ماريا، حَبّة البازلاء اليافعة التي نضجت قبل أيام وتكوّر جسدها متخلّصًا من خسفات الغضاضة. تقرَّر لها أن تبدأ أخيرًا رحلة العمل، فدُفنت في أرض صالحة السُّمعة، وأُهيل عليها التراب وتندّى. شعرت بروح الطفولة التي ما زالت تسيطر على أجزاء من كينونتها، أنها أصبحت وحيدةً وحدة مدقعة، وأن كل ما حدث لها بين يوم وليلة، يُشبه في الحقيقة رحلة وأد لا رحلة عمل.
حلاوة الإنجاز التي حصلت عليها بعد الأسبوع الأول تحت الطين، وقد تفتّقت مؤخرتها مُنبئةً بنتوءٍ جنيني بدأ يشق طريقه نحو الأسفل، تلك الحلاوة، وإن كانت بحجم جذر جنيني، أشعرتها بأن الرحلة تستحق وأن المرام قد يكون لها أنيسٌ فيه. أدّى ذلك بطبيعة الحال إلى مزيد من الصبر والعمل المخلص، حتى تتسنى لها تلك الغاية.
ومع تكرار ما حدث من عدة جهات في جسدها وحصلت على جذور بُنيّة جميلة ناتئة من جنباتها، لم يمضِ كثيرُ الوقت حتى اطّلَعت على مساوئ هذا المجتمع الطيني.
انتبهت، كأول ملاحظة ناضجة، إلى أن مَن يُشرِّع لها قوانين سيرها بجذورها، ليست إرادتها الحُرة المحضة، وإنما حبّات التراب وكُتل الطين المجاورة، وطريقة ترتيبها وكثافة تكدُّسها، وشدة واتجاه ضغطها من جهة إلى جهة. وما ينجم عن ذلك هو جِذر يستقطعُهُ عددٌ هائل من الكَسرات والثنيات والعُقد، فيما يتوافق مع تلك التشريعات.
"بأي حق؟".
تساءلت الحبّةُ في أسى، وعاودتها المخاوف الأولى المتعلقة برحلة الوأد لا رحلة العمل.
"هذا المجتمع يُفسد أي فرحة! مَن هم ليُشرِّعوا لي حياتي؟ أليس من حق كل كائن تحت هذه الأرض أن يختار طريقًا لنفسه يسلكها؟".
كثير من الأسئلة راودتها في مطلع شبابها، راودت كثيرات من الحبّات نجحن في التخلص منها، وشق الأمل بين الأسى. لكن في الحقيقة، ماريا حبة بازلاء مختلفة، لم تكن تنظر عادةً إلى قصص النجاح وحسب، وترى أن ما حظيت به -أي تلك القصص- من تلميع ورواج، مردُّه في الأصل أن صاحبات تلك القصص هن اللاتي نجوْنَ من الموت، ومن ثم خرجن إلى النور. في مقابل ذلك، من يدري! كم حبة بازلاء ماتت أو انتحرت في سبيل الحصول على حريتها، وحق تشريع قوانينها لنفسها؟
إنها أمام طريقين لا ثالث لهما، إما الحياة المقيدة، أو طرح كل أمل في رؤية النور.
امتنعت عن شرب الماء ومصّ الغذاء، عرفت طريقها إلى التبتُّل والزُّهد في الدنيا التي ظنت مآلها الموت السريع، والدفن فيه موضعها دون دمعة واحدة تُذرف من أجلها.
غير أن أثناء هذا الصيام، وبعد تنحّي الرغبات الخبيثة التي أكثرها شرًا هو كبرياء الطفولة، صفا تفكيرُها واعتدل، رأت أن التحايل على الحياة ليس يأسًا ولا ميوعة، بل إن التحايل في بعض الأوقات هو القيمة البقائية ذاتها! لا بُد، إن لم يكن بمقدورها أن تُشرِّع لنفسها قوانينها (كإرادة جمعية غبية، فلتعتبر!)، أن تحتال على هذه القوانين، وتكسرها من حين إلى حين في الخفاء، ما دام بمقدورها أن تفعل دون أن تأذي نفسها. ولو أن الأذية واردة واردة، وهذا ما تعلمته كأول طريق للنضال في سوق عمل لا يحترم إرادتها. فيما كان الغضب والشتيمة، أحيانًا، مُسكّنها المُرضِي نحو العدول عن اليأس.
"عيشٌ مخاتل أو غاضب، أفضل من لا شيء!"
قالت لنفسها.
عادت إلى العمل وملؤها نشاط جديد، ضاعفت حصّتها من الماء والعناصر الغذائية اللازمة لاستمرار نضالها في أكمل صورة. إلا أن الحياة لا ترحم. في يوم تالٍ، بعد وجبة غنية، استطالت جذور ماريا أكثر فأكثر حتى استوقفها جسمٌ هائل الصلابة، عرفت فيما بعد أنه حائط خرساني.
ماذا تفعل؟ ترددت في أذهانها عدد لا حصر له من الأطروحات، بعضها يخضع لطريقة تفكيرها التي تدربت عليها، بعضها الآخر يائس لا فكاك من الموت في إثره.
"التحايل!"
قالت بصوت خشيت أن يسمعه غريب.
ومضت ماريا تخطط وتنفّذ في الأيام والليالي التالية فكرتها في التحايل على التشريعات التي تحول دون راحتها. كانت النتيجة التي يُنظر إليها بزهو وتعجب من قبل جميع الكائنات، أنها أحاطت -بقدرة مضاعفة على التغذية والتنقيب عن الماء- ذلك الحائط الخرساني، الذي اتضح فيما بعد أنه أساس لمنزل حديث، من جميع جهاته بجذورها وجذوعها البُنية المعروقة المتكسّرة والتي زادت سماكتها مع الوقت إذ خزّنت تحت بشرتها مزيدًا من الماء والمعادن، فضربت في الأرض ضربات قوية ثابتة، تزحف فوق الثرى وتُزحزح حبات التراب الدقيقة وتشق الكبيرة، حتى تلطّخت عروقها بهذا التراب وأصبح سمةً أساسية لوجودها. أصبحت هُويّة.
كوّنت مع مرور الوقت شبكةً متينة من جذور البازلاء حول تلك الخرسانة. وإذا حدث في أحد الأيام وأتوا على أنقاض هذه البناية الحديثة، لتعجبوا من المنظر، وحمدوا الله أن تلك الكثافة النباتية المتشابكة، لم تزعزع أساس المبنى الذي دأبوا في الحفر رأسيًّا من أجل تثبيته!
وما إن رسّخت الحبةُ دعائمها في أرجاء التربة، اقتربت من سطحها أكثر فأكثر. حتى جاء هذا اليوم وتفتّق أخرُ مسام جسدها لأعلى، لتتلاشى الجُثة القديمة نهائيًّا، وتخرج إلى الضوء ساقًا أخضر تعجبُ لزهوِهِ العيون الناظرة.
فارس محفوظ
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ماريا ا رحلة عمل
إقرأ أيضاً:
كارثة.. تحذير من شرب المياه في الزجاجات البلاستيكية
يلجأ الكثير من الاشخاص لتناول المياه في الزجاجات البلاستيك على اعتبار أنها الأفضل للصحة.
ولكن عندما تستهلك زجاجة بلاستيكية من الماء سعة لتر واحد، على سبيل المثال، فإنها تحتوي على 240 ألف جزيء بلاستيكي.
قد يكون الأمر بمثابة صدمة أكبر عندما نعلم أن متوسط عدد جزيئات البلاستيك في كل لتر من مياه الصنبور هو 5.5 جزيئات فقط.
شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خطر على الصحةترتبط المواد البلاستيكية النانوية ارتباطًا وثيقًا بالسرطان والعيوب الخلقية ومشاكل الخصوبة.
وتعتبر هذه الجزيئات أصغر بكثير من الجسيمات البلاستيكية الدقيقة، التي تم اكتشافها سابقًا في زجاجات المياه، وفقًا لبحث نشرته جامعة كولومبيا.
وباستخدام الليزر، ألقى الخبراء نظرة فاحصة على جزيئات من ثلاث علامات تجارية مشهورة للمياه في الولايات المتحدة.
إن الخطر في هذه المواد البلاستيكية النانوية هو أنها صغيرة جدًا لدرجة أنها يمكن أن تدخل مباشرة إلى خلايا الدم والدماغ.
تحتوي المواد البلاستيكية المستخدمة في صناعة زجاجات المياه عادة على الفثالات، والتي يقال إنها تساهم في وفاة 100 ألف شخص في الولايات المتحدة كل عام.
وبحسب المعهد الوطني لعلوم الصحة البيئية، فإن الفثالات "مرتبطة بمشاكل النمو والتكاثر والدماغ والجهاز المناعي وغيرها".
أطلق على استخدام الفريق لتكنولوجيا الليزر الجديدة اسم مجهر التشتت الراماني المحفز (SRS).
كيفية شرب الماء بأمان
وفقًا لـ Simplex Health، فإن "الطريقة المضمونة الوحيدة للحصول على مياه نقية هي من خلال التقطير بالبخار باستخدام جهاز تقطير المياه.
الماء المقطر نقي بنسبة 99.8%، أي أنه أنقى من أي ماء معبأ أو ماء الصنبور، وأكثر نقاءً من استخدام أي نوع آخر من الترشيح أو التنقية. يُغلى الماء برفق للقضاء على الفيروسات والبكتيريا، كما يوضحون.
"يتم التقاط البخار الناتج في ملف من الفولاذ المقاوم للصدأ حيث يبرد ليشكل ماءً نقيًا.
يمرّ هذا عبر فلتر فحم منشّط لإزالة أيّ شوائب ضئيلة.
يُنصح بإعادة إضافة المعادن إلى الماء، لأنّ عملية التقطير تُنقّى الماء لدرجة قد تُفقده هذه المعادن الأساسية.
هذه العملية المكثفة قد يكون لها تأثير على طعم الماء، وهو ما قد لا يرضي الجميع.