يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِى الْحَرَامِ، كَالرَّاعِى يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وإن أهم فارق بين العلماء الوسطيين المتخصصين وغيرهم من المتشددين هو مدى فهم هؤلاء وأولئك لقضايا الحل والحرمة، والضيق والسعة، فالعالم الحقيقى يدرك أن الأصل فى الأشياء الحل والإباحة، وأن التحريم والمنع هو استثناء من الأصل، يقول الحق سبحانه: «قل لَّا أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (الأنعام: 145)، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إنَّ اللَّه تَعَالَى فَرَضَ فَرائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وحدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوهَا، وحَرَّم أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وَسكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحثُوا عَنْهَا» (رواه الدارقطنى)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): «ما أَحَلَّ اللهُ فى كتابِه فهوَ حَلالٌ، وما حَرَّمَ فهوَ حرامٌ، وما سَكَتَ عنهُ فهوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلوا مِنَ اللهِ عَافِيَتَهُ وما كان رَبُّكَ نَسِيًّا»، (الطبرانى).
أما الجهلاء والمتشددون فيجعلون الأصل فى كل شىء التحريم والمنع، ويطلقون مصطلحات التحريم والتفسيق والتبديع والتكفير دون وعى، غير مدركين ما يترتب على ذلك من آثار, وغير مفرقين بين التحريم والكراهية ولا حتى ما هو خلاف الأولى، فصعبوا على الناس حياتهم، ونفروهم من دين الله (عز وجل) وهو ما حذر منه نبينا (صلى الله عليه وسلم)، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إنَّمَا بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَم تُبعَثُوا مُعَسِّرِينَ» (مسند أحمد)، وقوله لسيدنا معاذ بن جبل (رضى الله عنه) عندما شكا إليه (صلى الله عليه وسلم) بعض الناس أنه يطيل بهم الصلاة: «يا مُعاذُ، أفتَّانٌ أنت؟» (سنن أبى داود).
وأما العلماء الحقيقيون فيدركون بما لا يدع أى مجال للشك أو الارتياب أو حتى الجدل أن الأديان إنما جاءت لسعادة الناس لا لشقائهم، حيث يقول الحق سبحانه: «طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى» (طه: 1، 2)، ويقول سبحانه: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج» (الحج: 78)، ويقول سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، (البقرة: 185).
ويعلمون أن الفقه رخصة من ثقة، وأن الفقه هو التيسير بدليل، وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) ما خُيِّر بين أمرين إلَّا أخذ أيسرَهما، ما لم يكن إثمًا أو قطيعة رحم، فإن كان إثمًا أو قطيعة رحم كان أبعد النَّاس عنه.
دور العلماء هو أن يأخذوا بأيدى الناس بالحكمة والموعظة الحسنة إلى طريق الشريعة السمحاء النقية بلا إفراط أو تفريط، فتحت مسمى الالتزام والأحوط والاحتياط فتحت أبواب التشدد التى ساقت وجرفت الكثيرين فى طريق التطرف، حتى ظن الجاهلون أن التحوط فى التدين يقتضى الأخذ بالأشد، وأن من يتشدد أكثر هو الأكثر تدينًا وخوفًا من الله (عز وجل)، وتحت مسمى التيسير فتحت بعض أبواب الخروج عن الجادة، وديننا يريدها وسطية سوية، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بلا غلو ولا تقصير.
أ. د/ محمد مختار جمعة
الأستاذ بجامعة الأزهر
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الحلال والحرام أ د محمد مختار جمعة الأستاذ بجامعة الأزهر إ ن ال ح ل ال ب ي ن ال ح ر ام ب ي ن ف س د ت ف س د ال ج س د صلى الله علیه وسلم
إقرأ أيضاً:
12 ساعة فقط .. أقصر مدة صيام في السنة انتهز الفرصة
قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :{ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ }، لأن الصائم ينال أجر الصوم دون تعب فهو لن يعطش عطشا شديدا لوجود البرد، ولن يجوع كثيرا لقصر نهار الشتاء، فشبه الأجر هنا بالغنيمة التي يغتنمها المجاهد لقلة مشقة الصوم شتاء.
وقال عمر بن الخطاب:« الشِّتاءُ غَنِيمَةُ العَابدِينَ »، وعَن أبي هُرَيرةَ قال: ألَا أدلُّكُم على غَنيمَةٍ بَارِدَة؟ قالوا: ماذا يا أبا هريرة؟ قَال: الصَّومُ فِي الشِّتَاء، وكان التَّابعي عُبَيد بن عُمَير رحمه الله يقول إذا جاء الشتاء: طال الليل لصلاتكم وقصر النهار لصيامكم فاغتنموا.
فمن عليه صيام من رمضان؛ فلينتهز الفرصة، فنحن في أقصر أيام في السنة، فيأذن للفجر فى تمام ٤:٤٢ ص ويأتي آذان المغرب فى تمام الساعة ٥:٠٦ م ، أي 12 ساعة فقط، أقصر مدة للصيام في السنة.
غنيمة المؤمن الباردةأوصت دار الإفتاء المصرية، بالإكثار من الصيام في الشتاء، منوهة بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- شبه الصيام في الشتاء بالغنيمة الباردة، وذلك خلال منشور لها عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
واستشهدت الإفتاء عبر صفحتها بـ«فيسبوك»، بما رواه الترمذي في سننه عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ» وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: «ألا أدلكم على الغنيمة الباردة، قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء».
وأوضحت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- شبه الصيام في الشتاء بالغنيمة الباردة، لأن فيه ثوابًا بلا مشقة، ومعنى الغنيمة الباردة: أي السهلة ولأن حرارة العطش لا تنال الصائم فيه.
فضل الصيام في الشتاءوخصَّ الله- عز وجل- عبادة، الصيام، من بين العبادات، بفضائل وخصائص عديدة، منها: أولًا: أن الصوم لله- عز وجل- وهو يجزي به، كما ثبت في البخاري (1894)، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي»
ثانيًا: إن للصائم فرحتين يفرحهما، كما ثبت في البخاري ( 1904 ) ، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ».
ثالثًا: إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما ثبت في البخاري (1894) ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله عز وجل يوم القيامة من ريح المسك».
رابعًا: إن الله أعد لأهل الصيام بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، كما ثبت في البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّة بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم، يقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
خامسًا: إن من صام يومًا واحدًا في سبيل الله أبعد الله وجهه عن النار سبعين عامًا، كما ثبت في البخاري (2840)؛ ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوْمًا في سبِيلِ اللَّهِ إلاَّ بَاعَدَ اللَّه بِذلكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبْعِين خريفًا»
سادسًا: إن الصوم جُنة «أي وقاية» من النار، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنة»، وروى أحمد (4/22) ، والنسائي (2231) من حديث عثمان بن أبي العاص قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال».
سابعًا: إن الصوم يكفر الخطايا، كما جاء في حديث حذيفة عند البخاري (525)، ومسلم ( 144 ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ثامنًا: إن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة، كما روى الإمام أحمد (6589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ : أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ».