلافات حدودية مع جيرانه… الخ، أي أنها ينبغي جميعا أن تبقى في حالة توتر وخوف وقلق من المستقبل.
تكفي نظرة شاملة إلى المساحة الجغرافية التي ينتشر بها المسلمون عبر العالمتكفي نظرة شاملة إلى المساحة الجغرافية التي ينتشر بها المسلمون عبر العالم للتأكد من ذلك، فحيث لا يوجد إخضاع تام من خلال القواعد العسكرية المباشرة والقَبول كرها بخدمة المصالح الغربية، يوجد إخضاع غير مباشر من خلال الحروب الأهلية أو اصطناع الجماعات الإرهابية أو إثارة النّعرات القبلية والعرقية أو تحريك مشكلات الحدود الجغرافية.. نادرا ما تُترك فرصة لِدولة من دولنا لتتحرّك بعيدا عن هذه الضغوط. السيناريوهات فقط هي التي تتبدّل أما الغاية فباستمرار واحدة: ينبغي ألا تستقلّ دول العالم الإسلامي بقرارها، ومن الممنوعات الإستراتيجية أن تُعيد التفكير في مشروع وحدة على طريق جمال الدين الأفغاني في القرن التاسع عشر مثلا!
وهنا تبرز فلسطين كحلقة مركزية في هذا العالم الإسلامي، ويتحدد إقليم غزة بالتحديد كمكان يتكثف فيه الصراع.
ما يحدث في غزة اليوم ليس المستهدَف منه سكان فلسطين وحدهم، إنما كل كتلة العالم الإسلامي المفترض وجودها كذلك. أيّ إبادة لسكان هذا القطاع إنما تحمل في معناها العميق تهديد أي دولة من دول العالم الإسلامي تُريد الخروج عن هيمنة النظام العالمي الغربي المفروض بالقوة اليوم على جميع الشعوب غير الغربية، وبالدرجة الأولى على الشعوب الإسلامية.. وكذلك الأمر بالنسبة للحصار والتجويع والقهر بجميع أنواعه. إنها ممارساتٌ تحمل رسائل مُوجَّهة لكافة المسلمين ولكافة دول الجنوب الفقير وليس فقط للفلسطينيين في قطاع غزة بمفردهم. محتوى هذه الرسائل واحد: الغرب بمختلف اتجاهاته يستخدم اليد الضاربة للصهيونية في قلب أمة الإسلام، ليس فقط لإخضاع غزة إنما إخضاع كل هذه المساحة الجيوستراتيجية الشاسعة لسيطرته الكاملة ثم إخضاع بقية العالم.
يُخطِئ من يحاول إقناع نفسه بأنه بمنأى عن هذا الخطر! أو أن الغرب هو ضد حماس فقط
وعليه، فإن السلوك المُشتَّت اليوم للمسلمين، وبقاء نظرتهم المُجزّأة للصراع، كل يسعى لإنقاذ نفسه، إنما هو في الواقع إنقاذٌ مؤقت إلى حين تتحول البوصلة نحو بلد آخر يُحاصَر أو يُقَسَّم أو تُثار به أنواع أخرى من الفتن… ويُخطِئ من يحاول إقناع نفسه بأنه بمنأى عن هذا الخطر! أو أن الغرب هو ضد حماس فقط أو ضد حركة الجهاد في فلسطين، ذلك أن كل الاتجاهات الإسلامية هي في نظر الاستراتيجي الغربي واحدة، تختلف فقط من حيث الشكل أو من حيث الحدة والأسلوب. لذلك فجميعها موضوعة على القائمة للتصفية يوما من الأيام، بما في ذلك تلك التي تعلن أنها مسلمة لائكية حداثية أو عصرية!.. لا خلاف سوى مرحليًّا بينها، لا فرق عند الغربيين بين المُعمَّم بالعمامة السوداء أو البيضاء أو صاحب ربطة العنق أو الدشداش أو الكوفية أو الشاش، ولا فرق عندهم بين جميع أشكال الحجاب أو الخمار أو ألوانها في كل بقعة من العالم الإسلامي، جميعها تدل على الأمر ذاته.
وفي هذه المسألة بالذات هم متّحدون، وإن أبدوا بعض الليونة المؤقتة تجاه هذا أو ذاك إلى حين.
فهل تصل الشعوب والحكومات في البلدان الإسلامية إلى مثل هذه القناعة وتتحرّك ككتلة واحدة تجاه الآخرين كما يفعل الغرب الذي يتصرّف بشكل موحد تجاه المسلمين وإنْ تنافس على النيل منهم؟
ذلك هو السؤال الذي تحكم طبيعة الإجابة عنه مصير غزة وفلسطين.. ومادام الغرب يعرف الإجابة اليوم، فإنه سيستمرّ في سياسته إلى حين يقضي الله تعالى أمرا كان مفعولا وتتبدَّل الموازين.
(نقلا عن صحيفة الشروق الجزائرية)