السودان بين نهري النيل وشاري…أو في سيرة “السودان والسودان الغربي
تاريخ النشر: 5th, September 2024 GMT
بقلم : محمد بدوي
(1)
أشار صديقي محمد بشارة بإيماءة من رأسه إلي الإضاءة المنبعثة من الجانب الأيمن، نحو الشط الآخر لنهر شاري ثم قال يا " خي " ديك " ترا " ،كسري "ديك تتشاف، ولا جوه الكميرون" في اشارة الي بوثري التي تتراي مصابيح إضاءتها من داخل حدود دولة الكاميرون، كان الإضوء المنبعث من الشوارع والمحال قد بددت حلول الظلام، جاء حديثنا في توقيت عقب دقائق لم تتعد السابعة مساءاً، كانت الشوارع قد تخلصت من زحام الطرقات حال القيادة نحو وسط مدينة أنجمينا العاصمة التشادية، كنا قد فرغنا من تناول وجبة العشاء في احد المحال الشعبية والتي اختارها، علما المسافة بين انجمينا وبوثري يفصلها النهر كما هو الحال بين مدن الخرطوم الثلاث( الخرطوم، امدرمان والخرطوم بحري) على الفور عادت الذاكرة إلي صديق اخر وهو محمد آدم الملقب ب" كمبود" والتي تعني ثمار العرديب في طورها الطري قبل النضوج ، تقابلنا في مدينة الجنينة بغرب دارفور حينما اذنت الثورة بذلك في ٢٠٢١، غادر " كمبود" السودان إلي تشاد عقب تمكنه في مايو 2024 من المغادرة سالما عقب اندلاع الحرب في الجنينة، نقل الي بؤس الحال عبر حديثه الهاتفي من هول ما راي من أهوال الحرب فقرر المغادرة إلي الولايات المتحدة الأمريكية ففعلها قبل ثلاث أشهر، "كمبود" احد الشباب الثوار في ديسمبر المجيد2018 والفاعلين في المشهد الثقافي بالجنينة، كان عقب تخرجه من الجامعة انخرط في التجارة الحدودية بين السودان وغرب افريقيا، لم ينسه ذلك اهتمامه بالثقافة والاطلاع والمثابرة على تطوير نفسه، فقد كان ملما حينها بالعربية والعربية التشادية ولغة الايرنقا، سافر في 2021 إلي دولة كينيا ليمكث عاما لتعلم الانجليزية، نظم تجارته بأن جعلها مشروعات يشاركه فيها أفراد اسرته و شقيقه وخاله ليتفرغ للدراسة، عاد من نيروبي العاصمة الكينية إلي مدينة الجنينة فداهمته كما داهمت السودان واصدقائه المحبين حرب ابريل2032.
كنت قد اتصلت عليه مطمئنا فاخبرني بأنه بخير رغم قسوة الحال في مدينته الجنينة، وانه تمكن من إخراج البضائع من المخازن لتعبر الحدود التي لا تتعدي ٢٨ كيلو مترا بين الجنينة ومعبر ادري الحدودي مع تشاد، إسترسلنا في الانس فاخبرني بأنه متواجد في دولة الكاميرون، واصل الحديث لادرك بأن اصل تجارته هو التمر الذي يزرع في شمال السودان ويقوم بتصديرها عبر الحدود إلي الكاميرون عابرة دولة تشاد، وفي رحلة الاياب يعود محملا بالبن الي سوق الجنينة، لاحظ اندهاشي فقال معقبا "أن المشتركات بين الشعوب قديمة وراسخة بما يجعل اللغات المشتركة عاملا حاسما في نجاح التجارة الحدودية بينها"
(2)
التفت إلي صديقي محمد بشارة وهو يقود بنا السيارة برفقة ارنولد، قائلا "يبدو أن ترسيم الحدود هو الذي أسهم في تقسيم المجموعات السكانية في أفريقيا"، أجبت بالايجاب، و دون مقدمات كأنه كان في انتظار إفراغ دهشتي ليسالني من الفنان السوداني صديق احمد وغيابه، ثم أضاف "لقد رحل جيل من الفنانيين السودانيين و الذين ساهموا في تشكيل ذائقتنا الفنية " فانتبهت إلي شاشة مشغل الموسيقي بالسيارة الذي كان يكشف عن المغنيين وأسماء الاغاني، فأخذت في تحريكه بعد الاستئذان، فكان محمد وردي على قائمة التشغيل تلاه سيد خليفة، مكارم بشير، زيدان إبراهيم ،عبدالله البعيو، إضافة إلي الفنان السعودي محمد عبده، ابتسمت فقال بعربية تشادية لدنه وودودة كعزف كمان ( دول بس المن القمنا نسمع ليهم)
(3)
في باحة الفندق الذي اقمنا فيه مع صديقي ارنولد، أوقف بشارة محرك السيارة، ودعناه لكنه اضاف مما أخذنا في التمهل عقب، نهر شاري ملاصق لهذا الفندق يمكنكم رؤية الكاميرون على الضفة الاخري، قبل مغادرتنا في اليوم الثاني، كانت آخر لحظات مغادرتنا قد ختمناها قاصدين الجانب الشرقي للفندق، حيث فصل سياج من الحديد بين الفندق وضفة النهر، استئذنا احد الشبان الذين كانوا يعملون في تهذيب الاشجار ورمي الاغصان بالخارج قرب ضفة النهر، السماح لنا بالعبور عبر الباب الذي يشرف عليه للخروج إلي جانب النهر، كانت بوثري في الموعد على مرأي الضفة الاخري، إلتقط لنا ذات الشاب من الذين كانوا يعيدون (تسريحة الاشجار والازدهار) صور لنا وقد أمنا ( قفانا) بوثري في حين ظلت اقدامنا تقف في تراب انجمينا، فاثار ذلك شغف ارنولد الذي تتبع مسار النهر على محرك البحث قوقل ليجده عابرا من الشرق إلي الغرب التشادي، فاستغرغت في التفكير حول ارتباط ذلك ووادي باري الذي يعبر بمدينة الجنينة إلي تشاد وهو يتفرع حينا في مناطق فرشنا، مره ،وأم ليونه، وشتيت، وينحسر في مناطق أخري عند مدخل مدينة ادري من ناحية الشرق، ومشهد الجبال والخضرة والابل والماعز والخراف أعادتني الي حزام السافنا الغني الذي مثلته اشجار التبلدي بضخامتها حضورا بهيا وازي جفاف الحراز وادخاره الخضرة لما بعد الخريف فكانه قصد أن يتالق حين تجف الاشجار ليعيد للبيئة توازنها .
(4)
مدينة انجمينا العاصمة ِسير لتاريخ ظل قيد الشفاهية، آثار ذلك انتباهي فما إن التقطت أنفاسي هرعت متصلا باحد الاصدقاء خالد التجاني صالح ابواليمن الذي لجا إليها من مدينة الفاشر عقب الحرب، كان لقاء سريعا لاداء واجب العزاء في فقيديه والده ووالدته لهما الرحمة ، تركته وبيننا الوعد على اللقاء عقب عودتي من شرق البلاد خلال ايام ، وقد كان ذلك ، وجدته في حارة "مرجان دفق" أحد أحياء وسط المدينة، تسالمنا ثم سرنا خطوات من الشارع الرئيسي حيث المنزل الذي يبعد خطوات، كان منزل عمه وعمنا خليل على محمد نور الشهير " بخليل ديغول"، والذي ظل حتي رحيله (الف رحمة ونور) لما قارب "٤٥" عاما، كثر السودانيين و من سكان مدينة الفاشر لجوء إلي مدن الجارة تشاد ، او " السودان الغربي" في اليوم الثالي بادرت بالاتصال بأسرة صديقي "يامن " الذي توزعت اسرته بسبب الحرب كغيرهم من السودانيين في انحاء عديدة منها أنجمينا، بينما استقر به الحال في الضفة الشريقة للقارة الافريقية ليس بعيد من خط الاستواء، كانت الزيارة ايضا لاداء واجب عزاء ثان، التقيت والدة " يامن" معزيا في زوجها،عم ابراهيم الذي رحل بالقاهرة بعد أن ذهب إليها مستشفيا قبل الحرب ولم يتمكن من العودة للسودان، سالتني من جدتي لأمي ولاني كنت أعلم مسبقا بانها جدتها أيضا لم استغرب لكن كان حديثها موجها لابنائها المتواجدين من ابنائها للالمام بالعلاقة التي كانوا يرونها في سياق صداقتي بشقيهم فقط، وقد هممت بالمغادرة اذا بها تناديني لالقي التحية على امرأة سودانية لجأت من الفاشر الي انجمينا عقب الحرب ، انتظرتها ريثما نزلت من الطابق الأعلي، كانت هي من استضافت جدتي لأمي بأحد أحياء الفاشر جنوب عقب نزوح جدتي من منزلها بوسط المدينة عقب بدأ الحرب واستهداف المدنيين ، فهاهي صاحبة المنزل الأمن تلجأ إلي تشاد وجدتي إلي ليبيا وسنون عمرها تحتفي عافية ببلوغ المائة عام في 2024.
(5)
علاقة مدن دارفور بما فيها الفاشر الجوار الغربي والشمال روابطها الدم المشترك وتاريخها التجارة الحدودية والصوفية ونشاطها طرق الحج من الغرب نحو مكه التي كرمت باللقب فاكرمها السلطان على دينار بالكساء محملا، فامتداد العلاقات بين الدول وجدانا لم ولن تسلبه الحدود بريقا أو ألق، وأنا اتجول في احياء انجمينا جال بخاطري ما ظل يحيكه لنا العم والخال الراحل التجاني على بدوي عن سنين عشقه لتشاد برفقة والده على بدوي الذين ذهبوا إليها تجار عابرين للحدود من الفاشر التي كانت محطة تتوسط المسافة بين أسوان وانجمينا، كم ادهشتنا ترجمته للحوارات من الفرنسية في سياق الحكي، مرت السنون ويعود إلي الفاشر عمنا وخالنا سيد عبدالرحمن " سيد فرنسا " بصحبة والدته روضة بعد وفاة والده عبدالرحمن محمود زين العابدين بتشاد التي ذهب إليها ايضا تاجرا ومكث فيها حتي اسلم الروح بها، "سيد فرنسا " لقب ارتبط بتحدثه الفرنسية وإطلاق " السودان الغربي أوالفرنسي" على تشاد ولا سيما من قبل التجار، فاتني رغم حرصي لقاء احد أصدقاء الطفولة بالفاشر محمد بخيت الذي رجح الانتماء المشترك إلي تشاد ليقم بها، فقد ترددت على مكان تواجده بالسوق الكبير في توقيت أبكر من حضوره المعتاد، الجايات بخيرا فالذاكرة لا تزال مشبعة بذكريات الدافوري بشارع نادي النهضة بحي كفوت بالفاشر ، عذرا يا محمد فقد طال القصف نادي النهضة قبل ايام قلائل فهوت مبانية، التي شيدت في زمن غابر بحفلات خيرية احياءها كمال كيلا، وصلاح مصطفي واخرين في توقيت مختلفة من السبعينات.
(5)
مدينة ابشي في مقاطعة وداي، تستقبلك بعبق التاريخ، فهي سيرة ما ان تذكر والا تشير صفحات التاريخ الي المدن التاريخية القديمة من باماكو، ابشي ، الفاشر، النهود، بربر، هيا وغيرها، يلفت انتباهك تخطيطها الذي جعل الشوارع في وساع الترحاب وأفراد المساحة للهواء العليل لينفذ إلي المساكن في يسر ، وسط المدينة يحتضن التقاطع الرئيسي الذي يقود غربا عبر شارع الاسفلت إلي انجمينا العاصمة، وشرقها إلي مدينة ادري اما جنوبا في قوز بيضة، عبق العراقة وسام على صدر أبشي حتي اخمص قدمها، فالمبان القديمة التي ربما يجدر على اليونسكو الانتباه الي سجلها الاثري، ميدان كرة السلة والطائرة بالكنيسة الكاثلوكية مشغولة في الامسيات، ومياديين كرة القدم الصغيرة تبدأ فعالياتها في الثامنة مساء عقب فريضة العشاء، أغنيات لمغنيين سودانيين تصدح على أنغام الكيبورد في حفلات أعراس يحيها مغنيات ومغنيين تشاديين، طقوس السيرة والزغاريد البهيجة، ميدان الحرية الذي يحاصرة البائعة الجئليين او المستقرين على الرصيف، الركشات الصفراء اللون، الاحياء التي تشبه مبانيها كل مدن السودان مع خصويتها في نسق Arch الذي يربطها بباماكو فكانها تجسير يبرط بين محمد وردي وسالف كيتا ومانو ديبانقو ، ابشي احتفظت بحيويتها فظلت كثير من الامكنة كحال سودان ما قبل سبتمبر 1983، في المساء وعقب ميقيات صلاة المغرب استقبلنا ببشر حاكم ابشي " بشر على سليمان" في منزله بترحاب ونكهة الشاي الاخضر، جلسنا على بساط ملوكي على الارض، تجاذبنا الحديث في تقدير لما يربط البلدان من علائق، بصم على صدق الحديث حينما باغتني احد الشخصين المرافقين له ميمنة وميسرة بأنه سبق وأن تقابلنا أثناء زيارة عمل لي لسجن شالا الاتحادي بالفاشر في ٢٠٠٥، عدا ذلك ظل البوليس هو البوليس في غالب الامكنة "أن وجدتموه نائما فأتركوه."
badawi0050@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )
في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .
لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.
عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .
هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.
فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.
ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .
أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)
اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .
النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.
Mujtabā Lāzim
إنضم لقناة النيلين على واتساب