بوابة الوفد:
2025-04-29@18:07:25 GMT

المشهد الأخير

تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT

لافتة الطريق تشير لاقتراب فخ المدينة، كمن يقترب من مشروع نسفِه بالألغام. هل سيُقدم الزمن على مثل تلك الخطوة؟ 

كانت تسليتي بالطريق نابضة باللاشيء، اللاشيء أغرب الكائنات التي تلتصق بجلدك، بحياتك، بتفاصيلك ليجعلها هشّة، ويبقى أكثر وقاحة حين تهرب منه ولا تجد وسيلة نافعة للخلاص.

 

القيادة ليلًا تدفع بأمي للشفقة عليّ:

"ينفطر قلبي عليك وأنت تسافر ليلاً!"

 

كنتُ قد تركت بحوزتها رزمة نقود تكفي مصاريف يدها، إذا طلبت شيئًا من البقالة أو احتياجات طارئة.

"يومان على الأكثر يا أمي وسأرجع، ها.. انتبهي جيدًا لنفسك". الأدوية وضعتُها بعناية جوارها على الكومدينو، مرفق بها ورقة مواعيدها، رقم هاتف جارتنا في الدور الرابع.. أخبرها بلطف: 

"من فضلك خالتي أزهار، أترك أمي أمانة في عنقك ليومين و....." 

تفهم الباقي بإشارة من رأسها وابتسامة على فمها ذي الشفتين الجافتين بفعل طقس العمر.

 

كنتُ قلقًا عليها بشيء لا يحمّلني خيبة أمل في العودة إليها وقد فارقت الحياة، أو قطعتْ يدها بسكين المطبخ، لا أعرف، بالطبع، كيف تحصلت عليها وقد خبأتُها في درج بمكتبي! أو تكون قد تحركت إلى الشرفة وأدارت مقبضها المغلق بصعوبة وحين أطلت إلى الكآبة الحاصلة في الخارج غلبها ثقل جسدها وانزلقت كحبة بطاطس إلى طاسة القليّة.

 

اعتادتْ، أمي، أن تجهز فطورها بنفسها، رغم حركتها البطيئة بقدمين مقوسين، وميل جذعها يمينًا ويسارًا كما لو يترنح عود ذرة في مقابلة لفحة هواء قوية تهبّ من كل اتجاه. تتحرك منتشية لرغبتها في الإحساس بالحياة، الإحساس بالقدرة على المراوغة، مراوغة الموت بالطبع.. وأنه ليس بوسعه غير تقطيعها إربًا قبلما ينزع روحها من الداخل، حتى ذلك الوقت هي تتنفس، تتكلم، تصب لعناتها على أبي الذي سلم نفسه للموت وتركها، تقرأ الجرائد كما اعتادت لأربعين سنة، تتبرج في ساعتين أو ثلاث –تبرج شكلي يُشعرها براحة نفسية لوجود وجه ما رغم خطوط تجاعيده- ترى أنها شخصية أخرى وهي تنظر في المرآة، شخصية قادرة على أداء دورها في أحد مشاهد الفن السابع، بمثالية تستحق عليها أرفع الجوائز. 

"أنا تركت التمثيل بمزاجي، أتفهم ذلك؟! لم أعد أستوعب منغصاته، والأجيال الجديدة دخيلة عليه، أجيال بلا موهبة حقيقية، تتصنع كما لو أنها دمى يحركها أحدهم من خلف ستار. وكان يجب أن أتنحى." 

تقول دومًا أنها اختارت الظل في غرفة داخلية، بعيدًا عن الأضواء والشهرة، حتى تربيني كما ينبغي.

 

"بعد وفاة والدك في حرب العراق كان من المهم أن أقف جوارك -رجلي الوحيد- وليس عليّ أن أفقدك أنت الآخر" 

.

إذاعة الأغاني تبث فقرة مطولة عن عبدالحليم حافظ، "الكروان البائس"، لم أشعر يومًا بامتنان للاستماع إليه، عدلتُ من مزاجي لإذاعة أخرى.. كانت لديها ذائقة أرقى، فيروز المرابطة على تخوم الشجن تناجي ذكرياتها مع "شادي".. 

وبينما كنت أتصفح الرسائل الخاصة بعملاء الشركة، جاءني اتصال من رقم غير مسجل بقائمة هاتفي، كان صوته لا يشي أن أحدًا يعرفني أو أعرفه، صوته آلي رتيب منحنى 30 ثانية لأعرف منه سبب اتصاله ورغبته في سرعة وجودي بالمستشفى التي ترقد فيها أمي. 

لم تكن لحظة عادية في حياتي، شلّ عقلي عن التفكير، بفعل أطنان من الأسئلة جثمت فوق رأسي. "كيف حدث ذلك؟ ماذا فعلتْ؟" تصورتُ للحظة، انفجارًا لجهاز كهربائي في المطبخ، أو تزلفت قدمها فسقطت بجسدها على البلاط وانقطعت أنفاسها.

لا تنقطع الأسئلة عن اللهاث في صدري حتى وصلتُ إلى صالة الاستقبال بالمستشفى، وأنا في حالة مزرية من الأسى والإعياء الشديد.

أخبروني سريعًا بما جرى وأنها الآن تخضع لعملية عاجلة، لا أحد يضمن نجاحها بنسبة كبيرة.

حينها دار رأسي في فراغ دامس، تحطمت معنوياتي تمامًا.. جرجرتُ قدميَّ بصعوبة، وددتُ إطلالة عليها، ربما الأخيرة، من خلف الباب، بعيدًا عن أن أُحدث في قلبي شرخًا أكبر؛ لكني شعرتُ أن هناك هوّة أقف بعتبتها، وإحدى الممرضات تناولني ورقةً صغيرة، بدت الكلمات فيها متشحةً بالسواد، وليست سوى تسريب دموي من شريان قُطع للتو:

[ابني العزيز..

ليس لدي الأطباء حجة لبقاء أنبوب الأوكسجين على فمي، 

الهدف السامي أن ينزعوا الروح من بين ضلوعي بشياكة، بأكثر خطط الإجرام الطبي محبةً ورحمةً بكائن ينتظر دوره الأخير في تمثيلية الحياة. 

ممتنة لمن يحمل إليك رسالتي، أقدر له جهده في العثور عليك، وأن يطلب إليك مغفرةَ ما أقدمتُ عليه، لعلك تستريح من جثة تعيش بحماقة لا تنتهي!]

 

 محمد حسني عليوة، مصر -شاعر وكاتب

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: المشهد الأخير لافتة الطريق تلك الخطوة

إقرأ أيضاً:

افتتاح معرض مرايا الروح للتشكيلى سامى أبو العزم بجاليرى المشهد.. الثلاثاء

يفتتح جاليرى المشهد بالزمالك، معرض "مرايا الروح" للفنان التشكيلى الكبير سامى أبو العزم، يوم الثلاثاء 29 أبريل الجارى، فى تمام الساعة السابعة مساءً، وسط حضور عدد كبير من الفنانين التشكيليين والإعلاميين وبعض من الشخصيات العامة.

وقال إيهاب اللبان، معد معرض مرايا الروح  للفنان القدير سامى أبو العزم، إن المعرض يحمل مضمون درامى يغلفه الغموض، التي تحمله دلالات تلك المشاهد المتفرقة والتي تتنقل بينها روح الفنان معبراً عن انفعالاته الصاخبة أحيانا والهادئة أحيانا أخرى.

وأوضح إيهاب اللبان، أن انفعالاته أيضا تحمل فى طياتها مشاعر مختلطة لمشاهد عالقة فى خيال الفنان تأخذنا معها صعودا وهبوطا أثناء مشاهدتنا لهذا المعرض الأخاذ، وتعبر بنا من مشهد إلى آخر بين السكون الدرامى فى وضعيات الفتيات داخل إطار محدد الأبعاد ومحكم، ناظرين إلى حلم مؤجل أو مستقبل غير معلوم، ثم مبحرا بنا إلى حركة المراكب الهادرة القديمة والمتأكلة، المعبرة عن رحلة الإنسان فى مجملها إلى جوار بساطة ودفء ورش عمال صناعة المراكب،  متنقلا بنا إلى زهور الصبار ودلالاتها الأشبة بشخوص جامدة متأهبة مع مشاهد الطبيعة المتشابكة لتخفى ورائها مجهولا نخشاه.

وأضاف إيهاب اللبان ،جاءت تلك المشاهد متعددة الرؤية والموضوع ومتباينة بين ضوء النهار الساطع وظلمة الليل الحالمة كأنها تمثلنا جميعا بمزاجنا المتقلب، تلك المفردات المتناثرة أطلقها خيال الفنان سامى أبو العزم عابرا بنا على جسر انطباعاته العالقة.

جدير بالذكر، الفنان سامي أبو العزم، من مواليد عام 1967 بمصر، درس في كلية التربية الفنية، وحصل على درجة الدكتوراه عام 2008، بدأ حياته الفنية بالمشاركة في صالونات الشباب والمعارض القومية، حتى أصبح فنانًا مؤثرآ على الساحة الفنية.

تتميز أعماله بأسلوب واقعي متميز، خاصة في فن التشخيص، حيث يجسد موضوعات ذات بعد فلسفي. يتنوع فنه بين التشخيص، الطبيعة الصامتة، والمناظر الطبيعية، ويعالجها بأسلوب غير تقليدي يركّز على حضور الأشياء مع احترام المعاني الكامنة وراء المظهر.

من الموضوعات السائدة في لوحاته: تصوير الإنسان بواقعية تعبّر عن العزلة والاغتراب، من خلال تناقض العناصر وتفككها، أو استخدام رموز موحية تعمّق دلالة اللوحة. كما يختار مجموعات لونية تتسم بالكثافة والتعقيد، يتعمق الفنان في موضوع الاغتراب السياسي والاجتماعي، من خلال نماذج يتم اختيارها بعناية، تستدعي التفكير والتأمل لدى المشاهد.

شارك الفنان في العديد من المعارض المحلية والدولية، وله مقتنيات في المتحف المصري للفن الحديث، بالإضافة إلى مجموعات لدى أفراد داخل مصر وخارجها، كما يُلقي محاضرات في قسم الرسم والتصوير بكلية التربية الفنية بالقاهرة.

طباعة شارك جاليرى المشهد بالزمالك معرض مرايا الروح سامى أبو العزم إيهاب اللبان مضمون درامى

مقالات مشابهة

  • هل ثبت عن النبي الدعاء بعد التشهد الأخير في الصلاة؟.. الإفتاء توضح
  • المشهد اليمني الذي يشبهُ غزة
  • كيف تلاعب العصر الجليدي الأخير بصفائح الأرض التكتونية؟
  • المشهد اليمني الذي يشبه غزة
  • الدبيبة يبحث مع «اللافي» تطورات المشهد السياسي
  • الكتاب الأخير للراحل محسن بني ويس.. رباعيات بابا طاهر العريان بالإملاء الكوردي لأول مرة
  • كيف يبدو المشهد في الضاحية بعد الغارة الاسرائيلية؟
  • افتتاح معرض مرايا الروح للتشكيلى سامى أبو العزم بجاليرى المشهد.. الثلاثاء
  • دعاء الثلث الأخير من الليل.. اغتنم الوقت وردده الآن
  • شاهد | إعادة الإعمار يشكّل استحقاقًا رئيسيًا في المشهد السياسي اللبناني