بمجرد ولوج الطائرة المجال الجوى يتطلع الزائر الشغوف بحماس من النافذة إلى مصر التى فى خاطره، ثم فجأة ينتابه شعور بالصدمة من هول القبح والعشوائية العمرانية، فهنالك جزر متناثرة من الكتل الخرسانية القميئة أشبه برؤوس الشياطين متلاصقة بعنف على ضفاف النهر الخالد تنخر كالسوس فى محيط الوادى الأخضر، ليتساءل المرء بحسرة: هل القاطنون فى هذه الكردونات العبثية هم أنفسهم أحفاد البنائين العظام الذين شيدوا الأيقونات الهندسية من المعابد المهيبة والأهرامات الخالدة؟ تكاد المفارقة العجيبة ترسخ أكذوبة أن حضارتنا صنيعة الكائنات الفضائية!
فقديمًا قال ابن خلدون صاحب نظرية العمران «الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العامل، وإصلاح العامل باستقامة الوزراء».
فلنكن صادقين مع أنفسنا ولا ندفن رؤوسنا فى الرمال، مصر تعانى كارثة عمرانية منذ أكثر من قرن تتجلى فى الحضر قبل الريف، فالعاصمة العتيقة مرآة الحكم بدون أى هوية بصرية فهى عبارة عن قرية ضخمة متوحشة ومهملة تفتقد للحدود الدنيا لجودة الحياة، فحدث ولا حرج عن شلل مرورى خانق مع تلوث بصرى وسمعى كئيب، بالإضافة لاعتداء سافر على الكنوز التراثية واختلاط سيريالى بشع للأحياء السكنية والإدارية والتجارية... إلخ.
لذا فإن تشييد عاصمة حديثة تليق بأقدم دولة فى التاريخ، أصبح فكرة وجودية تأخرت عقودًا، ولكن أن تأتى متأخرًا أفضل من ألا تأتى أبداً.
حسنًا، هى ليست بدعة مصرية، بل سنة كونية سبقتنا إليها البرازيل وتركيا وحتى نيجيريا، لكن ما إن بدأت ملامحها تتضح حتى انهالت سهام الشائعات المعتادة من كل صوب وحدب. أستطيع استيعاب سفاهة أبواق الدعاية الإخوانية المثيرة للشفقة، لكن ما لا أفهمه ولا أتقبله هو لغو بعض «المتثقفين» عن فقه الأولويات بإطعام الشعب أولا والهمز واللمز عن البذخ والترف فى مقرات الحكم وإذكاء الفتنة الطبقية بوصمها محمية للأغنياء فقط، كل هذا الهراء لا يسمن ولا يغنى من جوع؛ لأن الغرض مرض وهو عدم تسطير تاريخ جديد لهذا البلد العريق، فالقاهرة عصية على التغيير لأكثر من ألف سنة فمن ذا الذى يملك الإرادة السياسية الجسورة لتلك النقلة النوعية الجبارة سيكتب له المجد والخلود مثل جوهر الصقلى لذلك يجب تأليب العامة ووأد مشروع طموح قبل اكتماله؛ لأن صورته النهائية المبهرة سوف ترفع الروح المعنوية وتعمق الفخر الوطنى، والعلمين التى لم تكتمل بعد خير مثال.
لا شك أن تغيير الصورة الذهنية للبلد له تأثير كبير وقيمة مضافة للسياحة والاستثمار وحتى النفوذ السياسى، فالحداثة التى ستحظى بها سيكون لها مفعول السحر على أزمات القاهرة المزمنة بتفريغها من مخلفات البيروقراطية وجعلها درة سياحية تنافس اسطنبول التى لا تملك نصف كنوزها، ومع ذلك قبلة السائحين الباحثين عن سحر الشرق، وهو ما لا يرغب فيه بعض الأصدقاء وكثير من الأعداء.
دعك من كل ما سبق واستمع بتجرد إلى لغة الأرقام لعلها تنفع أولى الأبصار.
الديون الخارجية فى العقد الأخير 120 مليار دولار صرفت على أضخم بنية تحتية؛ وبذلك قفز الناتج القومى من 288 إلى 497 مليار دولار، صافى أصول العاصمة الفاشلة 4 تريليونات جنيه! غير أصول المبانى الحكومية فى القاهرة والتى لا تقدر بثمن.
يومًا ما سينال هذا المشروع العملاق حقه من التقدير . آفة حارتنا الحكمة بأثر رجعى.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصر
إقرأ أيضاً: