ذهب البعض إلى جعل "الحرية الفردية" أولوية، والقيمة العليا من بين القيم الأخرى. وأصروا على مناقشتها كقيمة مجردة، بمعزل عن التجربة الغربية وما انتهت إليه من ظلم عالمي يمارسه الغرب ضد غالبية شعوب العالم، وما انتهت إليه من دمار للطبيعة والمناخ، ومن طغيان واحتكار للسلطة والثروات الخيالية في يد بضعة أفراد.
ومع ذلك، يواصل البعض إصرارهم على مناقشة "الحرية الفردية" في إطارها النظري المجرد، باعتبارها أرفع القيم الإنسانية، وينسون – أو يتناسون – ما أسفرت عنه حين تنزلت إلى موضع التطبيق، ولا سيما خارج الإطار الغربي. وهنا نطرح الملحوظات التالية:
عندما يدعو مبدأ الحرية الفردية إلى حق، أو حرية، كل فرد أن يعمل ما يشاء، أو يعتقد بما يشاء، ويعبّر علنًا عن كل ما يعتقد به، أو يريد أن يقوله، يرد على ذلك بنقطتَين: أن يعمل كل فرد ما يشاء يطرح السؤال فورًا: هل الأعمال التي يمكن أن يختارها الفرد متساوية، أو يمكن وضعها في سلة واحدة؟ ألا يجب فرز الأعمال الشريرة أو الضارة بالحياة والمجتمع والوطن عن الأعمال التي تدخل في الخيرية أو الحيادية غير المؤذية أو المشروعة.المنطق السليم، أن صيغة كهذه لا يجوز طرحها على إطلاقها، دون ضوابط وتمييز بين الأعمال. كذلك الأمر بالنسبة لحرية التعبير عن الرأي، فهي إن أطلقت بلا ضوابط أو حدود، أدّت إلى فوضى، بل إلى تفاقم خلاف الرأي إلى عداء وربما ما هو أكثر من ذلك. ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالاستهزاء بالدين والمعتقدات وأفكار الآخرين، أو المساس بقضايا الشرف والحريات الشخصية، أو إطلاق الاتهامات والإشاعات جزافًا.
هنا أيضًا لا ينبغي أن تكون حرية التعبير عن الفكر والرأي مطلقة، دون ضوابط وروادع قانونية، كما فعلت كل الدول الغربية، حيث أصدرت قوانين تحمي الأفراد، وتحظر المساس بالمحرقة أو كل ما يعتبرونه ضد السامية بالرأي أو الدراسة، لكنها أفسحت الساحة على اتساعها للهزء بمعتقدات ورموز الإسلام.
الحرية الفردية، دون ضوابط، تصبح امتيازًا واحتكارًا عمليًا، وتؤدي إلى نفي ما توحي به من حرص على تمتّع الإنسان بالحرية
عندما تُطرح الحرية الفردية، أو حرية الفرد، يُفترض أن تشمل جميع أفراد المجتمع. وهنا يُفترض أن يتمتع جميع الأفراد، أو غالبيتهم، وفقًا لهذه الفرضية، بقدرة على ممارسة الحرية الفردية بشكل عادل، ومن نقطة انطلاق متساوية، كما هو الحال في السباقات. ولكن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تُظهر تفاوتًا كبيرًا في الإمكانات بين الأفراد، أو بين فئة قليلة من الأفراد وأغلبية المجتمع. ونتيجة لذلك يحدث الاستقطاب، وتتشكل الفروق الطبقية والجهوية والعصبية، سواء قبل المنافسة أو بعدها.يعني ذلك أن حرية الفرد لا تتضمن العدالة في ممارستها لجميع الأفراد. وبالتالي، تصبح الحرية الفردية، في غياب الضوابط، امتيازًا واحتكارًا عمليًا لفئة معينة، مما ينفي ما توحي به من تمتع الجميع بالحرية الفردية. وهذا ما حدث في التجربة الغربية.
لذلك، يجب أن تسبق الحرية الفردية أو ترافقها قيم العدالة والمساواة في الفرص المتاحة للأفراد في ممارسة هذه الحرية. بل يجب وضع ضوابط تمنع سيطرة الأقلية على الحرية الفردية وتحكمها بها. إن قراءة دقيقة للوضع العالمي تكشف أنه منقسم إلى مجموعة صغيرة من الدول الغربية التي تتحكم بالسيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية والمالية، وصولًا إلى الجامعات والمؤسسات الإعلامية والبحثية والعلمية والثقافية. وهذا ما يجعل الشعوب والدول الأخرى غير طليقة اليد، ولا تملك الحرية في اختيار النظام الذي تريده، بما في ذلك مستوى وكيفية التعامل مع قضايا الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. وذلك ما دامت هذه الدول قادرة على فرض الحصار على الدولة المغضوب عليها، وتقييد اقتصادها، وبالتالي إغلاق الطرق أمامها، بما في ذلك مستوى وكيفية ممارسة مبدأ الحرية الفردية، أو تحويله إلى نقطة اختراق ضدّ الدولة المعنية. ولهذا، فإن قضية الحرية الفردية، من حيث فرادتها بحدّ ذاتها، بعيدًا عن النموذج الغربي، لا يمكن طرحها من دون ربطها بالوضع العالمي، خصوصًا في ظل سيطرة النظام الغربي على النظام الدولي وقدرته على ممارسة الضغوط السياسية والمالية والاقتصادية. عندما يذهب مبدأ الحرية الفردية إلى ما قد يحطم الروابط العائلية والأهلية والتقاليد الاجتماعية، اقتداءً بما يجري في الغرب، سواء أكان ذلك بالضغط الغربي، أم كان بالاقتداء الحر أو القناعة بعيدًا عن ذلك الضغط، يؤدي هذا إلى كوارث إنسانية تنزل بالشعوب الضعيفة أو المحرومة من الوصول إلى الثراء الذي تتمتع به الدول الغربية. وذلك حين يُطلب من الدولة تأمين الشيخوخة، والبطالة، والصحة، والأمن الذاتي. لأن الروابط العائلية، وما يعتبر التكافل الاجتماعي، حين يدمران يؤديان إلى تفكك الروابط العائلية والاجتماعية، فضلًا عن دورهما وأهميتهما خارج مسؤولية الدولة. الأمر الذي يوقع كوارث على مستويات الشيخوخة والبطالة والكوارث الاقتصادية والسياسية، أو مواجهة الحصار والأزمات، أو مواجهة الحروب أو الكوارث الطبيعية. لهذا فإن الحرية الفردية يجب أن تكون متوازنة في النظر إلى الرابطة العائلية، والتقاليد الخاصة بالتكافل الاجتماعي، إذ تقومان مقام ما تؤمنه دولة الرفاه في الغرب من التزامات تتعلق بالشيخوخة والبطالة، والصحة، وحتى فرص التعليم والتطور الفردي. وكيف في ظل ظروف دول تعاني من المديونية والفقر؟ ومن ثم لا بدّ من إحالة الكثير من الصعوبات الحياتية في مواجهتها إلى العائلة والروابط العائلية. ومما يزيد الطين بلة، ما يقوم به دعاة الحرية الفردية من نقد للرابطة العائلية والتقاليد، تحت الهجوم على الذكورية والتقاليد الاجتماعية، وما يسمى "التخلف". فالتنمر لا يقتصر على ما يحدث بين الأفراد، بل هناك الكثير من التنمر على التقاليد وتخلف الشعب. مشكلة الحرية الفردية تبرز عند التنافس الذي تطلقه، خصوصًا بين الأقوياء في الصراع على السلطة والثروة، إذ تتوارى إلى الخلف لتفسح المجال لصراع الأفراد، ما يعكسه التنافس في اللعبة الديمقراطية. وبهذا تبدو الحرية الفردية الغطاء المناسب لانفلات التنافس بين الأفراد الأقوياء تحت رايتها، فيما أغلبية الأفراد عليهم أن يتبعوا أطراف هذا الصراع أو يُهمشوا، حيث لا مكان هنا للحرية الفردية، فتتحول إلى حقٍ لا يُمارس. عندما تتقدم الحرية الفردية على عدم احترام حاجات كثيرة لكل الأفراد أو الأغلبية، وتطغى أيضًا على القيم والحاجات الفردية الأخرى، مثل احترام كرامة الإنسان، وتأمين حاجاته الأكثر راهنية وإلحاحًا، أو ضرورة وطنية، يُساء إلى الفرد ويُخل بتوازنه. هذا فضلًا عن شروط أخرى لا تقلّ أهمية، مثل حق الفرد في العمل والتعليم والضمانات الصحية أو الأمن الخاص والحماية الاجتماعية والعدالة. أما في المقابل، فعدم تشجيع أخلاق الخداع والنفاق والانتهازية والأنانية والشراهة وراء المال، والحصول على الملذات، فيما الأغلبية محرومة من أولويات متطلبات الحياة، بالنسبة إلى الأفراد من الطبقات والفئات الفقيرة والمهمشة. هذا كله يفسر تحول مبدأ الحرية الفردية إلى سلاح يستخدمه الغرب لإضعاف الأمة أو اختراق توجهات شبابها. ومن ثم لا معنى للتركيز على الحرية الفردية في ظروف افتقار أغلبية الأفراد لكل ما تقدم. ناهيك عن حرية الشعب والوطن، وحرية البلد واستقلاله، وتمتعه بخيراته. ولهذا فإن استبعاد هذه الأولويات يجعل الحديث عن أولوية الحرية الفردية ترفًا أو هروبًا من مواجهة كبريات القضايا التي تواجه شعوبنا، وفي مقدمتها تحرير فلسطين. ناهيك عن قضايا الشباب واليأس من أمل المستقبل.
والخلاصة، فإنه عندما تطرح مجموعة النواقص أو نقاط الضعف المطلوب مكافحتها لتأمين نهوض الأمة أو القطر أو المجتمع، فلن تجد في مقدمتها الافتقار لحرية الفرد. وإذا ذكرت، لن تجدها في الأولويات الأكثر أهمية. وعندما يطرح السؤال "ما العمل؟ وكيف نواجه التحديات التي تشكل المعوقات أو الأسباب للحالة التي وصلت إليها البلاد العربية، كما كل قُطر من أقطارها؟"، لا نجد الحرية الفردية في الأولويات التي تردّ على التحديات والمعوقات.
فقضايا مثل الفقر والبطالة والفساد (نهب ثروات الشعب) والاستبداد، أو الانقسامات والصراعات، أو قضايا التحرر من السيطرة الخارجية، أو نهب ثروات البلاد، أو تحرير فلسطين، أو حتى تأمين الفرص لمعالجة مشكلات الشباب، تعد أكثر إلحاحًا من التركيز على الحرية الفردية.
ومما يزيد تعقيد الأمور، أن الهجرة والهروب يصبحان الخيار الأول للكثيرين بدلًا من مواجهة المشكلات والتحديات عبر العمل الجمعي. وهنا تأتي إشكالية الحرية الفردية، التي لا تشكل أولوية للإصلاح والتغيير أو الثورة، بل تُستخدم أحيانًا كمبرر للهروب من مواجهة القضايا الكبرى.
وبالمناسبة، فحتى الاستبداد يُعالج بتغييره وليس بالمطالبة بالحرية الفردية فقط، وإنما بنظام عادل. لقد عالجت دول الغرب مشاكلها عبر السيطرة على الخارج ونهب ثرواته، وعالجت تناقضاتها الداخلية بفضل ما وفرته لها سيادة ثرواتها.
ولعب النظام الرأسمالي الإمبريالي القائم على الحرية الفردية والنهب الخارجي دورًا كبيرًا في تحقيق ذلك، بشكليه: البدائي والمتطور (النظام العالمي بأبعاده جميعًا). فضلًا عن الدمار الذي أحدثته فلسفة الحرية الفردية الرأسمالية في الغرب على البيئة والطبيعة.
لهذا على شعوب العالم الثالث (المستعمرات سابقًا) أن تشق طرقًا أخرى لمعالجة مشاكلها، تختلف عن الطريق الغربي وأولويته للحرية الفردية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات
إقرأ أيضاً:
ما أفضل شركة وساطة ببورصة مسقط؟
كثيرا ما يسأل الأفراد الذين يرغبون بالاستثمار في بورصة مسقط عن أفضل شركة وساطة تقدم لهم خدمات متميزة وتُعينهم على إدارة محافظ استثمارية ناجحة وتُسهم في زيادة عوائدهم وتنويع مصادر دخلهم.
وتأتي هذه التساؤلات في ظل عدم اهتمام كثير من شركات الوساطة بالمستثمرين الأفراد خاصة مع ازدياد أحجام التداول في بورصة مسقط من قبل الصناديق والشركات الاستثمارية الكبرى، وكثيرا من تنظر شركات الوساطة إلى المستثمرين الأفراد على أنهم عبء عليها خاصة المستثمرين بمبالغ بسيطة وهو ما يقلل الكثير من الفرص على المستثمرين الأفراد عندما يرغبون في بيع هذا السهم أو شراء ذلك السهم بسعر معين في وقت معين، فقد يمضي الوقت ويتراجع السهم الذي يرغب المستثمر في بيعه أو يرتفع السهم المطلوب للشراء، وفي هذا يرى المستثمرون الأفراد أن شركات الوساطة ضيعت عليهم فرصا مهمة لزيادة عائداتهم من الاستثمار في البورصة.
عندما ننظر إلى واقع شركات الوساطة العاملة ببورصة مسقط نجد أن هذه الشركات قد عانت كثيرا خلال السنوات الماضية مع تراجع أحجام التداول في البورصة في الوقت الذي لم تكن فيه لدى الشركات خطط لتغيير الواقع وجذب المستثمرين وابتكار مبادرات من شأنها تعزيز أحجام التداول، كما أن عددا من هذه الشركات لم تهتم بإجراء تحاليل معمقة لأداء شركات المساهمة العامة ليطلع عليها زبائنها، وفي نفس الوقت اعتبرت أن الإنفاق على الأبحاث والتسويق إهدارٌ للمال في غير محله وهو ما أدى في النهاية إلى أن تفقد هذه الشركات الكثير من زبائنها وتحقق الخسائر.
في الوقت الحالي يبلغ إجمالي عدد شركات الوساطة العاملة ببورصة مسقط 6 شركات وبنكين مقابل 9 شركات و3 بنوك في نهاية عام 2020، صحيح أنه حدثت بعض عمليات الاندماج بين شركات الوساطة خلال السنوات الماضية إلا أن القطاع شهد أيضا خروج عدد من الشركات، وبالإضافة إلى هذا فإن أحجام التداول تتركز في شركات محدودة، فخلال عام 2024 على سبيل المثال استحوذت المتحدة للأوراق المالية على 34.8 بالمائة من إجمالي قيمة التداول واستحوذت أوبار كابتال على 22.9 بالمائة من إجمالي قيمة التداول لتشكل التداولات التي تمت عن طريق الشركتين 57.7 بالمائة من إجمالي قيمة التداول التي شهدتها بورصة مسقط العام الماضي وهو ما يعني أن دور شركات الوساطة الأخرى في زيادة قيمة التداول كان محدودا.
وإذا كانت هذه الأرقام تشير إلى حجم التحديات التي تواجه شركات الوساطة المالية التي لم تهيئ نفسها بشكل مثالي للتغلب على المتغيرات المحلية والدولية التي تؤثر على أسواق المال فإنها تؤكد في الوقت نفسه مدى الحاجة إلى الاهتمام بالمستثمرين الأفراد باعتبارهم أحد أعمدة البورصة، وتشير الإحصائيات إلى أن مشتريات المستثمرين الأفراد شكلت 25.1 بالمائة من إجمالي قيمة التداول التي شهدتها بورصة مسقط في شهر سبتمبر الماضي والبالغة حوالي 511.1 مليون ريال عماني بما يعني أن مشتريات المستثمرين الأفراد خلال الشهر الماضي بلغت 128.2 مليون ريال عماني وهو رقم يؤكد أن هناك إمكانيات عديدة لزيادة أحجام التداول إذا وجد المستثمرون الأفراد مزيدا من الاهتمام من قبل شركات الوساطة المالية.
وحتى تحقق الشركات مزيدا من النمو في ظل الارتفاع الذي تشهده بورصة مسقط في أحجام التداول، وحتى يحقق المستثمرون الأفراد أهدافهم الاستثمارية فإنه من المناسب أن تتجه شركات الوساطة إلى إنشاء دوائر مختصة بالمستثمرين الأفراد تقدم لهم كل الخدمات التي يحتاجون إليها، مع الاهتمام في الوقت نفسه ببناء علاقة قوية مع المستثمرين الأفراد وتزويدهم بالأبحاث والتحاليل التي تُسهم في نشر ثقافة الاستثمار وتلقي مزيدا من الضوء على أداء شركات المساهمة العامة المدرجة بالبورصة وهو ما نتوقع أن يعود بالعديد من المكاسب على الشركات والمستثمرين وقطاع سوق رأس المال بشكل عام.