تتحدّث معه مباشرة دون واسطة، في حديث عميق، ومناجاة عظيمة، تسبِّحه وتحمدهن وتقرأ شيئا من كلامه، هذا حال المصلّي مع رب العالمين، وكما يُقال إذا أردت أن تتحدَّث إلى الله فصلِّ، وإذا أردت أن يتحدَّث معك فاقرأ القرآن، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه حال المسلم في هذه الحياة الدنيا التي أوجدها الله فيها لعبادته في المقام الأول، حيث قال الله تعالى في كتابه العزيز: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" فهو غني عن العالمين، ولا يريد من الخلق أن يرزقونه أو يطعمونه، فهو الرَّزاق المنعم المتفضّل على عباده أنْ أوجدهم من العدم، ولا يستطيع عباده أن ينفعوه أو يضروه.
والصلاة هي عمود هذا الدين، ففي الحديث النبوي الشريف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الأَمْرِ: الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ: الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله" فالصلاة بمثابة العمود الذي تستند إليه الخيمة ولا يمكن نصبها إلا بوجود هذا العمود، أي أنه لا يكون المسلم مسلما إلا بالصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
ولأجل أهمية الصلاة كانت قرَّة عين الرسول صلى الله عليه وسلم فيها فقال: "وجعلت قرّة عيني في الصلاة" فحبَّبها الله إلى نبيّه الكريم بل وفرض عليه ما لم يفرضه على المسلمين، ففرض عليه قيام الليل فقال: "قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا" فكان عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتورّم قدماه. ولأن الصلاة منجاة فهي تؤدى حتى في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ولذلك كانت هنالك صلاة المواقفة وصلاة المسايفة التي تكون أثناء الحروب، كما أن المريض لم يُعذر منها فمَن لم يُصلِّها واقفًا، يصلِّها جالسًا، ومَن لم يستطع فليُصلِّها مضطجعًا.
وهي عبادة مرتبطة بالزمن، أي أنها تؤدى في أوقات مخصوصة، وأفضل أوقاتها أول الوقت، فقال الله عز وجل في كتابه الكريم: "إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا"، ومن المعلوم المجرب أن الالتزام بالصلاة في أوقاتها ينظم حياة المسلم، بل ويجعل أعماله وأوقاته مباركة، وتتكون عنده ساعة بيولوجية، تنبهه بأوقات الصلاة دون النظر إلى الساعة، بل وتوقظه من نومه، فيصبح قلب المؤمن معلقًا بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ومَن كان هذا حاله فقد بشرّه الله بأن يكون في ظل الله يوم القيامة، يوم لا يكون إلا ظله، في ذلك اليوم العسير الذي تكون فيه الشمس على رؤوس الخلائق ويكون طول ذلك اليوم 50 ألف سنة، فلك أن تتخيّل اللحظات المرعبة من الانتظار والترقب، وأنت تستظل بظل الرحمن الذي يُنجيك من الحر.
والصلاة ليست مجرد حركات وسكنات يؤديها المصلي خلف الإمام، وإنما هي عبادة تتجسد فيها معاني العبودية الخالصة لله عز وجل، فهي عبادة حية روحها الخشوع والخضوع لله عز وجل، ولا تقبل من قلب غافل، فالمقصد منها ذلك التواصل والصّلة التي تكون بين العبد وخالقه في تمثل كل ركن من أركان هذه الصلاة وتأديته على أكمل وجه، واستحضار عظمة الله، لكي تحصل بها الفائدة للمصلي ويتبيّن أثرها في حياته، فالصلاة الصحيحة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ".
ولكي تبلغ درجة الإحسان في الصلاة يجب عليك أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فعند وقوفك بين يدي الله في الصلاة، فأنت تقف بين ملك الملوك وربّ الأرباب العظيم الذي خلقك، وعندما تضع جبهتك على الأرض تستشعر ذُلَّك وانكسارك أمام عظمة الله الذي خلقك وأنت كائن حقير أمام خلق الله الذي خلق الكواكب والنجوم والمجرات والمجموعات المجرية والكون الذي يدير شؤونه، فأنت تستمد منه فيوض رحماته وبركاته وعطاءاته، وكذلك الأمر في كل ركون وتسبيح وسجود، فمَن يداوم على هذا الأمر ويسعى إليه، ستكون له هذه الصلاة حرزا من الشيطان وأدبا للنفس، فستنهاه هذه الصلوات عن فعل المنكرات والوقوع في الفواحش، وهذه إحدى أعظم الثمرات، وهي أن تكون لله كما أمرك، منتهيًا عما نهاك عنه.
وهذا لا يتأتى بالتفويت والتفريط في الصلوات، ولكن يحصل بالمحافظة عليها والحرص على أدائها في أوقاتها، فهذا الاجتهاد موصل إلى توفيق الله عز وجل، كما ينبغي على المسلم أن يدعو الله أن يُعينه على إقامة الصلاة على الوجه الذي يُرضي ربنا، وهذا دأب الأنبياء والصالحين، فهذا الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو ربه أن يجعله مقيما للصلاة فقال الله عز وجل على لسانه: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ".
ولأنها عمود الدين وركنه المتين، فإن الشيطان يحاول إفساد صلاة المسلم، وذلك من خلال الوسوسة، التي تجعل المصلي يسهو عن الصلاة وينشغل فكره بأمور الحياة الدنيا، فيجب مدافعة الشيطان ومعرفة مخارجه ومداخله، وأن يتخلى عن الشواغل التي تشغله عن الخشوع.
ومن الوسائل المعينة على الخشوع في الصلاة هو الإكثار من النوافل، وخاصة في الصلوات التي تكون في خلوة، كقيام الليل، فمن اقتطع وقتا من نومه وقام وتوضأ في الليل والناس نيام، وصفَّ قدميه في عبادته وصلاته لله رب العالمين، فإنه سيكون أقرب إلى الله وأدعى إلى الخشوع والخضوع وطلب الرحمة.
كما أن على المسلم أن ينقّي قلبه من العجب والرياء، وأن يستعين على هذا الأمر باستحضار القلب من أن المقصد هو عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكثر من الدعاء بقوله "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" وأن يوقن أن كل من جاء إلى المسجد جاء لأجل الله وليس لأحد سواه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لله عز وجل فی الصلاة الذی ی
إقرأ أيضاً:
أن تخالط الناس وتصبر على أذاهم
يمثل الإنسان بذاته لبنة من لبنات البناء المجتمعي، فالمجتمع هو عبارة عن أفراد يعيشون مع بعضهم البعض في جماعة وتحكمهم مجموعة من الروابط الأسرية والدينية والعادات والتقاليد، والقيم، والأعراف، والقوانين، والانتماء الجغرافي، فالإنسان يصعب عليه أن يعيش بمفرده، فحياته قائمة على تبادل المنافع ومشاركتها مع المحيط الذي حوله، فكان لزاما على المسلم أن يخالط الناس، ويتبادل معهم المنافع، ويكون له تأثير إيجابي على من حوله، فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلـم يقول: "خير الناس أنفعهم للناس" فنجد في هذا الحديث أن الخيرية ومرتبة التفضيل التي ينالها المسلم تتمثل في نفعه المتعدي إلى الناس، وهذا حث بليغ لكي يساعد الناس بعضهم لبعض، وأن تنتشر بينهم هذه القيمة الإنسانية الخلاقة.
وفي موضع آخر نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلـم شبه علاقة المسلم لأخيه المسلم بالبنيان، فقال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" فهي علاقة قوية راسخة يسند فيها كل منهما الآخر، وعندما أراد عليه الصلاة وأزكى السلام أن يصور التواد والتراحم الذي يكون في المجتمع المسلم شبهه بالجسد الواحد، فقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ففي هذه المعاني السامية التي تمثل هذه العلاقات المتينة والروابط القوية يتجلى أثر مخالطة الإنسان لأخيه في مجتمعه، فيتبادل معهم المنافع، ويقوم على شؤون أهل بيته وأسرته ومجتمعه، ويسعى إلى صلاح هذا المجتمع بالكلمة الطيبة، والحكمة، والموعظة الحسنة، وبالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
كما أن عليه أن يخالط الناس ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويكون قريبا منهم فهو بذلك يكون أقرب لنفعهم، وأجدى لمشورتهم، وأكثر قبولا لنصحهم، ولكن عليه أيضا أن يكون محتملها لكلامهم واسع الصدر حليما كريما صبورا على الأذى، فطبيعة الناس مختلفة، وأفكارهم متباينة، وطباعهم متفاوتة، فعلى المرء أن يخالط الناس ويصبر على أذاهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلـم في هذه المعاني: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
ولذلك وضعت الشريعة الإسلامية مجموعة من الضوابط لهذه المخالطة وهي ضوابط أخلاقية يجب ان يتسم بها المسلم، منها أن يتصف بصفة العفو والتسامح وحسن المعاملة، كما أنه يجب عليه اجتناب المعاصي التي قد تحصل جراء هذه الخلطة في المجالس مثل الغيبة والنميمة، وعليه أن يتحلى بالصدق في أقواله وأفعاله، وأن لا تمتد يده أو لسانه بالأذى، وأن يعفو ويصفح على من أخطأ عليه من إخوانه، وأن يوقر الكبير، ويحترم الصغير، وغيرها من أخلاق التعامل التي حض عليها الدين الحنيف.
ولن يستطيع المسلم خدمة أفراد مجتمعه إلا إذا خالطهم وتعرف عليهم وأصبح عنده علم بضروفهم وأحوالهم، ووبذلك يحصل نفعه لهم، بمد يد العون والمساعدة، كما أن هذه الخلطة تؤصل مبدأ التكافل الإجتماعي، وتذيب الحواجز والفروقات الاجتماعية، وتجعل من أفراد المجتمع لحمة واحدة.
ولكن ينبغي الحذر من ان تكون مسألة المخالطة هي مطية أو عذر يعتذر به البعض من الذين يحضرون مجالس السوء، فالمسلم ينبغي منه أن يبتعد عن مجالس الفتن ويفر منها ويعتزلها، بل ويجب عليه أن يبحث عن الرفقة الصالحة والصحبة المعينة له على الخير، وأن تكون خلطته للناس في المجالس العامة النافعة، أو مجالس المناسبات سواء كانت أفراحا أو اتراحا، فالإنسان يتأثر بمن يجالسهم، ويتأثر بالبيئة التي يعتاد الجلوس فيها، فعلى المسلم أن يتحرى مجالس الصالحين، ويرتبط بقرناء الخير، ويبتعد عن قرناء السوء، لأن قرناء السوء يوردون أصحابهم المهالك، ويعينوهم على المعصية، ويبعدونهم عن الطاعة، ويزينون لهم المنكرات.
ولن يكتشف الإنسان حسن خلقه إلا من خلال الخلطة، مع أسرته ومع أبناء مجتمعه، فيقيس مدى حلمه عنهم، وصبره على أذاهم، وردة فعله على إسائتهم، وجميل تعامله معهم، فيربي نفسه على أن يكون في المجالس كما أمره الله عز وجل وكما ذكرته السير النبي من خلق الرسول صلى الله عليه وسلـم، فبذلك يربي نفسه، ويزكيها، ويصعد بها إلى أعلى المراتب حتى يكون أقرب الناس مجلسا للرسول صلى الله عليه وسلـم يوم القيامة، فالرسول الكريم يقول: " إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".
ومن أشكال الخلطة النافعة زيارة الأرحام وتفقد أحوالهم والسعي لمصالحهم، وهذا يفتح أبواب الرزق، فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلـم " مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه" والزيارة لا تقتصر على السلام وتناول الطعام، وإنما تتجاوز ذلك بتفقد أحوال الناس، وتلمس حاجاتهم، وبذل الجهد في إعانتهم.
والمسلم الحصيف يوزع حالته بين الخلطة والعزلة، فيعرف متى يجب ان يكون في المخالطة، ومتى ينبغي له أن يكون في عزلة، فالوقت عنده موزع ومحسوب، وتصرفاته مدروسة، فيجعل للخلطة وقت يعين فيه إخوانه ويزكي فيه نفسه من خلال نيته في نفعه للناس، ولكن لا ينسى أن يكون في عزلة مع نفسه ومع ربه، فهو يوافق بين الأمرين.