لا عزاء لضحايا الحروب العبثية والفرص المهدرة
تاريخ النشر: 5th, September 2024 GMT
بقلم: حسن أبو زينب عمر
على مدار أسبوع كامل طغى مشهدان مصدرهما السودان على كل وسائل الميديا المحلية تاركان كل أجهزة الاعلام المسموع والمقروء تلهث للحاق بهما. بل ان المشهد الثاني كان مؤهلا بأن تتسابق عليها وكالات وصحف وتلفزيونات العالم لاكتمال كل عناصر الاثارة والتشويق فيه لولا ان ولادته كانت في بلدة هامشية منسية في خاصرة الشرق لا نعرف ان كانت مصنفة قرية كبيرة أو مدينة صغيرة فطارت فرصة السبق الصحفي عن أجهزة العالم.
(2)
المشهد الأول سجل باسم امرأة (قوز هندي) التي أسمعت البرهان رئيس مجلس السيادة كلمات استغاثة وهي حاسرة الرأس لم يكن (معتصم السودان) جاهزا للرد عليها من هول المفاجأة والمباغتة ووجع الإحساس. لا أدرى مصيرها الآن هل حققت معها أجهزة الأمن أم تركتها وشأنها. المشهد الثاني لطبيب مستشفى (طوكر) وهو يخوض بيديه العاريتين أمواج السيول العارمة للوصول الى مرضاه الذين غمرت مياه الفيضانات مأواهم في مشهد من الوفاء والأمانة لم له مثيلا في زماننا هذا. لا أدري هل وجدهم على قيد الحياة أم جرفتهم المياه فأصبحوا أثرا بعد عين.
(3)
لكن الخبر الذي أوقفني وأوقف كل سكان العاصمة الإدارية بورتسودان هو خبر ضجت به الأسافير وسبح فوق غيمه من السعادة الآلاف من أصحاب المسغبة والحرمان .. الخبر كان قبل شهرين تقريبا وكان يتحدث حديث الواثق عن دولة خليجية أبدت استعدادها للدخول في استثمارات واسعة في شرق السودان لهدوئه وسلامه النسبي ..رأس الرمح في الاستثمار الزراعي كان في مدينة طوكر المشهورة بمنتجاتها الزراعية العضوية organic وكان التركيز فيه على فاكهة (الفراولة) التي أكدت الأبحاث الزراعية عن ملائمة المناخ والتربة على نجاحها .المياه أيضا كانت ضمن أولويات المستثمر الخليجي وهو التركيز الى الحل النهائي لأزمة مياه بورتسودان وربما كل الشرق بمد أنبوب من المياه من النيل ..في مجال تطوير أداء الميناء كانت خطة المستثمر توفير كل المعينات من الرافعات وتوسيع المواعين بإدخال أحدث تكنولوجيا الصادر والوارد .
(4)
على صعيد التعليم فقد ركز المستثمر على جامعة البحر الأحمر التي توقفت عمليات تشييد مقرها في قرية كليناييب (5 كيلومترات جنوب بورتسودان ) لضيق ذات اليد لتكون مأوى للكلاب الضالة والهوام وعوامل التعرية جعلتها على مرمى حجر من آثار سواكن ..الخطة هنا انتشال الجامعة من وهدتها بتوفير كل المعامل والمكتبات ومراكز البحث والكوادر المتخصصة .. ولكن آه ثم آه فسرعان ما انتهت كل هذه الطموحات المشروعة الى لا شيء فما كل ما يتمناه المرأ يدركه فقد تحول الحلم الى كابوس لنستيقظ على واقعنا المرير الذي نعيشه بنفي السفارة الخليجية الخبر جملة وتفصيلا .
(5)
واقعة الحلم الأخضر والنفي الأسود يفتح على مصراعيه جدوى الاستثمار في السودان ويترك علامة استفهام حائرة حتى قبل أن تتلبد سمائنا بالصراعات السياسية العبثية حول أسباب فشل الاستثمار رغم الموارد الزراعية والحيوانية والمعدنية المهولة والمتنوعة التي حباها الله بلادنا يواكبه أيضا فشلنا الذريع الفاضح في استغلال الموقع الاستراتيجي النادر للسودان وقربه من أكثر أسواق العالم استهلاكا.
(6)
اذا تحدثنا عن طوكر المستهدفة بعيدا عن مشاريع الاستثمار العملاقة في الجزيرة والشمالية والقضارف فهي أرض بكر معظم أراضيها بور لقلة الإمكانيات ومنتجاتها الزراعية عضوية وهي المطلوبة في الأسواق العالمية فضلا عم موقعها الجغرافي المميز فهي على فركة كعب من أسواق الخليج على بعد 500 كيلومتر فقط .. جرت العادة أنه بعد الحصاد وفي نهاية الموسم الزراعي تواجه منتجاتها الزراعية من خضر وفاكهة عالية الجودة أزمة تسويق فهي تفيض عن الاحتياجات الفعلية لمدينة بورتسودان فيبدأ المزارعون ركضهم العشوائي نحو الأسواق البعيدة في الخرطوم للخروج بأقل خسائر.
(7)
ستصاب بخيبة أمل كبرى اذا كنت مثلي تبحث عن السودان في أسواق الخليج فالفلفل الأخضر والشطة والبصل الأخضر والبامية والكرمب المعروضة في (فترينات) البيع اللامعة في الأسواق قادمة من سريلانكا والهند وسيرتفع ضغطك اذا علمت ان بلدا مثل الشقيقة السعودية يستورد الدجاج اللاحم من البرازيل ولكن اللافت هنا ان العملية لا تتم عبر الشحن الجوي كما يعتقد الكثيرين بل لجأت البرازيل الى بديل أشبه بالخيال العلمي وهو الشحن البحري ولأن المسافة طويلة تقدر بعشرة آلاف كيلومتر تقطعها السفينة في شهرين فان الشحنة في بداية الرحلة هي بيض يتم وضعه داخل السفينة وفي الطريق يتم تعريضه لدرجة حرارة معينة داخل فقاسات معدة سلفا حتى يتحول الى كتاكيت يتم تغذيتها حتى تشب عن الطوق وتنمو لتصبح دجاجة كاملة الدسم على مشارف السعودية فيتم ذبحها وتنظيفها وشحنها داخل كراتين مكتوب عليها منتج برازيلي product of brazil .
(8)
المشهد هنا لعالم يمتلك إرادة ويؤمن بتطوير الذات والارتقاء بإنسانه الى سماوات ليست لها سقوف ولكن الأمر يختلف عندنا تماما فهو النقيض وهو الاتجاه المعاكس ..وأقولها ويعترف بها الجميع أننا فشلنا في قضية الاستثمار وفشلنا في توظيف موقعنا الاستراتيجي وسمعنا ما تشيب له رؤوس الأجنة في أرحام النساء من فساد وذمم منحطة وسلوكيات قذرة دفعت الكثير من المستثمرين يحمدون الله أنهم هربوا أحياء بجلودهم بعد أن أحاطت بهم ذئاب الاستلام (تحت التربيزة) كشرط لتطبيق الاتفاقيات ..أحد هؤلاء أصدر شريطا مسجلا لم يكتفي فيه بتوجيه أصابع الفساد الى مسئولي الاستثمار في السودان بل ذهب بانهم مرضى بداء الحسد والعياذ بالله .
(9)
نحن اخصائيون في اهدار الفرص حينما تأتينا على طبق من الذهب ..قبل شهرين من اندلاع الحرب اللعينة التي دفنت وتحت أعماق سحيقة من الأرض مقولة (السودان سلة غذاء العالم) رأيت في التلفاز رجلا قيل انه رئيس اتحاد نقابة المزارعين في حالة مزرية يشكو الى طوب الأرض ويستنجد بالبرهان بالتدخل السريع لإنقاذ الآلاف من المزارعين من السجن والسبب و يا لغرابة الأسباب انهم عاجزون عن دفع سلفيات البنوك بعد أن تدهورت أسعار البصل لضخامة الإنتاج ..الذي يلفت النظر هنا أن الطفرة الإنتاجية هنا جاءت مواكبة لقرار دولة خليجية بإلغاء عقد استيراد بصل من مصر مما جعل السوق مكشوفا أمام التاجر السوداني لتوظيفه لصالحه ولكن كل ذلك تحطم على صخرة الفساد واللامبالاة واللا تخطيط فطارت الفرصة وذهبت أدراج الرياح توسلات رئيس النقابة .
(10)
رغم توفر عناصر الإنتاج من أرض خصبة ومياه وفيرة ومناخ ملائم متنوع وثروات حيوانية وغابية ومعدنية فالإشكالية تكمن هنا في عقلية أجهزة التشريع والتنفيذ مع ضعف الرقابة ..الشاهد ان دولة مثل سنغافورة عديمة الموارد وكان يجمعها اتحاد مع ماليزيا ولكن الأخيرة طردتها لفقرها ولكن وبعكس كل التوقعات أصبحت الدولة التي لا تتجاوز مساحتها (عشر) مساحة امارة دبي الأكثر نجاحا في تاريخ البشرية خلال مدة وجيزة من عمر الدول ...يكشف (لي كوان يو) مؤسس الدولة عن الخلطة السرية فيقول ان رهاننا على أسس نهضتنا لم يكن على الموارد الطبيعية ولكن على العنصر البشري والحوكمة والشفافية وتطوير قدرات الانسان الذي يجر عجلات التنمية .
مدخل للمغادرة
بعد التحاقي بجريدة الصحافة عقب التخرج من الجامعة كلفني رئيس التحرير وقتها الراحل محمد الحسن أحمد ذات مرة اجراء حوار مع مدير منظمة الزراعة والأغذية (الفاو) ..سألته ماهي المساعدات التي تقدمها المنظمة للسودان فأجاب الدراسات والبحوث والتوصيات ثم صمت برهة وقال لي لديكم منطقة اسمها جبل مرة تنتج برتقال أبوصرة ووالله اذا قطعت برتقالة في راحة كفك فانك لن تستطيع استعادة استقامة راحة الكف بسبب تركيز السكر الناتج من العصير ..لكن للأسف تستوردون البرتقال من بلدي لبنان . فما حيلتنا اذن مع القائد (المظفر) محمد نور المشهور بمستر نو MR NO وجاره (الكومنادور) الحلو الذي لم يجد اعتراضا على نظم الحكم سوى الغاء البسملة وتغيير الاجازة من الجمعة الى الأربعاء. ولكن رغم اختلاف الرؤى بين الاثنين فان الذي يجمع بينهما هو رفض الأنظمة المدنية والعسكرية.
oabuzinap@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
هل يستطيع ترامب كسب الحروب التجارية قبل "الرصاصة الأولى"؟
يرى الكاتب السياسي دانيال مكارثي أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعرف بالضبط ما الذي يفعله بالتعريفات الجمركية. الآخرون في حيرة: لماذا أعلن فرض ضرائب باهظة على الواردات من كندا وكذلك المكسيك والصين؟، من الواضح أن لأمريكا مصلحة في الانفصال الاقتصادي عن الصين، بصفتها قوة عظيمة منافسة.
يستخدم ترامب التعريفات الجمركية لتحديد التوقعات مع الجارة الشمالية
كتب مكارثي في موقع "ريل كلير بوليتيكس" أن ترامب، ومن خلال فرض تعريفات جمركية على الواردات المكسيكية أولاً ثم تعليقها، تمكن من جلب حكومة المكسيك إلى طاولة المفاوضات بشروطه. حقق ذلك نتائج فورية في مكافحة الهجرة غير الشرعية والإتجار بالفنتانيل والمخدرات الأخرى إلى الولايات المتحدة.
ترسل الرئيسة كلوديا شينباوم الآن 10 آلاف جندي لتأمين الجانب المكسيكي من الحدود. ولديها شهر واحد لإنجاز المهمة وإبرام صفقة أكبر وأطول مدى مع الولايات المتحدة، أو ستعاود سريعاً فرض الرسوم الجمركية في مارس (آذار). ترامب يغضب محافظي كندا
مثل المكسيك، مُنحت كندا مهلة 30 يوماً لتسوية الأمور. وثمة المزيد للحديث عنه بخلاف الحدود الشمالية. يضايق ترامب رئيس الوزراء جاستن ترودو بشأن تحويل كندا إلى الولاية الأمريكية رقم 51. من الصعب تخيل تعريفات جمركية عالية بما يكفي لتحقيق ما لم يتمكن اجتياحان من تحقيقه على مدار مئتي عام تقريباً.
Can Trump Win Trade Wars Before They Start? https://t.co/zMFO1DRyvw
— RealClearPolitics (@RCPolitics) February 4, 2025حاولت أمريكا الاستيلاء على كندا بالقوة في الحرب الثورية وحرب عام 1812، وفي المرتين كانت تأمل أن ينقلب الكنديون تلقائياً ضد حكومتهم، ويطالبوا بحقوق وحريات المواطنين الأمريكيين. مع ذلك، يأتي أحد المكونات الأساسية للهوية الوطنية الكندية من المحافظين المؤيدين لبريطانيا، والذين فروا من المستعمرات الأمريكية بدلاً من الانضمام إلى الثورة الأمريكية. المحافظون الكنديون، بمن فيهم الرجل المتمتع بأفضل أمل لهزيمة الحزب الليبرالي في الانتخابات القادمة بيار بواليفير، لا يريدون أن يصبحوا أمريكيين.
إنهم غاضبون بشكل وطني من تهديد التعريفات الجمركية، وهم في خطر سياسي، إذا احتشد الكنديون حول الحكومة الليبرالية كمدافع عن سيادتهم وشرفهم الوطني، لكن ترامب يعرف كل ذلك.
يستخدم ترامب التعريفات الجمركية لتحديد التوقعات مع الجارة الشمالية للولايات المتحدة، تماماً كما فعل مع الصين والمكسيك. في بعض الأحيان يكون أفضل شيء يمكن أن يفعله الشخص أو الأمة لصديق هو أن يكون صارماً. لطالما كانت كندا غير جادة بشأن الوفاء بالتزاماتها الأمنية تجاه شعبها وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، على حد سواء.
من المفترض أن يساهم أعضاء الحلف بما لا يقل عن 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع. أنفقت كندا 1.37% فقط السنة الماضية، ووعد ترودو بأن تصل بلاده إلى عتبة 2% بحلول 2032.
Can Trump Win Trade Wars Before They Start?
A Commentary By Daniel McCarthy
Donald Trump knows exactly what he's doing with tariffs.
More At Rasmussen Reports:https://t.co/5pqHh4QidN pic.twitter.com/GBreao8aWo
وفق الكاتب، ليس هذا تعهد زعيم يشعر بأي إلحاح حيال توفير أمن بلاده، ناهيكم عن مساعدة الأصدقاء عندما تكون هناك حرب بالقرب من حدودهم. حتى الآن، كان رؤساء الوزراء الكنديون راضين عن السماح لأمريكا بدفع فاتورة الأمن، وهو ما دفع ترامب إلى التساؤل عن سبب دفع الولايات المتحدة ثمنها إذا لم تكن الأرض أرضها.
ما لا تستطيع أمريكا تحمله توجه معاملته القاسية لترودو رسالة إلى أوروبا، حيث بدأ المزيد من دول الناتو تلبية مساهماتها الدنيا البالغة 2%، لكن بالكاد يتم ذلك: على سبيل المثال، أنفقت ألمانيا 1.3% على الدفاع في 2023 ولم ترفع ذلك إلا إلى ما يزيد بقليل عن 2% في السنة الماضية، بالرغم من أن حلف شمال الأطلسي يواجه أعظم تحد له منذ نهاية الحرب الباردة مع غزو روسيا لأوكرانيا.في القرن الحادي والعشرين، لا تستطيع أمريكا تحمل أن يخدعها الأصدقاء أكثر مما تستطيع أن تتحمل عدم الحذر بشأن القوة الصينية أو الفوضى المكسيكية. يستخدم ترامب أساليب سلمية – وإن كانت مؤلمة – لتغيير سلوك الأصدقاء والأعداء على حد سواء. الكلمة الأجمل وحقيقة ترامب للتأكيد، هو يعتقد أن "التعريفات الجمركية" هي الكلمة الأكثر جمالاً في اللغة الإنجليزية: ترامب هو بلا خجل "رجل التعريفات الجمركية"، لكنه أيضاً صانع صفقات أولاً وقبل كل شيء، ويمكن تجنب التعريفات الجمركية إذا كان الطرف الآخر على استعداد للتوصل إلى اتفاق يخدم مصالح أمريكا بشكل أفضل.
في نهاية المطاف، التجارة مع أمريكا هي في مصلحة الجميع، من الصين مروراً بالمكسيك وصولاً إلى كندا – تقدم الولايات المتحدة شيئاً، ولكنها لا تحصل على ما يكفي في المقابل. يقصد ترامب تغيير ذلك، والتعريفات الجمركية أداة قوية للقيام بذلك. يعرف كيف يفوز بإمكان استراتيجية الرئيس أن تساعد حتى في إعادة الوظائف وسلاسل التوريد إلى أمريكا، دون الحاجة إلى دخول التعريفات الجمركية حيز التنفيذ. لدى الشركات، الخائفة من احتمال فرض تعريفات جمركية، حافز لتخطيها من خلال إعادة الإنتاج إلى أمريكا، وتكريس المزيد من الاهتمام بالسوق المحلية.
ولدى الشركات الأمريكية، التي تعتمد على الواردات الأجنبية، كل الأسباب للبدء بالتحرر من اعتمادها الآن، من خلال إيجاد مكونات بديلة لن تخضع للتعريفات الجمركية.
وختم مكارثي مقاله مشيراً إلى أن ترامب يعرف كيف يفوز في الحروب التجارية قبل إطلاق الرصاصة الأولى، إذا جاز التعبير.