لافتة الطريق تشير لاقتراب فخ المدينة، كمن يقترب من مشروع نسفِه بالألغام. هل سيُقدم الزمن على مثل تلك الخطوة؟
كانت تسليتي بالطريق نابضة باللاشيء، اللاشيء أغرب الكائنات التي تلتصق بجلدك، بحياتك، بتفاصيلك ليجعلها هشّة، ويبقى أكثر وقاحة حين تهرب منه ولا تجد وسيلة نافعة للخلاص.
القيادة ليلًا تدفع بأمي للشفقة عليّ:
"ينفطر قلبي عليك وأنت تسافر ليلاً!"
كنتُ قد تركت بحوزتها رزمة نقود تكفي مصاريف يدها، إذا طلبت شيئًا من البقالة أو احتياجات طارئة.
"من فضلك خالتي أزهار، أترك أمي أمانة في عنقك ليومين و....."
تفهم الباقي بإشارة من رأسها وابتسامة على فمها ذي الشفتين الجافتين بفعل طقس العمر.
كنتُ قلقًا عليها بشيء لا يحمّلني خيبة أمل في العودة إليها وقد فارقت الحياة، أو قطعتْ يدها بسكين المطبخ، لا أعرف، بالطبع، كيف تحصلت عليها وقد خبأتُها في درج بمكتبي! أو تكون قد تحركت إلى الشرفة وأدارت مقبضها المغلق بصعوبة وحين أطلت إلى الكآبة الحاصلة في الخارج غلبها ثقل جسدها وانزلقت كحبة بطاطس إلى طاسة القليّة.
اعتادتْ، أمي، أن تجهز فطورها بنفسها، رغم حركتها البطيئة بقدمين مقوسين، وميل جذعها يمينًا ويسارًا كما لو يترنح عود ذرة في مقابلة لفحة هواء قوية تهبّ من كل اتجاه. تتحرك منتشية لرغبتها في الإحساس بالحياة، الإحساس بالقدرة على المراوغة، مراوغة الموت بالطبع.. وأنه ليس بوسعه غير تقطيعها إربًا قبلما ينزع روحها من الداخل، حتى ذلك الوقت هي تتنفس، تتكلم، تصب لعناتها على أبي الذي سلم نفسه للموت وتركها، تقرأ الجرائد كما اعتادت لأربعين سنة، تتبرج في ساعتين أو ثلاث –تبرج شكلي يُشعرها براحة نفسية لوجود وجه ما رغم خطوط تجاعيده- ترى أنها شخصية أخرى وهي تنظر في المرآة، شخصية قادرة على أداء دورها في أحد مشاهد الفن السابع، بمثالية تستحق عليها أرفع الجوائز.
"أنا تركت التمثيل بمزاجي، أتفهم ذلك؟! لم أعد أستوعب منغصاته، والأجيال الجديدة دخيلة عليه، أجيال بلا موهبة حقيقية، تتصنع كما لو أنها دمى يحركها أحدهم من خلف ستار. وكان يجب أن أتنحى."
تقول دومًا أنها اختارت الظل في غرفة داخلية، بعيدًا عن الأضواء والشهرة، حتى تربيني كما ينبغي.
"بعد وفاة والدك في حرب العراق كان من المهم أن أقف جوارك -رجلي الوحيد- وليس عليّ أن أفقدك أنت الآخر"
.
إذاعة الأغاني تبث فقرة مطولة عن عبدالحليم حافظ، "الكروان البائس"، لم أشعر يومًا بامتنان للاستماع إليه، عدلتُ من مزاجي لإذاعة أخرى.. كانت لديها ذائقة أرقى، فيروز المرابطة على تخوم الشجن تناجي ذكرياتها مع "شادي"..
وبينما كنت أتصفح الرسائل الخاصة بعملاء الشركة، جاءني اتصال من رقم غير مسجل بقائمة هاتفي، كان صوته لا يشي أن أحدًا يعرفني أو أعرفه، صوته آلي رتيب منحنى 30 ثانية لأعرف منه سبب اتصاله ورغبته في سرعة وجودي بالمستشفى التي ترقد فيها أمي.
لم تكن لحظة عادية في حياتي، شلّ عقلي عن التفكير، بفعل أطنان من الأسئلة جثمت فوق رأسي. "كيف حدث ذلك؟ ماذا فعلتْ؟" تصورتُ للحظة، انفجارًا لجهاز كهربائي في المطبخ، أو تزلفت قدمها فسقطت بجسدها على البلاط وانقطعت أنفاسها.
لا تنقطع الأسئلة عن اللهاث في صدري حتى وصلتُ إلى صالة الاستقبال بالمستشفى، وأنا في حالة مزرية من الأسى والإعياء الشديد.
أخبروني سريعًا بما جرى وأنها الآن تخضع لعملية عاجلة، لا أحد يضمن نجاحها بنسبة كبيرة.
حينها دار رأسي في فراغ دامس، تحطمت معنوياتي تمامًا.. جرجرتُ قدميَّ بصعوبة، وددتُ إطلالة عليها، ربما الأخيرة، من خلف الباب، بعيدًا عن أن أُحدث في قلبي شرخًا أكبر؛ لكني شعرتُ أن هناك هوّة أقف بعتبتها، وإحدى الممرضات تناولني ورقةً صغيرة، بدت الكلمات فيها متشحةً بالسواد، وليست سوى تسريب دموي من شريان قُطع للتو:
[ابني العزيز..
ليس لدي الأطباء حجة لبقاء أنبوب الأوكسجين على فمي،
الهدف السامي أن ينزعوا الروح من بين ضلوعي بشياكة، بأكثر خطط الإجرام الطبي محبةً ورحمةً بكائن ينتظر دوره الأخير في تمثيلية الحياة.
ممتنة لمن يحمل إليك رسالتي، أقدر له جهده في العثور عليك، وأن يطلب إليك مغفرةَ ما أقدمتُ عليه، لعلك تستريح من جثة تعيش بحماقة لا تنتهي!]
محمد حسني عليوة، مصر -شاعر وكاتب
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: المشهد الأخير لافتة الطريق تلك الخطوة
إقرأ أيضاً:
“قيصرية الكتاب” تستذكر سيرة الشيخ حسن آل الشيخ
نظّمت قيصرية الكتاب ضمن برنامج ” شخصيات وطنية” أمسية بجامعة الأمير سلطان بالرياض مساء اليوم احتفاءً بإرث معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ – رحمه الله – وإسهاماته في مجالات التعليم والثقافة والأدب التي امتدت لأكثر من 26 عامًا.
واستهلت الأمسية بفيلم وثائقي استعرض محطات حياة الشيخ حسن آل الشيخ منذ نشأته ومسيرته المهنية الحافلة، ثم ألقى المشرف العام على قيصرية الكتاب أحمد الحمدان كلمة أكّد فيها أهمية استذكار الرموز الوطنية.
وعن مآثر آل الشيخ تحدث خلال الأمسية التي إدارها حمد القاضي، كل من الدكتورة ندى أبا الخيل، والدكتور طلال قستي، عن الرحلة التعليمية للمحتفى بإرثه وإنجازاته – رحمه الله – وإسهاماته في تطوير التعليم العام والعالي بالمملكة، والمراكز القيادية التي تولاها آنذاك.
وسلّط المتحدثان حديثهما عن مؤلفات الراحل التي شملت كتبًا ومقالات صحفية، ودوره في المشهد الثقافي والتعليمي.
وأضافت الدكتورة ندى أبا الخيل لمسة خاصة حين تحدثت عن رسالتها في درجة الماجستير، التي اختصت بها حياة الشيخ ونثره، معبرة عن مدى تأثرها الشخصي بسيرته، وكيف ألهمها عمق تجربته لبلورة رسالتها على نحو يليق بمقامه.
ويأتي هذا الاحتفاء في إطار رؤية قيصرية الكتاب؛ لتعزيز حضور الشخصيات الثقافية البارزة في المشهد الوطني، وتجسير العلاقات بين الأوساط الأكاديمية والثقافية، دعمًا للأهداف الثقافية لرؤية المملكة 2030.