كان القدماء، رضوان الله عليهم، من العلماء العاملين أحرص الناس على الأوقات، لم يضيعوا أوقاتهم فى الكلام الفارغ ولا فى اللهو ولا فى السهر، ولا فى القيل والقال ولا فى الغيبة ولا فى النميمة، ولا على الموبايلات الحديثة، ناهيك عن سد ذرائع قلة الأدب التى انتشرت فى كل مكان، ولا يكاد يخلو منها بينه وبين نفسه إنسان.
أعجب العجب فعلاً أنك تلاحظ أن فريضة التفكير وطلب العلم هما أعدى أعداء الوقت الضائع، فلن يتفق مطلقاً لرجل مفكر أو باحث أو أديب أو طالب علم مع ما يبدو الآن من مظاهر انتشار ضياع الوقت والقيمة والقانون، لأن أولئك كلهم بحاجة ماسّة إلى تجنيد الوقت لخدمة مآربهم العليا، ولو لم يحرصوا على ذلك لامتنع لديهم الانجاز!
وقانون الوقت من أخطر ما يمس العمر فى تحصيل ما يجب، وترك ما لا يجب، حتى تظهر بركة الأوقات مع التدبير والاعتبار، ومع الرعاية والعناية. ولذلك قال حجة الإسلام الإمام الغزالى فى بداية الهداية ما نصّه:
(ولا ينْبغِى أَن تَكونَ أوقاتُكَ مُهْمَلَةً فَتَشْتغلَ فى كلِّ وَقْتٍ بما اتَّفقَ كَيْفَ اتَّفَقَ بل يَنْبَغِى أَنْ تُحاسِبَ نَفْسَكَ وتُرَتِّبَ وظائِفَكَ فى لَيلِكَ ونَهارِكَ وتُعَيِّنَ لكُلِّ وَقْتٍ شُغْلاً لا يَتَعَدَّاهُ ولا تُؤْثِرُ فِيهِ سِواه، فَبِهِ تَظْهَرُ بَرَكَةُ الأَوقاتِ.
فأمّا مَنْ تَرَكَ نَفْسَهُ مُهْمَلاً سُدًى إِهْمالَ البَهائِمِ لا يَدْرى بِما يَسْتقبِلُ كلَّ وَقْت، فَتَنْقَضِى أكثرُ أوقاتِهِ ضائِعَةً.
وأوقاتُكَ عُمْرُكَ، وعُمْرُكَ رَأْسُ مالِكَ، وعَلَيْهِ تِجارتُكَ وبِهِ وُصُولُكَ إِلَى نَعِيمِ الأَبَدِ فى جِوارِ اللهِ تَعالَى، فَكُلُّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفاسِكَ جَوْهَرٌ لا بَدَلَ لَه، فَإِذا فاتَ فَلَا عَوْدَةَ لَهُ. فَلَا تَكُنْ كالحَمْقَى الذين يَفْرَحُونَ فى كُلِّ يَوْمٍ بِزِيادَةِ أَمْوَالِهِمْ مَعَ نُقْصانِ أَعْمارِهِمْ).
يتبيّن إذن أن الحرص على مراعاة الله فى كل لحظة، إنما هو بركة تمدُّ العمر وترفعه وتباركه وتزكيه، ولا يرفع العمر ولا يباركه ولا يزكيه إلا مراعاة الأوقات بين يدى الله وخلوص السريرة قصداً وتوجُّهاً إليه سبحانه، فلا خير فيما لا يكون خالصاً له وحده دوناً عن سواه إذا كان لا محل للسِّوى معه فى كل اعتقاد صحيح.
ولنعلم جميعاً: أن العمر كله يوم، واليوم كله ساعة، والساعة كلها وقت، والوقت كله حال، والحالُ مراقبة القلب مع الله بإحصاء اﻷنفاس فى الوقت الذى هو فيه.. فإذا أردت أن تعرف منزلتك عند الله، فانظر فيماذا يقيمك؟
يعنى تحقق من «عبادة الوقت»، وعبادة الوقت من أنفع وأجل العبادات التى يجيدها أهل الله وخاصّته، لأنها العبادة التى تقدر العمر كله فتحصره فى اليوم، وتقدر اليوم كله فتحصره فى الساعة التى يحضر فيها مع الله، وتقدر الساعة كلها فتحصرها فى الوقت، وتقدر الوقت كله فتنزله فى الحال، وتنزل الحال بمراقبة الأنفاس مع الله باتصال القلب بمنن الفضل الإلهى.
فلا يعرف العبد منزلته عند الله ما لم يقدّر للوقت قيمته ويعرف على التحقيق فيما أقامة الله فيه، ويُحسن هذه المعرفة مع الإقامة، فإنّ لها مع كل حال عبادة، فقد يقيمك الله فى حال الطاعة أو يقيمك فى حال المعصية، أو يقيمك فى حال النعمة، أو يقيمك فى حال البليّة. ومقتضى الحق - سبحانه - منك أن تؤدى حق العبادة فى كل حال وفى كل وقت فيما أقامك الله فيه، وهى التى يسميها العارفون «بحقوق الأوقات».
وحقوق الأوقات هذه إذا فاتت ليس لها قضاء، بخلاف أوقات الصلاة إذا هى فاتت تُقضى من فورها.
حتى إذا أقامك الله فى حال الطاعة فمقتضى الحق منك الشكر، وإذا أقامك فى حال المعصية، فمقتضى الحق منك وجود الاستغفار، وإذا أقامك فى حال النعمة، فمقتضى الحق منك شهود منته عليك ووجوب الشكر والحمد، وإذا أقامك فى حال البلية فمقتضى الحق منك الصبر والاحتساب والرضى بقضاء الله، ولا تخلو أحوال العبدمن هذه الأربعة التى لا خامس لها: طاعة فمعصية، ثم نعمة أو بلية، ولكل حال منها عبادة يؤديها العبد فى التو واللحظة، أى فى الوقت الذى هو فيه، ولذلك سميت بحقوق الأوقات التى لا قضاء لها إذا ما فاتت.
فمثلاً: إذا كان العبد فى حال المعصية ولم يؤد حق الاستغفار منها، وجعل وقته يمضى بغير استدراك، فقد فوّت على نفسه حق الله عليه فيما أقامه الله فيه، وأضاع حال العبادة فى الوقت الذى أقامه الله فيه، فلم يعط حق عبادته التى اقتضاها الله منه فى وقتها، ولم ينظر فيما أقامه الله فيه، ولم يدرك لنفسه منزلة عند الله لأنه لم يشأ أن يدرك لنفسه منزلتها. وليس للنفس أن تدرك منزلتها وهى بمعزل عن وصلتها الإلهية وبوصلتها الربانية وشهودها الأكمل لعالم الملك والملكوت والجبروت.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم ن القدماء فى الوقت الله فیه ولا فى فى حال
إقرأ أيضاً:
*مشاجرة مع المستقبل*
محمد القعود
– 1 –
تطلُّ من انغماسك العميق في الوله، ومن تخومك المثقلة بالحنين، وترشق نفسك / ذاتك بسؤالٍ شهق فجأة كبرقٍ مخاتلٍ ومباغتٍ:- ماذا تعمل الآن/ اللحظة، هناك حيث أنت, وهنا حيث من هو أنت, وأنت هو..؟!
– 2 –
تأتنس بك، وبجرأتك عليك، وتقحمّك فيك، في لحظةٍ جسورة، وفارقة ومغايرة للسائد في مدارك ومسارك الحياتي.
– 3 –
تنقفُ جدران التاريخ، بحثاً عن وقائع ومراحل لم يمسسها سخام النسيان، ولم يطأها غبار التهميش.. وتستقرئ خوابيها، وروائح أسرارها المعتقة.
– 4 -تقشّر برتقالة الوقت برغبةٍ محمومةٍ وعارمةٍ، وتفرط رمانة الأيام، بدربةٍ صقلتها لهفة الوصول إلى عذوبة المبتغي.
– 5 –
تقلّبُ أوراق الريح وتفرُّ أسرارها النائمة، وتستبطن مكنون أناشيد فصولها ومواسم عناقها، وظلال خطوطها وسطورها، وتحدق في المتواري خلف وبين فراغاتها المتشاعبة والمتناسلة.
– 6 –
يقشّرُ برتقالة الوقت بأصابعٍ خبيرةٍ في انتقاء طرقاتها، ومساراتها، ومخاتلة النتوءات والزوايا، وتقطيع الضياع والمتاهات وترتيبها كلوحةٍ سريالية في طبق عشاءٍ يتشهاه الفراغ.
– 7 –
تطرقُ نافذة في الحلم، بإيقاعٍ تتقاطر منه اللهفة وتنساب عبره لغة الندى وبوح القلب، ورحيق المشتهى.
– 8 –
تحكُّ جلد الأمس, لعلهُ يتذكرُ وعودهُ لك وتشعبّه في طلاوة أمانيه لميلاد غدك, وتسويغه لتبخّر عطايا يومك ورتقه لفتُوق فاقتك المتعددة الشتات والصدوع ورقعه لخروقك الواهنة والواهية وجبرهُ لكسور خاطرك الدائمة الهطول والحضور والآهة.
– 9 –
تدلُّ الهواء الثقيل, على مصطبةٍ عالية, ودكّةٍ حجرية مترهّلةٍ, كي يُلقي بحمله عليها, ويستريح من بعض عنانه المنفلت وزيغه المزمن وتماديه في تسكع سيرته وتوغلها في غيِّ متاهاته الشرهة الشرود, والمسرفة في السهوم والوجوم.
– 10 –
تتشاجرُ مع المجهول, كلما أطلّ بفجاجةٍ من كوّة نفوذه, وكننه الحصينة, ومارس عاداته اليومية المزمنة باعتراض طريق الضوء, وخدش حياء المعاني المحتشمة, وهتك عرض الآهات المصونة والمستترة.تمسكُ بياقة قميصه, وتلقنه دروساً قاسية في التهذيب الراقي والتعامل الخالي من الكبر والغطرسة, وغمط حق الآخرين في التطلع إلى الأجمل والأبهى.
– 11 –
تتعارك مع البؤس الشرس.. وتلْحق به خدوشاً وكدمات وانكسارات نفسيّة وجسدية عميقة الأثر, تجعله يضمر لك النوايا الملغمة بالتعاسة والمسارات القائمة والمائلة إلى الكابة.تجرجره في شوارع المدينة المكتظة بأشباهه الكُثر, تلقي بجسده المرتجف أمام مقهى الحياة, ليكون عبرة لنفسه, ولمن يغتر بجبروته ويتطاول على ظلال السابلة, ويتحرّش بالأماني الجائلة, وطلائع البهجة والورد وألفة البسطاء ودفْء البيوت العتيقة ومواويل الشجن الحارسة الأمينة لبوح الوجدان والجدران.
– 12 –
تراوغُ الصمت, وتسرّب من بين ملامحه موسيقاك النديّة, وهتافات روحك المعلنة رفضها لكل خنوعٍ وظلم “ وجدبٍ “.
– 13 –
تراوغُ الصمت وتجعله يتوّهم بهيلمانه الرخو, وبطش مخالبه الشمعية.. ورويداً, رويداً تدجّنهُ, وتحوّله إلى منشدٍ جائلٍ في الأماكن العامة, يهجو الظلام والطغيان, ويمجّد الإنسان, ويحرض على معانقة الحياة والمحبة.