Discourses of violence in the transition from colonialism to independence in southern Sudan, 1955 - 1960
Øystein H. Rolandsen and Cherry Leonardi
أوستين رولاند وشيري ليوناردي

تقديم: هذه ترجمة لبعض ما ورد في مقدمة وخاتمة مقال طويل عن خطابات العنف الذي صاحب التحول من مرحلة الكولونيالية إلى الاستقلال بجنوب السودان بين عامي 1955 –1960م، نُشِرَ في العدد الأول للمجلد الثامن من مجلة "دراسات شرق أفريقيا Journal of Eastern African Studies " الصادرة عام 2014م، (صفحات 609 – 625) بقلم الباحثين أوستين رولاند (بمعهد أبحاث السلام في أوسلو) وشيري ليوناردي (المتخصصة في تاريخ جنوب السودان وشمال أوغندا بقسم التاريخ بجامعة درم البريطانية).


لقراءة آراء قد تختلف عما جاء بالمقال يمكن النظر، على سبيل المثال، في كتابات تاج السر حسن عبد العاطي (https://tinyurl.com/sdhy4fpe) والأمين عبد الرحمن (https://www.sudaress.com/sudanile/5905) وعبد الله على إبراهيم (https://shorturl.at/IMZIA و https://shorturl.at/JvaWq ) عما حدث في توريت عام 1955م.
****** ****** ******
المقدمة
واجهت الإدارة التي "سودنت" الوظائف قبل أقل من نصف عام من نيل السودان لاستقلاله (تحديداً في أغسطس من عام 1955م) انتفاضة عنيفة في مديرية الاستوائية. وفي غضون أسبوعين من تلك الانتفاضة قَتَلَ جنوبيون من جنود الجيش والشرطة والسجون مع آخرين شاركوا في العنف والنهب 261 من رجال ونساء وأطفال شمال السودان. وهرب جنوبيون كُثر من المدن، وغرق من هؤلاء 55 شخصاً في نهر بالقرب من توريت. وفي نهاية شهر أغسطس أتت للمنطقة قوات شمالية واعتقلت عدداً كبيراً من المتمردين ومن المدنيين؛ وفر بعض الجنوبيين إلى أوغندا والكنغو، بينما بقي عدد قليل من المتمردين "في الغابة" بالأجزاء الشرقية من مديرية الاستوائية، وعلى الحدود السودانية – الأوغندية. وتميزت ردة فعل حكومة الخرطوم بضبط النفس، ولكنها لم تكن متساهلة، فقد حكمت بسجن ما لا يقل عن ألف من الجنوبيين، وأعدمت على الأقل 121 جنوبياً. وغدا ذلك الفصل العنيف (الذي عُرف في تلك الأيام بـ "اضطرابات الجنوب"، و"تمرد توريت") من اللحظات الفارقة والبالغة الأهمية في انتقال السودان إلى الاستقلال عام 1956م. ويحتفل به الكثير من الجنوبيين بحسبانه بداية لـ "النضال" ضد هيمنة الشمال عليهم. وقد قدم الخبراء نظرة استعادية أيضاً إلى أحداث عام 1955م، باعتبارها "نذير شر مصيري لبداية نصف قرن من حرب أهلية دموية لا هوادة فيها". وهكذا فُهِمَ تمرد توريت على أنه فصل فرق بين الاستقرار النسبي للسلام البريطاني pax Britannica، وبين العنف والقمع المتزايدين بجنوب السودان في مرحلة ما بعد الكلولونيالية.
لذا أُدْرِجَ التمرد – الذي يُنْظَرُ إليه بحسبانه بداية الحرب الأهلية - ضمن تحليلات أوسع لسبب الصراع. وفي التأريخ الوطني البالغ الاستقطاب، يعزو خبراء شمال السودان الحرب الأهلية الأولى إلى التأثيرات الخلافية الضارة والمقسمة لـ "السياسة الكلولونيالية البريطانية" في الجنوب، في حين انتقد الباحثون الجنوبيون إهمال السلطات الكلولونيالية لشعب الجنوب لأنه تركهم "غَنِيمَةً بارِدَة" وعرضةً لهيمنة الشماليين السياسية والعسكرية. غير أن الأبحاث الجديدة (نسبياً) أوضحت أن الصراع بين الحكومة والمتمردين الجنوبيين لم يغدوا حرباً أهلية إلا من عام 1963م، وهذا ما يعني أن تمرد 1955م وما تبعه من مرحلة كانت من الأمور المهمة لفهم أسباب تلك الحرب وجذورها. لقد كتب المؤرخون بيسر وعجلة عما مارسه المسؤولون السودانيون الجدد في الجنوب بعد الاستقلال من قمع للجنوبيين، وسعيهم لفرض الوحدة الوطنية من خلال حملات التعريب والأسلمة، بما في ذلك طرد المبشرين المسيحيين في عام 1964م. غير أن هذه السردية عن تحول مفاجئ في السياسة والممارسات الإدارية تستصغر من شأن عنف الدولة الكلولونيالية المتأصل، وتفترض خطأً بأن من خلفها في الحكم كانت له أجندات وأولويات مختلفة بالكلية. وعوضاً عن القيام بـ "ثورة"، سعى الوطنيون فقط للسيطرة على مؤسسات وأدوات الحكومة الموجودة سلفاً من أجل حكم شعب السودان.
ويحاول هذا المقال الغوص لدرجة أعمق في مسألة استخدام الدولة للعنف منذ بداية الفترة الكلولونيالية إلى فترة ما بعد الكلولونيالية. وما كُشِفَ عنه حديثاً من مواد أرشيفية (في داري الوثائق بجوبا وبالخرطوم) من خمسينيات القرن العشرين يوضح مدى القلق في أوساط الإداريين السودانيين وسعيهم لتسويغ استخدام وسائل وسياسات قسرية بطرق شديدة الشبه بالخطابات الكلولونيالية. ويتضح هذا في تركيز أولئك الإداريين على السياسات التطويرية / التنموية (developmentalism) والتقيد بحرفية الشرعية والقانون (legalism). وقد كانت طرق ووسائل الإدارة التي سلكها المسؤولون السودانيون الجدد تشابه تلك التي كان يتبعها الإداريون الكولونياليون من قبلهم، خاصة في الاعتماد على كبار زعماء القبائل (chiefs)، وعلى الإدارات الأهلية بشكل عام، بحسبانهم هم من ينفذون ما تريده الدولة من إقامة العدل والتنمية وحفظ الأمن. ولا ريب أن التمرد كان قد أثار حالة من انفراط الأمن وإشاعة الذعر عند المسؤولين الشماليين العاملين بالجنوب، إلا أن عنف أغسطس 1955م – والخوف من إمكانية تكراره – قد عملا أيضاً على زيادة وتغذية خطابات "حرفية الشرعية والقانون" و"سيادة الدولة" و"المواطنة"، تلك التي كانت يتم عبرها تعريف واجبات الدولة ومواطنيها في غضون السنوات الأخيرة للحكم الكلولونيالي، والفترات الباكرة لما بعد الكلولونيالية. ولذلك يمكننا تتبع استمرارية ملحوظة في تصورات المسؤولين الحكوميين لجنوب السودان وشعبه، وفي الأساليب والمبادئ التي كان من المقرر أن يُحْكَمُوا بها. وباستخدام اللغة الإدارية السودانية للقانون والنظام والأمن العام، كان من الواجب "تطوير" و"تحديث" الجنوبيين ونقلهم لعالم "الحضارة والمدنية".
********** ********* **********
خلاصة المقال
لم يتسبب تمرد توريت في أغسطس 1955م بجنوب السودان في إشعال حرب أهلية، لكنه أحدث تصاعداً في العنف والفوضى من جانب الدولة على مر السنين التالية. ونستكشف هنا كيف ساهمت وجهات نظر واستراتيجيات المسؤولين الحكوميين الذين ورثوا جهاز الدولة من الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) في تحقيق ذلك التصاعد في العنف والفوضى. لقد كرّسوا ممارسات الحكومة الاستبدادية والعنيفة القائمة على التمييز القانوني بين المواطنين والخارجين عن القانون، مع تبرير أفعالهم بحسبانه جزءاً من خطاب تنموي وقومي. وقد زرع التمرد الخوف من اندلاع أعمال عنف أخرى، مما دفع إلى اللجوء إلى انتهاج سياسة العقاب الجماعي، وإقامة شبكة استخباراتية موسعة، وعزز من صلاحيات زعماء القبائل وتفويضهم. بَيْدَ أنّ الحكومة قرنت تلك التوجهات الاستبدادية مع سياسة تطويرية / تنموية، ورغبة في تعليم الجنوبيين وتمدينهم. ومن خلال التعليم والعدالة والنظام الجنائي، كان عليهم أن "يتعلموا" كيف يصبحوا "حديثين / عصريين". وتردد صدى هذا المزيج من الاستمرار في إدامة ممارسات الحكومة الكلولونيالية والقومية المتحمسة مع تحليل التحولات إلى الاستقلال في كل مكان آخر في أفريقيا، تلك التي اُسْتُبْعِدَت منها حالة جنوب السودان إلى حد كبير حتى الآن.
********** *********** **********
خاتمة المقال
ساهم تمرد توريت وتداعياته في اِشتِدَاد سلطوية الدولة، حيث كان المسؤولون السودانيون على استعداد لاستخدام الإكراه من أجل إحداث عمليات "مشاركة" وتنمية. إن خطابات الحوكمة هذه والأيديولوجيات المصاحبة لها تتوسط بين الهياكل والفاعلية، بمعنى أنها رسمت حدوداً لما هو ممكن، ووجهت انتباه المسؤولين الحكوميين ومبادراتهم. غير أن الأهم من ذلك هو أن تلك الخطابات كانت متأصلة بعمق في مؤسسات الحكومة. ولم يقتصر الأمر على المسؤول الفردي فحسب، بل تجاوز أيضاً تغييرات النظام. وبذا، فمن الممكن التطلع لاستمرارية طويلة المدى في الرؤى الاستبدادية للتنمية والحداثة والمواطنة بين الإداريين الجنوبيين اللاحقين وكذلك أسلافهم من السودانيين الشماليين والبريطانيين؛ وقد تجسد ذلك في سبعينيات القرن الماضي مِنْ قِبَل رئيس المجلس التنفيذي الأعلى لجنوب السودان، أبل ألير، الذي استشهد به الكثير من الناس حين قال: "إن كان علينا أن نقود شعبنا إلى الجنة بالعصي، فسنفعل ذلك من أجل مصلحتهم". ولكن في السياق السياسي في أواخر الخمسينيات، فسر العديد من الجنوبيين تلك الأجندات عند نخبة الدولة السودانية على أنها مشروع للإقصاء أو القمع عوضاً عن الشمول والإصلاح.
ومن خلال استخدام لغة القانون والجهاز القسري لإنفاذ القانون في الدولة (بما في ذلك هياكل الإدارة الأهلية) لتحديد المواطنة وتعزيز التنمية، لم يفلح الإداريون السودانيون إلا في تسليط الضوء بشكل صارخ على الجوانب الإقصائية والقمعية لدولتهم وقوميتهم. وبالتالي فإن الخطابات الحكومية التي تم تحليلها في هذا المقال كانت مهمة ليس فقط باعتبارها خطابات تبرر نفسها أو أيديولوجية محفزة ذاتياً، بل لدورها في تحديد شروط النقاش السياسي. ومع اشتداد المقاومة الجنوبية خلال سنوات الستينيات، استولت جماعات المعارضة على الخطاب القانوني الذي كان يقول به ممثلو الحكومة لمن أجل انتقاد "القمع" و"الاستيعاب القسري" و"الهيمنة" الذي تمارسه الحكومة. وبما أن الحكومة كانت قد جرمت المقاومة، فقد أُجبرت الذين وجدوا أنفسهم خارجين عن القانون (وبذلك فقدوا حقوق المواطنة) على العيش في المنفى السياسي أو الانخراط في تمرد مسلح. وقد أدى تسويغ عنف الدولة إلى تغذية خطاب المعارضة العنيفة التي تصاعدت لتبلغ مرحة الحرب الأهلية في عام 1963م.

alibadreldin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: إلى الاستقلال من أجل

إقرأ أيضاً:

لهذا أفشلت موسكو مشروع قرار مجلس الأمن حول السودان.. تجاهل الحكومة الشرعية

أفشلت موسكو، الاثنين، مشروع قرار بريطاني في مجلس الأمن حول السودان باستخدام حق النقض الفيتو.

ويدعو مشروع القرار الذي قدمته بريطانيا وسيراليون وأيده 14 عضوا في مجلس الأمن إلى وقف فوري للأعمال القتالية بالسودان وحماية المدنيين.

واتهمت موسكو لندن بتجاهل الحكومة الشرعية في السودان في مشروع القرار.

وقال ديمتري بوليانسكي نائب المندوب الروسي في مجلس الأمن إن مشروع القرار البريطاني حاول حرمان حق الحكومة الشرعية من حقها في ترتيب مسألة المساعدات الإنسانية.


وأشار إلى أن هناك أيضا تصورا خاطئا في ما يتصل بمن يحق له اتخاذ القرارات بشأن دعوة القوات الأجنبية إلى السودان، ومن ينبغي لمسؤولي الأمم المتحدة أن يتفاعلوا معه من أجل معالجة المشاكل القائمة وترتيب المساعدات. ولا شك لدينا في أن حكومة السودان وحدها هي التي ينبغي لها أن تلعب هذا الدور، لكن البريطانيين يحاولون حرمان السودان من هذا الحق.

كما اتهم بوليانسكي بريطانيا وحلفائها بمحاولة استغلال القرار لإعطاء أنفسهم الفرصة للتدخل في شؤون السودان وتسهيل مشاركتهم في مزيد من الهندسة السياسية والاجتماعية في البلاد.

ولفت بوليانسكي إلى أن الدوافع الحقيقية وراء مشروع القرار تتضح أيضا من خلال حقيقة مفادها أن الدعوات السابقة التي وجهها مجلس الأمن لقوات التدخل السريع لإنهاء حصار الفاشر وغيرها من المدن قد استبدلت في نص مشروع القرار بلغة مشوهة جديدة توحي بأن المقاتلين يجب أن يوقفوا هجماتهم ضد المدنيين فقط. وعلى هذا فإن القرار يدعونا في الأساس إلى تشجيع استمرار الأعمال العدائية.

وبحسب بوليانسكي فإن الظروف ما زالت غير ناضجة لنشر قوات دولية في البلاد لحماية المدنيين، علاوة على عدم وجود اتفاق لوقف إطلاق النار، ولا تفاهم بشأن المكان المحدد الذي سيتم فيه نشر هذه القوات في البلاد، وما الأغراض التي قد تكون لها. وفضلا عن ذلك، فإن طلب مثل هذا الوجود يجب أن ينبع فقط من القيادة السودانية الحالية.

واعتبر بوليانسكي أن فرض الحكومة السودانية للقيود ليس عبثا، ولهذا السبب فقد كانت تلوح بخطر إرسال الأسلحة عبر الحدود. ولعل من الأفضل معالجة الأسباب الجذرية لمخاوف الشعب السوداني، بدلا من المطالبة بحدود شفافة. وأضاف "نعتقد أنه من الأهمية بمكان أن يتم الاتفاق على أي خطوات في المجال الإنساني حصريا مع السلطات السودانية المركزية"، لافتا إلى أن واشنطن ولندن تواصلان استغلال الأمر لتحقيق أغراضهما الخاصة، ومن خلال العقوبات الأحادية غير القانونية، تعملان ببساطة على عرقلة جهود قيادة البلاد لتقديم المساعدة للشعب.



السودان و"إسرائيل"
وخلص المندوب الروسي إلى ضرورة التخلص من المعايير المزدوجة، التي تبدو فادحة بشكل خاص في حالة السودان. فعندما يتعلق الأمر بالسودان، تنادي بعض البلدان بصوت عال بوقف إطلاق النار، وتطالب الجانبين بوقف العنف وحماية المدنيين، بينما في حالة غزة، تعطي هذه البلدان ذاتها "تفويضا مطلقا" لإسرائيل حتى تواصل التصعيد، متجاهلة الانتهاكات الصارخة للقانون الإنساني الدولي من قبل الجيش الإسرائيلي. وعلى نحو مماثل، تعطي هذه البلدان الأولوية لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس وحماية مواطنيها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالسودان، فإنها تنكر بطريقة أو بأخرى الحق نفسه لحكومته وتتهم الجيش السوداني بكل الشرور.

ترحيب
من جهتها رحبت حكومة السودان باستخدام روسيا لحق "الفيتو"، وأشادت الحكومة السودانية بالموقف الروسي الذي جاء تعبيرا عن الالتزام بمبادئ العدالة واحترام سيادة الدول والقانون الدولي ودعم استقلال ووحدة السودان ومؤسساته الوطنية.

وقال السفير السوداني لدى روسيا محمد الغزالي، إن الفيتو الروسي ضد مشروع القرار البريطاني حول حماية المدنيين هو الموقف المتوقع من موسكو في ظل العلاقات المتطورة بين البلدين والفهم العميق لطبيعة الأحداث بالسودان.

مقالات مشابهة

  • تعليمية جنوب الشرقية تستعرض مشروعات التحول الرقمي
  • الاستقلال الرياضي .. فوارق بين الفني والسياسي !
  • نوازع السيطرة عند بريطانيا وإنكارها مسؤوليات ودور الحكومة السودانية
  • لهذا أفشلت موسكو مشروع قرار مجلس الأمن حول السودان.. تجاهل الحكومة الشرعية
  • العنف ضد المرأة وتأثيره على الحياة المجتمعية.. ندوة بمركز إعلام قنا
  • السودان.. الحكومة ترحب بـ”فيتو” روسيا ضد مشروع بريطاني بشأن الحرب
  • وزير المالية يجدد إهتمام الحكومة بمعالجة تداعيات الحرب
  • قرقاش: إخفاق مجلس الأمن في السودان يضيع فرصة ثمينة لوقف العنف
  • قرقاش يُعلق على إخفاق مجلس الأمن بوقف العنف في السودان
  • رئيس الدولة ونائباه والحكام يهنئون ملك المغرب بذكرى الاستقلال