كتاب الوصايا.. شهادات مبدعات ومبدعين من غزة في وجه الموت
تاريخ النشر: 5th, September 2024 GMT
كأنها مذكرات أو شهادات لكنها لا تشبه سواها من النصوص، فقد كتبت بين احتمالات القتل اليومية في غزة التي تنهال عليها حمم الموت منذ 11 شهرا، لتجعل الشاهد شهيدا وتحيل الكلمات التي كانت عادية إلى وصايا ضد الموت.
"كتاب الوصايا" -الصادر بنسخته العربية عن دار مرفأ اللبنانية، يحمل عنوانا فرعيا "شهادات مبدعات ومبدعين من غزّة في مواجهة الموت"، وهو مختارات لأصوات قادمة من اليباب، أصوات سكان غزة اليوم.
بعض هؤلاء الشهود رحلوا عن العالم بعد تدوين هذه الكلمات؛ وآخرون أسكتهم اليأس، كما يقول الروائي والكاتب الكبير، ألبرتو مانغويل الأرجنتيني المولد الكندي الجنسية في مقدمته لـ"كتاب الوصايا".
إحدى هذه الوصايا كتبها "سليم نفار"، شاعر ارتقى مع أفراد عائلته في قصف وقع بعد وقت وجيز من كتابتها. وفتاة عمرها 17 عاما، هي ابنة لكاتبة معروفة من غزة توجد بألمانيا منذ العام الماضي فيما عائلتها عالقة الآن بقطاع غزة.
نصها المدرج في الكتاب هو من ضمن النصوص الأخيرة التي تلقتها الأم من ابنتها، بحسب مدير المكتبة الوطنية الأرجنتينية السابق.
الأديب الكبير ألبرتو مانغويل حاول عمل مكتبة وطنية فلسطينية خلال عمله مديرا للمكتبة الأرجنتينية (شترستوك)لكن الوصايا برمتها -كما يقول "الرجل المكتبة" مانغويل- جوهرية في مواجهة سؤال ما الذي يجعلنا بشرًا. في ظهيرة أحد الأيام في عصور ما قبل التاريخ القصية، حدث شيء ما في التطور البيولوجي لأسلافنا، مما أدى إلى تحوّل جنسنا إلى كائنات بشرية واعية.
واللغة أداة ضعيفة، كما يرى مانغويل، لكن، وعلى الرغم من استحالة إيجاد لغة مناسبة تتناول معاناة الضحية، عندما نواجه تلك المعاناة فإن حالتنا الإنسانية تدفعنا إلى الكلام على نحو متردد يفتقر إلى الدقة.
ومن خلال المقارنات والتلميحات، نحاول استحضار الرعب الذي نشهده عن طريق ما يشبه تعويذة السحرة حيوية بعض الشيء، تحذيرية إلى حد ما. وفي كل مرة ننطق فيها كلمات جديدة، نخفق في تحقيق هدفنا الأساسي، لكننا لا نزال نحاول.
وعلى مر القرون كل إنسان يمتلك اللغة المتاحة له: يستخدم المؤرخون السجلات الوثائقية، ويستخدم العلماء الحقائق الملموسة، والموسيقيون والفنانون البصرين الصوت واللون، وصانعو الأفلام الصور المتحركة، والشعراء الكلمات مهما كانت باهتة، والقراء (مثلي) ذاكرة الصفحات التي تمت زيارتها.
بين الأحياء والأمواتهذه الوصايا مروّعة وبحق، كما ترى الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر الداعمة لحركة مقاطعة إسرائيل في مقدمتها الثانية للكتاب بعد مقدمة مانغويل.
وتكمل باتلر قائلة إنه بفعل المذبحة التي أودت بحياة أولئك الذين يحبونهم، أولئك الذين بالكاد يعرفونهم، أو أولئك الذين جاؤوا من أجلهم، أو قد سبق وجاؤوا. كل فعل كتابة يخاطب شخصا ما، يخاطب غزة نفسها، أو المستقبل، الأطفال الذين يأملون في النجاة.
كل فعل كتابة هو أيضًا نداء، يسألنا أين نحن -القراء الأحياء- كي نقرأ هذه الكلمات سواء تحدثنا، استجبنا، سعينا إلى استجابة المؤسسات العالمية؟ ويسألون عما نراه في المرآة، وهل سمعنا الأصوات، وهل قاومنا ما أسميناه بالإبادة الجماعية.
الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر تعرف نفسها كيهودية مناهضة للصهيونية وناقدة للسياسة الإسرائيلية (شترستوك)لقد ناشدت كل كلمة من هذه الكلمات بأن تُقرأ، وتسمع من تلقاء نفسها، أو مترجمة، حتّى تجعل من مسألة عدم معرفة ما عاناه الفلسطينيون تحت الهجوم الوحشي الذي شنته القاذفات والقتلة الإسرائيليون، أمرًا مستحيلا.
كل كلمة تناشدنا بأن ينصب اهتمامنا على محنة هذه الأرواح ومعاناتها وصمودها، هذه الحيوات التي تعيش كل لحظة مع موتها العنيف شبه المؤكد هذه كلمات مكتوبة للعالم تناشدنا بأن نرى ونسمع ونتخيل ونفعل.
ما الوصية الأخيرة؟ إنها آخر ما تبقى من رغبة وأمل.
ما الشهادة؟ إنها تمنحنا شذرات من حياة لا تزال على قيد الحياة، بينما تسبر غور مستقبل حياة لم تعد على قيد الحياة.
تسأل الوصية عما تبقى من الرغبة في مواجهة هذه الوحشية، وهذا الدمار الشامل. حتى في الوقت الذي لا يتبقى شيء يمكن تقديمه، تظل الوصية بمثابة فعل كتابة، وتنقل الكلمات التي تحمل آثار حياة زائلة وأخرى مقبلة، كلمات تم جمعها قسرًا للإصرار على أواصر التضامن بين الأحياء والأموات.
وهذه بعض مختارات من وصايا الكتاب، أولها بقلم الروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول، وقصيدة شعرية للأكاديمي الفلسطيني والشاعر رفعت العرعير، والشاعر سليم النفار، والشاعر أمل اليازجي، والشاعر مصعب أبو توهة.
يسري الغول (وصية رجل حالم)اعتقدت لوقت طويل أنني سأجلس على مقعدي الوثير، في ليلة ماطرة من مساء شتوي مثقل بالبرد ينبعث صوت أم كلثوم وأنا أكتب وصيتي الأخيرة لأبنائي وزوجتي ومن يهتم لأمري، وللقراء الذين يظنون أنني شخص خارق.
وكنت كذلك، أحلم أنني سأكتب الوصية بقلم أزرق جاف من نوع فاخر، أضع النظارة على أرنبة أنفي، أحك شعري المجعد المليء بالشيب، بجواري حبوب الضغط والسكري، أسجل انكساراتي وخيباتي وتعاليمي ومواعظي ولا أعرف كم سيكون عمري حينذاك، ربما ثلاثة وسبعين عاما أو أكثر قليلا.
لكن المصيبة أن هذا الأمر لن يحدث بعدما انتشرت رائحة الحرب في الأرجاء دُمرَ بيتي وَقُتِلَ جيراني، نزحنا من مكان لآخر، من مركز إيواء إلى بيت صديق حميم إلى الشارع، لذا بت أنتظر الصاروخ كي يقضي على ما تبقى مني، فأنصرف عن الحياة بصخب كما فعلت الصواريخ اللعينة في قصصي ومدينتي.
القاص والروائي يسري الغول صدر له قصص وروايات بينها "قبل الموت بعد الجنون"، "الموتى يبعثون غي غزة" (مواقع التواصل)إن ما جرى يفوق الخيال، ويتجاوز فكرة الانصراف إلى الكتابة في هذا الوقت العصيب فتحريض العقل على طهي نص مسبوك لأجل صديقة تقطن في الضفة الأخرى من الوطن محض هراء.
وكذلك أن نجمع الوصايا المتخمة بالموت في كتاب يوثق اللحظة؛ كي نضع العالم أمام واجبه الأخلاقي تجاه الإنسان المهزوم في قطاع محاصر، يشبه المدن المتحضرة رغم لونه قاتم السواد، يسمى غزة.
ولأنني مضطر أن أكتب وصيتي أيضا، قررت تنفيذ عملية فدائية لعلي أحظى بهدنة قصيرة.
لذا فكرت أن أجمع شتاتي، ألتحم مع الجدران المدمرة، الأبنية المنهارة على رؤوس ساكنيها، أتضخم مع الحديد الذي اخترق أجساد الأطفال والنساء، وأصير ذلك العملاق، ربما أعظم من الهولك الأخضر، وأقوى من الأيرون مان، أتحول إلى مخلوق یكبر كلما سار في الطرقات.
الطرقات التي تنتشر فيها رائحة الدم والصواريخ والدمار الهائل، تلتصق بجسدي كتل الباطون والإسمنت والحجارة حتى أصير مثل عمالقة أفلام هوليود تماما، كي أقضي على الدبابات التي قنصت ابن خالتي ودمرت بيت أخي، ولألتهم الطائرات المغيرة على الأبرياء كل دقيقة.
ترى هل يمكن للقبضة الإسمنتية أن تتأثر بضرب الطائرات الحربية التي تمارس هوايتها باللعب فوق بيوتنا المتهالكة، تلك التي تسقط حممها البركانية بينما يضحك كابتن الطائرة لإصابته الهدف بدقة، وإنهاء حياة أطفال كانوا ينتظرون الذهاب إلى المدرسة في جعبتهم حلم دراسة الهندسة عندما يكبرون؛ كي يعيدوا ترميم وترتيب البيوت مجددا.
لقد قررت حقا البحث عن الوسيلة الناجعة في تدمير طائرات "إف16″ و"إف35" والكواد كابتر والدرونز فجمعت الحديد في قبضتي لأضرب كل الطائرات المارقة، العابئة بكل تفاصيل الحياة، المتناحرة في هذا الكوكب الصدئ، لكنني اكتشفت عجزي وقلة حيلتي.
ولأن اليد من لحم ودم، أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحول بعضهم إلى زمار يأخذ الأطفال إلى مغارة بعيدة، يعزف كل رجل فيهم مقطوعته الموسيقية عند الفجر ليذهب الملائكة الصغار إلى مغارة لا مكان فيها للموت، وأن يلبس البقية قناع زوربا ليسرقوا الطعام والألعاب من بيوت الأغنياء.
هذه وصيتي التي لا أعرف إن كانت ستصل إلى أصحابها أم لا، خصوصا أن المخيم بلا إنترنت أو كهرباء، وصية شخص غارق في الخوف والأمل.
أرجو أن تصل بأي وسيلة، عبر الكوابيس أو الأحلام، أو عبر يمامة مغبرة، غارقة في التيه.
رفعت العرعير (إذا كان الموتُ لزاما علي)إذا كان الموتُ لزاما علي
لا بد وأن تحيوا أنتم
لترووا حكايتي
لتبيعوا أغراضي
لتقتنوا قطعة من الملابس
وبعض الخيوط
(ولتكن بيضاء ذيلها طويل)
حتى يرى طفل، في مكان ما في غزة،
وهو يتأمل السماء
ينتظر والده الذي رحل في انفجار
ولم يودع أحدًا
ولا حتى لحمه
ولا حتى نفسه
يرى طائرة ورقية، أنتم من صنعها، تحلّق
عاليا
ويحسب للحظة أن ثمة ملاكًا هناك
يردُّ الحب.
إذا كان الموتُ لزاما علي
فليأت بأمل
وليأت بحكاية.
أريد أن أنجو.
سليم النفار (إعلان براءة)
25 يوما من التطهير العرقي ضد شعبنا. حرب تقودها راعية البشر أميركا. 25 يوما لم يعرف النوم جفوننا. وإذا غفونا لا نعرف إن كنا سنصحو أم نواصل نومنا الأبدي؟ ولا أحد من العرب يحرك ساكنا يخفف من آلامنا وأحزاننا التي طغت على قلوبنا وقلوب أهلنا.
الشاعر سليم النفار استشهد مع زوجته وبناته وابنه وشقيقه وعائلة أخته في حصر النصر بمدينة غزة (مواقع التواصل)لذلك، وصيّتي لأولادي إن قدر الله لكم الحياة أن تعلنوا البراءة من العرب، فواقع الأمر يدلل بأنهم لا ينتمون لجنسنا. بل هم وقادتهم جزء من المؤامرة التي تستهدف إبادتنا.
أمل اليازجي (لقد زال همكم إلى الأبد)لو رحلنا اطووا صفحتنا للأبد.
مزقوا فلسطين من كراسة ذاكرتكم فليس لكم بها حاجة، أخبروا أصدقاءكم أنه كان هناك أمل، ثم انطفأ.
واصلوا حياتكم كأننا لم نكن، العبوا، اشربوا، كلوا، تنزهوا، احتفلوا، تزينوا، غنوا، ارقصوا، افعلوا كل شيء.
لكن إياكم أن تنظروا إلى مراياكم، لأنكم إذا فعلتم فسترون دماءنا على وجوهكم، وأشلاءنا بين أيديكم، وصراخنا في ملامحكم، وأصواتنا دخانًا ينقش خارطة فلسطين على صدوركم.
أمل اليازجي (مواقع التواصل)حين نرحل؛ مزقوا كتب التاريخ، ولا تخبروا أولادكم أنه كان هنا شعب قاوم خمسة وسبعين عاما دون أن يفقد الأمل قبل أن يقتله الأمل.
حين نرحل؛ أحرقوا الجغرافيا. إياكم أن تخبروا أولادكم أنه كان لنا جيران من العرب المسلمين، تعلقت قلوبهم بنا حبا، ولم يفهموا أن من الحب ما قتل، لا تخبروهم أن حدودًا وضعها المحتل، وأمركم أن تحرسوها، هي من كانت المقصلة التي قطعت رقاب جيرانكم، والسيف الذي غرز في ظهر ماردهم، والحفرة التي دفنوا فيها.
إياكم أن تخبروهم أنكم انشغلتم بإنجازاتكم العظيمة فصنعتم أكبر صحن تبولة، وأعظم طنجرة مقلوبة، وأفخم منسف باللحم، وألذ طبق كشري، وأروع موسم فني للرقص والغناء بينما كانوا يبادون وحدهم.
احتفلوا كثيرًا، فلن يظهر عويل ولا بكاء ولا جرائم مروعة على شاشات أطفالكم تعجزكم عن الإجابة عن أسئلتهم.
نظموا حفل عشاء كبيرا، ولا تنسوا كاتشاب دمائنا، ولا فلفل قهرنا، ولا عصير دموعنا، ولا صراخنا.
لقد زال همكم الكبير، وإلى الأبد.
مصعب أبو توهة (إن كنتُ سأموت) الشاعر والكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة (مواقع التواصل)إن كنتُ سأموت
فليكن موتًا نظيفًا.
لا ركام فوق رفاتي
لا جروح في رأسي أو صدري،
لا دمار في مخدعي
لا آنية ولا كؤوس متكسرة.
أبقوا ستراتي
وسراويلي
حديثة الكي
على حالها
في الخزانة
فقد أرتدي بعضًا منها بعد أن تمرّ
جنازتي
لا تؤذوا أطفالي، فلا يزال
العديد من كتب الشعر
لتُقرأ،
المزيد من الحكايات الخرافية والقصائد الجديدة
الكثير مما قد عشناه.
لتُكتَب،
الكثير مما قد عشناه.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مواقع التواصل
إقرأ أيضاً:
«كتاب الأمنيات».. عزف على وتر الخيال
محمد عبدالسميع (الشارقة)
أخبار ذات صلة بعثة العمرة الرسمية لـ«إسلامية دبي» تعود إلى أرض الوطن قمة المليار متابع تعلن عن 10 مرشحينقدمت فرقة مسرح دبي الأهلي مساء أمس الأول، مسرحية «كتاب الأمنيات»، ضمن عروض مهرجان الإمارات لمسرح الطفل في دورته الثامنة عشرة 2024، وهي من تأليف الكاتب الليبي معتز بن حميد، وإخراج الفنان سالم التميمي، وتمثيل كل من الفنانين: عبدالله صنقور، عبدالعزيز حبيب، حمدي حجيرة، مارسيل، ليان المحلاوي، ومريم خال، رانيا عيزوقي وآخرون.
تدور حكاية العرض، حول مجموعة من الأطفال، يجتمعون في منزل الطفلة ياسمينة، من خلال حفلة متخيلة من قبلهم كلعبة يمارسونها بينهم في الأوقات التي يتلاقون فيها، حيث تبدأ الحفلة بلعبة من ألعاب الخيال، لتنتهي بعد ذلك بأحداث عجيبة وغريبة، حينما يقترح عليهم أحد الأطفال لعب لعبة العودة بالزمن، والتي تتحول من لعبة متخيلة إلى واقع حقيقي، تنقلهم إلى عصور وأماكن غريبة يجدون أنفسهم عالقين فيها وغير قادرين على الخروج والعودة إلى عصرهم ومنازلهم. وتستمر أحداث المسرحية حتى تصل إلى نهايتها بعودة الأطفال إلى واقعهم بعد دروس عدة تعلموها من خلال رحلة مزجت بين الخيال والواقع.
ساهم العرض في رسائله الموجهة للطفل، في تكريس قيم المعرفة، وأهمية الخيال في بناء إدراك الطفل ووعيه.
حالة تواصل
خلق العرض حالة من التواصل الجيد مع الجمهور، من خلال الحكاية التي لامست مخيلة الطفل، والتفاعل معها، وكذلك من خلال الحلول الإخراجية التي اعتمدها المخرج والتي ارتكزت على الممثل، وعلى الإضاءة التي لعبت دوراً كبيراً في إيصال رسائل العرض إلى المتلقي الصغير، كذلك ساهم الديكور في بناء مشاهد محببة للأطفال، حيث استند العرض في ذلك على التكثيف والاختزال، والذي ظهر جلياً على مستوى الماكياج والأزياء وحتى الموسيقى والمؤثرات الصوتية التي لم تكن مجرد شكلاً جمالياً، بل كانت أجزاء متممة للعرض.