بغداد اليوم -
المصدر: وكالة بغداد اليوم
إقرأ أيضاً:
آفاق الرواية في الخليج
لقد أضحت الرواية العربيّة الشكل الأدبيّ الأغلب والأكثر انتشارًا ومقروئيّة وفعلًا فـي حياة العباد، وأصبحت السوق الخليجيّة ضامنًا لرواج الرواية وحسن تلقّيها، غير أنّ هذه السّوق تسير بلا هدْي ولا هدى، وتحتاج خارطةً قرائيّة تنظّم هذا التراكم وتحدّد مساراته، وإلاّ انتهت فورة سائرة إلى زوال وطفرة سريعة الامّحاء وشعلة يسيرة الانطفاء. الرواية فـي خليج العرب تعيش اليوم فورة تألّقها، وتتصدّر مشهد الرواية العربيّة وتحتلّ منزلةً مهمّة فـي تمثيليّة الرواية العربيّة فـي العالم الغربيّ، وتنافس بحدّة وشدّة المنزلة التاريخيّة التي كانت للرواية المشرقيّة، وهي تعبّر عن فضاء وممكنات سرديّة خفـيّة على قسم من العالم العربيّ، شهيّة لقسم آخر من هذا العالم، مفاجئة إلى حدّ كبير الذائقة الغربيّة التي تربّت على رواية عربيّة شبيهة بما يكتبه نجيب محفوظ ومشتقّاته. الرواية الخليجيّة -إن جاز الوسْم- رواية لها أرضيّة وممكنات وآفاق، ولها أيضًا ممكن موات قريب إن لم يسْع إلى تغذية أثرها وتنمية مظاهرها وتوسيع دائرة قرّائها. فرغم جهود نخبة من الشباب الدارسين المتابعين للحركة الروائيّة فـي الخليج وعملهم على متابعة النشاط الروائيّ إلاّ أنّ جهودهم تظلّ قليلة ولا تؤثّر فـي المشهد الروائيّ ما لم تحط بعناية مؤسّساتيّة (الجامعات الخليجيّة كان يمكن أن تلعب هذا الدور، ولكن أكلتها البيرورسميّات والبيروشكليّات وأفكار النحاة المتكلّسين، لا النحاة المستنيرين)، فـي حين أنّنا نحتاج إلى جهود مختلفة عن سائر السائد فـي المجال الثقافـيّ العربيّ، نحتاج إلى نشاط نقديّ مختلف يساير النشاط الإبداعيّ الروائيّ ويواكب تألّقه وتصدّره المشهد الأدبيّ، هذا النشاط النقديّ المرغوب المطلوب يضارع الفعل النقديّ فـي الغرب، بوساطته يصبح الفعل النقديّ حازمًا وحاسمًا أحيانًا فـي تعيير الأعمال الروائيّة، ولا يكتفـي بمحض المتابعة والمسايرة، وإنّما هو فعل مؤسّس مشرّع، لأنّ طبيعة الدراسات النقديّة السائدة اليوم تنقسم إلى فرعين، فرع أكاديميّ، حبيس أسوار الجامعات، يظهر فـي الدراسات المقدّمة فـي مراحل الماجستير والدكتوراه، وهي دراسات فـي الغالب الأعمّ خاضعة لشروط مقيّدة، وملتزمة بشكليّات بحثيّة تقبر كلّ نفس إبداعيّ أو جموح نقديّ، وعلى ذلك فإنّ أغلب هذه الدراسات هي أعمال تموت بعد مناقشتها، ولا فائدة منها ترتجى، وفرْع صحفـيّ يمارسه نقّاد متابعون للأعمال الروائيّة، يواكبون صدورها ويلحقونها بآراء فـي الغالب هي آراء انطباعيّة وعرضيّة لا عمق فـيها وفقًا لما يقتضيه المقام الصحفـيّ. ما نحتاجه هو وجود مؤسّسات داعمة لحركة نقديّة أو لحلقات نقديّة فاعلة، تخصص للباحثين فـيها مخابر بحث ودعم وتمويل لإنجاز رؤية نقديّة تشخّص الحالّ وتبني لمشروع مقْبل. الرواية فـي الخليج وقد بلغت من العلوّ مرتبة، ومن التنوّع منزلةً ومن التفرّد مكانةً أمام مفترق من الطرق، فطريق يحملها إلى التكرار والاجترار إيمانًا بمواضيع كانت بكْرًا غفْلًا طرقها عدد من الروائيين الذين كان لهم فضل السبق والريادة والتمكين، فالرواية فـي الخليج لا تدين فـي نجاحها لباعثيها الأول -وهو أمر منطقيّ -تاريخيًّا- وإنّما إلى الجيل الأوسط الذي استوعب فعل البدايات وانفتح على تجارب كونيّة وعايش واقعه وامتصّ أساطيره وتمثّل حكايات الأوّلين وصاغ كلّ ذلك فـي تجارب روائيّة مميّزة ومختلفة، هذا الجيل الأوسط يحتاج رعايةً نقديّة مؤسّسة على أصول علميّة ومؤسّساتيّة، وليست محض جهود ذاتيّة. دور النشر مسؤولة على ذلك، الهيئات الثقافـيّة والأدبيّة مسؤولة على ذلك، التجمّعات الأدبيّة وجب أن تتعهّد بذلك. أعمال أصليّة عديدة هي المهاد الرئيس لبعْث رواية خليجيّة لا يحتاج فـي دراستها إلى التنازع حول الأسماء المؤسّسة، ولا دخول نزاعات فـي إثبات الأسبقيّة التاريخيّة للكتابة الروائيّة، فعبد القدوس الأنصاري فـي رواية «التوأمين» (1930) ومحمد نور جوهرجي فـي رواية «الانتقام الطبيعي» (1935) فـي السعوديّة، وراشد الفرحان فـي رواية «آلام صديق» (1948) فـي الكويت، وعبداللّه الطائي فـي «ملائكة الجبل الأخضر» (1963) فـي سلطنة عمان، وفؤاد عبيد فـي روايته «ذكريات على الرمال» (1966) فـي البحرين، كلّ هؤلاء قد مثّلوا الجيل الذي وضع حجر الأساس، ويرجع إليه الفضل فـي باكورة البعث والتأسيس، غير أنّ أعمالهم تبقى فـي إطار النواة الأولى التي لم تنضج فنيّا، وقيمة هذه الأعمال لا تتعدّى القيمة التأسيسيّة، دون بلوغ درجة فنيّة عالية، تخضعها إلى الدراسة العميقة، غير أنّ ما تأسّس من تنوّع بعد ذلك، وخاصّة بدايةً من أواخر الثمانينيات، هو البعْث الحقّ للرواية الخليجيّة ذات المشترك الحضاريّ والشعبيّ والأسطوريّ المشترك. فالغرب قد وسم منطقة شبه الجزيرة العربيّة بأنّها منطقة لغويّة، أيّ أنّ المشترك الجامع بين مختلف أقطارها هو العامل اللّغويّ، وهو خطأ استشراقيّ بالغ الأثر فـي التصوّر الغربيّ للأدب الخليجيّ، ذلك أنّ الجامع المشْرك لمنطقة الخليج هو الأصْل العرْقيّ والاشتراك الثقافـيّ والحضاريّ والشعبيّ، وهو ما يدفعنا إلى وسم الرواية بالخليجيّة ويدفع النقد إلى البحث عن ممكنات الاشتراك الضامنة للنجاح المستقبليّ حتّى لا تتآكل الرواية ولا تأكل ذاتها، مقبل الرواية الخليجيّة رهين تحكيم النقد وتفعيله واعتماده آليةً مؤثّرة فاعلةً دافعةً، تنظر فـي المنجز وتضعه موضعه وتفتح أبوابًا لمجالات يمكن أن تلفت انتباه الروائيين وتدفعهم إلى العمل عليها. يحتاج إلى دراسات معمّقة فـي الأسطورة فـي منطقة الخليج، وفـي الخرافات الشعبيّة، وفـي الدراسات الدينيّة، وفـي التحوّلات الاجتماعيّة، وهي النسيج الذي منه تنضج الرواية وتورق، فالواقع يسير الاستنزاف، ومعانيه قابلة للاستهلاك، غير أنّ روح الرواية فـي عمق أساطير الشعوب، وما هو مركوز فـي الثقافة الشعبيّة من اعتقادات تتحوّل إلى حكايات، وهو البحر الذي منه يغرف الروائيّ، وإن جفّ تعطّلت الحلوق وصمتت شهرزاد. |