لجريدة عمان:
2024-12-18@07:46:06 GMT

الشر المطلق

تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT

عندما أنظر إلى تلك المجازر والدمار والإبادة الجماعية المنظمة التي ترتكبها الآلة الصهيونية وذلك الشر المتصاعد الذي لا حدود له ولا رادع لتوحشه، شيء من اللامعقول لا في حدوده ولا في فهمه، أتذكر مصطلح (الشر المطلق) الذي حفره الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن.

فقد سبق وأن نبّه الفيلسوف في عام 2018 بأن العالم مقبل على ظلم عظيم عندما ذكر أن «ظلمًا عظيمًا بدأت ملامحه تتراءى في الأفق وتمييزا لمآس غير مسبوقة تنتظر الأمة والعالم».

تلك النبوءة والتنبيه كانت إرهاصاتها بادية للعيان، وقد تكون في عالمنا العربي حالة ملازمة ووجودية، فقد تجلت بلا شك في الإبادة الجماعية التي ترتكبها قوات الاحتلال في غزة على أثر طوفان الأقصى الذي نفذته المقاومة الفلسطينية (حماس) ضد الاحتلال الغاشم.

كل شرور الكون تجلت وتمثلت في حروب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل فبالإضافة إلى الشر المطلق هناك أيضًا الشر المتجذر عند الفيلسوف الألماني كانط وتفاهة الشر أو الشر المبتذل الذي صاغته الفيلسوفة الألمانية حنا آرندت.

لكن يبقى الشر المطلق هو الوصف الدقيق والمثالي لما تتعرض له غزة والفلسطينيون بشكل عام. نحت الفيلسوف طه عبدالرحمن مصطلح (الشر المطلق) في كتابه (ثغور المرابطة) الصادر 2018م بصدد حديثه عما يتعرض له الفلسطينيون من أذى ودمار ومن هول الأفعال التي تُرتكب، فقد ذكر «أن هذا العالم فقَدَ خُلُقَ الحياء، بحيث بات كل قويٍّ فيه يصنع ما يشاء، لا غرابة أن يَلْقى الإنسانُ ألوانا شتى من الأذى؛ غير أن ما يلقاه (الإنسان الفلسطيني) من أذى الأباعد والأقارب جميعا ليس له نظير ولا تقدير، ناهيك عما يقاسيه من الكيان الإسرائيلي الذي أضحى إيذاؤه بلا وصْف، وحتى بلا اسم، كأنه الشر المطلق؛ إذ إن أشكال هذا الإيذاء أكثر من أن نحصيها واحدا واحدا، فلا نكاد نحصي ما وُجِد منها في الآن، حتى تُفاجئنا أشكال مِن بَعْدها أشكال أخرى لم تكن في الحسبان».

وبحسب طه عبدالرحمن يكون مفهوم الشر المطلق هو الإيذاء في أقصاه وإطلاقه بحيث يتحدى العقل البشري المجرد في فهمه وإدراكه، والشاهد على ذلك حسب كلامه هي الصفات التي تطلق على هذا الشر فهو «لا يعقل»، «لا يتصور»، «لا يتوهم»، «لا يوصف»، «لا يسمى»، «بلا اسم». وهو بلا شك ليس تأزم القيم الإنسانية ولا قلب القيم إلى أضدادها وإنما هو قتل القيم ومحوها بما يفقد الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل.

وأمام هذه الأحداث المهولة والجرائم المستمرة والإبادة الجماعية التي تمارسها الآلة الصهيونية ممثلة بالكيان الإسرائيلي، ما تفعله وما تقوم به تلك الآلة الجهنمية شيء يستعصي على التخيل ويفوق العقل البشري في تصوره، وما يزيد تلك الحالة من التعجب والاندهاش واللامعقولية هو أن تلك الفضائح تحدث أمام بصر وعيون العالم وبشكل مباشر دون أن يتحرك ساكن فيهم لوقف تلك المجازر التي يرتكبها نتانياهو وزمرته بدعم من الغرب المتصهين وبصمت مخزٍ من الأنظمة العربية والإسلامية. يوما بعد يوم والعنف والمجازر تتناسل والشر يتوالد شرورا والإرهاب لا يخلّف إلا إرهابا وعنفا، يحدث ذلك من أناس فقدوا إنسانيتهم وأخلاقهم وكل ما بقى لديهم من ذرة تعني الإنسانية وتحولوا إلى وحوش ضارية في صورة بشر لا فرق بينهم وبين تلك الحيوانات التي تفتك وتمزق ضحيتها إربًا دون وعي مدفوعة بلذة الانتقام أو الجوع أو التلذذ بالقتل والسيادة.

عندما يتحول القتل الذي ترتكبه إسرائيل إلى أفعال تدفع فاعلها إلى ارتكاب أعظم الإثم والعدوان والجرائم التي لا مثيل لها والتي لا يستطيع العقل البشري تصورها وتوقعها وإدراكها، فصور الإبادة والقتل الجماعي للأطفال والأبرياء والتدمير الممنهج الذي تمارسه الصهيونية هو الشر المطلق والأذى في أبهى تجلياته الذي هو بحسب طه عبدالرحمن أعمال مؤذية إيذاء أبرز صفاته ثلاث هي أن هذا الإيذاء يعطل العقل والإرادة فلا العقل يقدر على تصوره أو تصديقه ويعطل الإرادة فلا تقدر على تقصده أو تخيره، ثانيا، أن هذا الإيذاء لا ينفد ولا ينحد، وثالثا أن قدرة هذا الإيذاء على الظهور تزدوج بقدرته على الخفاء، بمعنى أن الأعمال الشريرة التي يمارسها ويقدم عليها الشرير في الظاهر ليست أقل خطورة مما يكون في الخفاء فهو أشد وأنكى. فها قد ظهر الحدث الأعظم الذي تضج به الساعة وهو الإبادة الجماعية الذي يمثل منتهى الشر المطلق بحسب الفيلسوف. إن الذين يمارسون الشر المطلق لا يمكن أن نحصرهم في قادة العدو الصهيوني فقط وإنما هناك الكثير ممن هم دأبوا على ممارسة هذا الشر ويرفعون من وتيرته وعنفه وتوحشه ويشترك في ذلك قادة سياسيون ومفكرون واقتصاديون منظرون الذين لا ينفكون عن بث أفكارهم العدوانية، وقد يأخذ الشر المطلق أشكالا وأنواعا مختلفة من الإيذاء على الضحية كالدكتاتورية والتسلط والظلم وانتهاك حقوق الإنسان هي في الحقيقة شكل شر مطلق، قد لا يقتصر على بقعة معينة من العالم عندما تمارسه حفنة من المجرمين الذين لا يردعهم شيء ولا يحد من بطشهم أحد، فكثير من الضحايا الذين يمارس بحقهم أقصى أنواع الإيذاء والشرور لا يكون لهم من منصف أو مدافع ويستمر أذاهم إلى ما لا نهاية.

العالم وقد تحول أغلبه إلى ممارسين لهذا الشر المطلق فمن ذا الذي سوف يتصدى لهذا الشر؟ العالم فريق قوي يمارس الشر المطلق بكل صوره دون مراعاة لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية وعالم آخر ضعيف مبتذل مسحوق ومهان لا يستطيع رد ذلك الشر الواقع عليه وبالتالي لا حدود للشر المطلق ولا نهاية له إلا إذا دخلنا في أمور غيبية وقوى خارجية تستطيع رد هذا الشر الواقع على الإنسانية جمعا.

مما لا شك فيه أن عالمنا العربي واقع تحت إرهاب الشر المطلق الذي يُمارَس عليه من جهات متعددة أن التصدي ومواجهة ذلك الشر المطلق تتطلب مضاعفة الجهود والإخلاص والنوايا الحسنة لدى القائمين وتلك مسؤولية مضاعفة يشترك فيها الجميع: حكومات ومؤسسات دينية ومثقفون ورجال فكر وأفراد كل يقوم بدوره، لكن ذلك لن يكتمل إلا إذا خلصت النيات ووجدت الرغبة لدى السلطة السياسية. إن التصدي لهذا الشر المطلق بحسب طه عبدالرحمن هو «وجوب عين» وتحدث عن مسؤوليتين عظيمتين عن الإنسانية جمعاء والقيم جمعاء.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة الشر المطلق هذا الشر ا الشر

إقرأ أيضاً:

ما الذي يحدث في المنطقة؟

يمانيون ـ بقلم ـ عبدالرحمن مراد

على مدى فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز عشرة أَيَّـام، تسقط دولة بكل مقدراتها ويغادر رئيسها، ويحدث أن تتحَرّك المعارضة إلى المدن ولا يتجاوز الحدث دور التسليم والاستلام، وكأن الأمر قد دبر بليل والصورة الظاهرة لا تتجاوز الشكل الظاهر للناس، فما الذي يحاك للأُمَّـة؟

تتسع دائرة الأهداف للعدو الصهيوني فيحتل جزءاً كَبيرًا من الأراضي السورية بعد أن دخلت المعارضة السورية إلى دمشق، وتنشط الماكنة العسكرية لتضرب أهدافاً عسكرية ومعامل كيميائية وتشل حركة القدرات والمقدرات التي تراكمت عبر العقود الطويلة، وتتجاوز المعارضة فكرة الفوضى الخلاقة وتمنع المساس بمؤسّسات الدولة، وتتجاوز هيئة تحرير الشام فكرة الغنيمة التي كانت فكرة أصيلة في معتقدها، وتذهب إلى النظام، وحفظ المقدرات، وتعلن إجراءات احترازية لضمان الأمن والاستقرار، ثم تبادر “إسرائيل” لضرب المعامل ومخازن الأسلحة بحجّـة تأمين أمن “إسرائيل”، وضمان عدم وصول الأسلحة للجماعات العقائدية التي استلمت السلطة في سوريا، وتذهب قوات سوريا الديمقراطية المتعددة الأعراق والأهداف إلى خيار التسليم لبعض المدن مع احتفاظها بقرى متاخمة، وعدد كبير من جيش النظام السوري السابق يدخل العراق بكل عتاده، ثم يأتي مستشار الأمن القومي الأمريكي ليزور المنطقة، ويعلن أن ضمان أمن “إسرائيل” فرض ضرورة القيام بعمليات عسكرية احترازية، ويعلن صراحة أن “إسرائيل” أصبحت أقوى من أي وقت مضى.

أخذت الناس نشوة الانتصار ولم يدركوا أبعاد ما يحدث في المنطقة، التي تتعرض لعملية تهجين، وصراع لن يهدأ في المدى القريب المنظور؛ فالسيناريو الذي نشاهد اليوم بعض تفاصيله لا يهدف إلى استقرار المنطقة العربية، ولكنه يمهد الطريق لـ”إسرائيل” كي تكون هي الدولة المهيمنة على مقدرات الأُمَّــة، وعلى أمنها وعلى نشاطها الاقتصادي، والعسكري، وهو المشروع الذي يقف ضده محور المقاومة منذ انطلاق ثورات الربيع العربي إلى اليوم.

سوريا التي فرح الغالب من الناس بثورتها، وهللوا وصفقوا، لن تصبح دولة موحدة ومستقرة في قابل الأيّام، ومؤشرات ذلك قائمة، وتعلن عن وجودها في الأرض التي تحكمها؛ فقوات سوريا الديمقراطية خليط غير متجانس من جماعات متعددة العرقيات، وهي مدعومة بشكل كلي ومباشر من أمريكا، وهيئة تحرير الشام فصائل متجانسة لكنها تنطلق من عقائد غير موحدة وإن كان يجمعها الإطار السني، لكن تختلف العقائد والمنطلقات وكلّ فصيل له منظوره الذي قد لا يتسق مع ظاهرة الاعتدال التي بدا عليها قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع في الكثير من بياناته والكثير من تعليماته التي صاحبت دخول دمشق بعد تسليم نظام بشار الأسد لها، وفق صفقة وتوافقات تمت بين النظام وبعض الحلفاء كما تقول الكثير من التداولات التي لم يتم تأكيدها، لكن حركة الواقع دلت عليها؛ إذ ليس معقولاً أن يسقط النظام بكل تلك السلاسة والهدوء ودون أية ممانعة أَو مقاومة بأي شكل من الأشكال مهما كانت المبرّرات؛ فبشار الأسد لم يكن ضعيفاً ولكنه يملك مقومات البقاء أَو الصراع على أقل تقدير لزمن محدود لكنه اختزل المقدمات في نتائجها، فرأى التسليم خياراً لا بُـدَّ منه، وقد كان التسليم خياراً قديماً لبشار لولا حزب الله الذي قلب المعادلة في اضطرابات الربيع العربي قبل عقد ونيف من الزمان، ويبدو أن خيار الضغط على بشار قد بلغ غايته مع انشغال حزب الله بحربه مع العدوّ الصهيوني، فكان استغلال الفرصة في سقوط سوريا لأهداف متعددة، وفي المجمل هي أهداف تخدم الوجود الإسرائيلي ولن تمس حياة المواطنين بسوريا بخير ولا تعدهم برخاء ولا برفاه؛ فالمؤشرات التي صاحبت تسليم واستلام السلطة تقول إن “إسرائيل” تريد من سوريا بلدًا منزوع السلاح لا يشكل خطراً على أمنها، كما أن الخيار الدولي يذهب إلى مبدأ التقسيم؛ إذ أننا لن نشهد بلدًا موحدًا كما كان في سالف عهده، بل سوف نشهد بلداً مقسماً تتنازعه القوميات والعرقيات والعصبيات المتعددة وقد يتحول إلى دويلات صغيرة قابلة للتهجين حتى تحقّق “إسرائيل” غايتها في تحقيق دولة “إسرائيل” الكبرى.

السياسة الأمريكية اليوم تحدها موضوعياً أربعة سيناريوهات معلنة وهي:

– السيناريو الأول عدم الاستقرار على نطاق واسع.

– السيناريو الثاني عدم الاستقرار المحلي.

– السيناريو الثالث الحرب الباردة.

– السيناريو الرابع العالم البارد، وهو نتيجة منطقية للسيناريوهات الثلاثة أي الوصول إلى الاستقرار في المستقبل من خلال ثنائية الخضوع والهيمنة للشعوب التي تنهكها الصراعات والفقر.

ومن خلال سياسة عدم الاستقرار الواسعة والمحلية ومن خلال ما يصاحب ذلك من حرب باردة يصل العالم إلى حالة من تهجين الهويات التي سوف تقبل التعايش مع الواقع الذي يفرضه النظام الدولي الرأسمالي، وتعزيز قيم جديدة للمجتمع الحداثي الجديد حتى يكون عنصراً كونيًّا رافضاً الهوية الجزئية، التي تصبح فكرة غير مقبولة في مجتمع الحريات الفردية المطلقة لمجتمع ما بعد الحداثة، الذي يشتغل عليه اليوم النظام الدولي الرأسمالي، وبسبب ذلك سارعت بعض الدول مثل روسيا إلى إعلان فكرة الأمن الثقافي القومي الذي بات مهدّداً من خلال الحرب الباردة التي تنتهجها السياسة الأمريكية في مستويات متعددة منها مجال الآداب وشبكات التواصل الاجتماعي والدراما ذات الأثر الكبير في محتواها الرقمي، فمصطلح “الهجنة ” مصلح جديد يدخل المجال الثقافي ويهدف إلى تحديد نقاط الالتقاء بين الثقافات؛ بهَدفِ تذويب الفوارق لينشأ مجتمع كوني يقفز على فكرة الهويات القومية.

خلاصة الفكرة أن ربيعاً جديدًا قادماً يتجاوز فكرة الفوضى الخلاقة يقوم على تنمية الصراعات ويتخذ من الحرب الباردة سبيلاً للوصول إلى غاياته ومؤشراته بدأت من سوريا.

مقالات مشابهة

  • طرح وحدات سكنية جاهزة للتسليم الفوري بسعر 250 ألف جنيه
  • ما الذي يحدث في المنطقة ؟
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • عاجل.. «التنمر يؤدي إلى القتل»| طالبة إعدادية ضحية الإيذاء النفسي بالقليوبية.. واستشاري يعلق
  • الذي سيحدث للتمرد في مدني ليس مجرد هزيمة .. فلم رعب
  • مراسلة الجزيرة بموسكو تكشف عن الفندق الذي نزل به الأسد والأموال التي بحوزته
  • ما الذي يحدث في المنطقة؟
  • آثار الدمار الذي خلفه نظام الأسد بمدينة حرستا بريف دمشق
  • أهم المعلومات حول جبل الشيخ الذي سيطر عليه الاحتلال (إنفوغراف)
  • ماذا قال جورج وسوف عن مستقبل سوريا بعد تأييده المطلق للأسد؟