(قمر 14) في غزة.. الطوفان الآخر
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
يتواصل طوفان الكتابة في غزة جنبًا إلى جنب مع طوفان الموت، ياه.. كم هي مدينة غريبة هذه الغزة! فكل يوم تقريبًا يموت في مدرسة مجاورة مليئة بالنازحين أو في حي من أحياء غزة العشرات، من النساء والأطفال والرجال، وكل يوم تقريبًا تولد قصيدة وتهبط على الأرض قصة قصيرة، ومؤخرا من شهرين تقريبًا، بدأ المئات من شابات وشبان غزة موهوبين كانوا أم غير موهوبين يكتبون يومياتهم ونصوصهم وتفاصيل واقعهم بلغة شعرية و قصصية لافتة، وصادقة جدا وعفوية، وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.
(ليس نحن من يكتب هذا الأدب)، قال لي مرة صديقي الشاعر الشاب أدهم العقاد: إنها غرابة هذه المدينة، نحن مجرد وسطاء بين هذه الغرابة وبين القراء، تمر الغرابة في أجسامنا، وأذهاننا، تجلس قليلا لترتاح ثم تخرج إلى القارئ طازجة محيرة مؤلمة، مجنونة، لكنها صافية مثل ضحكة نهر صغير، مضيفًا: (نتفاجأ نحن باندهاش القراء وشكرهم لنا، وحين نوضح لهم أن غزة هي التي تكتب غرابتها من خلال حساسيتنا، يبتسمون، وكأنهم يقولون، هذا تواضع المبدع الغزي).
على يد الموت يتعلم الغزيون كثيرا من الأشياء الجديدة، منها دروس كتابة القصص والأشعار، لا تتوقعوا أنهم يحتاجون إلى الخيال، فأهم شيء موجود في غزة ومجانا دون تكاليف أو فواتير، وقبل الماء والكهرباء هو الخيال، فما يحدث في غزة يحلق مثل نسر شاب على أعلى قمم الخيال الإنساني، الخيال فائض في غزة، يمشي في الشوارع عارضا معروضاته دون مقابل، فمثلا من كان يستطيع تخيل مشهد شاب يمشي في الأحياء المدمرة وبين الأنقاض، حاملا على ظهره كيسا فيه رأس أخيه الشهيد، وهو يبحث الآن بهدوء واتزان عن باقي أعضاء جسده؛ ليعيد لأخيه اكتماله، وحين ينجح في ذلك بعد أيام، تطلق الأم زغرودة فرح، ويأتي الجيران سعداء ليهنئوها على لم شمل أعضاء جسد الابن، وقد نزل الشهيد إلى قبره مكتملا مثل عريس. بلاد الخيال المعمم غزة حتى صار الخيال هناك يستغرب من نفسه، أمعقول ما يحدث؟ يبدو أني جننت، هكذا يهمس الخيال في أذن الخيال حين يهم بالغرق في النوم.
لم تتخيل الشابة الغزية أصيل سلامة التي لم تتجاوز العشرين أن يصدر لها كتاب من حيفا في عز المذبحة، هي أيضا لا تعرف متى ستلمس غلاف الكتاب، فالمسافة بين حيفا وغزة ليست بعيدة لكنها مدججة بالنار والموت، أصالة من الشابات اللواتي تفاجأن بالقلم يجري أمامهن، يخط القصص ويرسم المشاهد، ويلتقط المفارقات، وهي أيضا محظوظة فقد قرأ لها الكاتب القصصي الكبير محمود شقير نصوصها على الفيسبوك فأعجب بها أيما إعجاب، وتبنى موهبتها. أصيل من مدينة رفح أصلا، ونازحة إلى خان يونس، طلبنا منها أن تحدثنا عن سياق وظروف صدور هذا الكتاب هذه إجابتها: "بدأ الكتاب بمنشورات أدبية أكتبها على الفيسبوك، شعرت أنها أثارت إعجاب المتابعين وقد لاحظت زيادة عددهم، وتلقيت منهم رسائل إعجاب، وكان من ضمن هؤلاء المتابعين جدو الكاتب المقدسي محمود شقير، وشعرت من خلال تشجيعه الدائم أن ما أكتبه له قيمة لم أكن أعرفها وهكذا شجعني أيضا على نشر هذه القصص في كتاب، وتعهد بنشره، وهذا ما حصل، الكتاب (قمر 14) صدر في حيفا قبل أسابيع فقط، ولم أصدق نفسي أني صرت صاحبة كتاب يصدر في أغلى المدن، وفي ذروة مذبحة صهيونية ما زالت مستمرة".
في كتاب (قمر 14) هناك أكثر من 30 قصة قصيرة جدا، في كل قصة ثمة تكثيف موفق للحدث، وتقطير مؤثر للمشاعر، بعض هذه القصص القصيرة جاءت على شكل رسائل إلى (جدو محمود) نلاحظ في الكتاب اللغة الشفافة المتأملة، ورغم بساطتها إلا أنها نقلت ما يحدث بأسلوب جذاب وحيوي، وصادق، وطفولي.
ويخبرنا الكاتب الشهير محمود شقير عن قصة تشجيعه واكتشافه لموهبة أصيل: جاء الأمر صدفة، فتاة شابة اسمها أصيل سلامة، تكتب على رأس صفحتها في الفيسبوك: أهلا بكم في عام أصيل. شعرت بأن من تكتب جملة كهذه لا بد من أن لديها رؤية ما. تابعت صفحتها لبعض الوقت، لأحظت أنها تكتب تعليقات فيها سخريات ظريفة ونقد لبعض الظواهر. لاحظت كذلك حبها للأطفال، ثم عرفت من خلال صفحتها أن هؤلاء الذين تحبهم هم أبناء شقيقتها. وحين قرأت بعض يومياتها وجدت لديها موهبة تمكنها من دخول عالم الكتابة. شجعتها فتشجعت وكتبت كتابين عن الحرب، وكان لصديقي الناشر صالح عباسي فضل كبير حين تبنى إصدار كتابها الأول: قمر 14 وقصص أخرى، وكان للأستاذة رناد القبج فضل كبير حين تبنت إصدار كتابها الثاني: أصيل والأطفال الخمسة..
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی غزة
إقرأ أيضاً:
د. ندى عصام تكتب: العبادات في عصر الذكاء الاصطناعي
في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع وتيرة التطورات التكنولوجية بشكل غير مسبوق، أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولم يتوقف تأثيرها عند حدود الحياة العملية فقط، بل امتد ليشمل الجوانب الروحية والعبادية أيضًا، ويُعتبر الذكاء الاصطناعي (AI) أحد أبرز ملامح هذه الثورة التكنولوجية، حيث يوفر أدوات ووسائل مبتكرة يمكن أن تُحدث تغييرًا جذريًا في كيفية تعلم المسلمين لعباداتهم وممارستها.
إن العبادات في الإسلام، مثل الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، تحمل معاني عميقة ودلالات روحية سامية، وتعليمها بشكل صحيح يُعد أمرًا بالغ الأهمية لكل مسلم.
لذا، فإن دمج الذكاء الاصطناعي في هذا السياق يمكن أن يُعزز من فهم العبادات، ويسهل على الأفراد التعلم والممارسة بطريقة تتناسب مع احتياجاتهم الخاصة.
والجدير بالذكر، يمكن أن تُستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير برامج تعليمية تفاعلية تساعد الأفراد على تعلم كيفية أداء العبادات بشكل صحيح، على سبيل المثال، هناك تطبيقات تتخصص في تعليم الصلاة، حيث تقدم شروحات مرئية وصوتية توضح كيفية أداء كل ركعة، مع توجيهات حول كيفية قراءة الآيات والأدعية هذه التطبيقات غالبًا ما تستخدم تقنيات التعرف على الصوت، مما يتيح للمستخدمين التفاعل بشكل مباشر مع البرنامج، وتصحيح الأخطاء أثناء أداء الصلاة، هذا النوع من التعلم العملي يُعتبر فعالًا بشكل خاص، حيث يتيح للمستخدمين فهم العبادات بصورة أعمق، ويعزز من تجربتهم الروحية.
واستناداً لما سبق، يُعزز الذكاء الاصطناعي من إمكانية تخصيص المحتوى التعليمي وفقًا لاحتياجات الأفراد والفئة العمرية المستهدفة، كما يمكن للأنظمة الذكية تحليل بيانات المستخدمين لتحديد المجالات التي يحتاجون فيها إلى تحسين، مثل فهم أحكام الصوم أو تعلم كيفية إخراج الزكاة، هذا التحليل الدقيق يمكن أن يُنتج خططًا تعليمية مخصصة، مما يضمن أن يتلقى كل فرد التعليم الذي يناسب مستواه واحتياجاته، وعلى سبيل المثال يمكن لنظام الذكاء الاصطناعي أن يقترح موارد إضافية أو دروسًا تفاعلية بناءً على أداء المستخدم، مما يساعده في تعزيز معرفته وفهمه.
ولتسليط الضوء على تقنيات الواقع الافتراضي (VR) والواقع المعزز (AR) في تعليم العبادات، تعتبر هذه التقنيات تجربة غامرة للمستخدمين، فيمكنهم زيارة المساجد أو أداء مناسك الحج في بيئة افتراضية، هذه التجارب لا تُعزز فقط من المعرفة العملية، بل تساعد أيضًا في تحفيز المشاعر الروحية والارتباط الشخصي بالعبادات، وعلى سبيل المثال يمكن للمستخدمين تجربة الطواف حول الكعبة أو أداء الصلاة في المسجد الحرام، مما يضفي طابعًا واقعيًا على التعلم ويعزز الفهم الروحي للعبادات.
ومع كل هذا التطور، لا تخلو هذه التكنولوجيا من التحديات والاعتبارات الضرورية، أحد أهم هذه التحديات هو التأكد من دقة المعلومات المقدمة، يُعد التعليم الديني أمرًا حساسًا، لذا يجب أن تكون المصادر المستخدمة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي موثوقة ومتوافقة مع التعاليم الإسلامية، كما ينبغي أن تكون هناك معايير واضحة لضمان أن المحتوى لا يتعارض مع القيم الإسلامية الأساسية، وتخضع للمراقبة والإشراف الديني مثل الأزهر الشريف.
تحدٍ آخر يتعلق بالخصوصية والأمان، إذ يجب حماية بيانات المستخدمين وضمان عدم استخدامها بشكل غير مصرح به، وفي عالم تتزايد فيه المخاوف بشأن الأمان الرقمي، يجب على المطورين والشركات العاملة في هذا المجال أن يضعوا معايير صارمة لحماية المعلومات الشخصية.
علاوة على ذلك، يجب أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة مكملة للتعليم التقليدي، وليس بديلاً عنه، لا يزال دور المعلمين والمرشدين الدينيين ضروريًا، حيث إن التعليم الروحي يتطلب تفاعلًا إنسانيًا وفهمًا عميقًا للمعاني والمقاصد. لذا، يجب أن يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتعزيز هذه التجربة، بدلاً من استبدالها.
في الختام، يُعتبر الذكاء الاصطناعي رفيقًا جديدًا في رحلة تعليم العبادات الإسلامية، حيث يمكن أن يسهم في تعزيز الفهم والممارسة الصحيحة للعبادات بطرق مبتكرة وفعالة، ومن خلال دمج هذه التكنولوجيا مع المعرفة الدينية، يمكننا تعزيز التجربة الروحية للمسلمين، مما يجعل رحلة الإيمان أكثر غنى وعمقًا، ومع الاستمرار في تطوير هذه الأنظمة يجب علينا التأكيد على أهمية القيم الإسلامية في كل خطوة من خطوات هذا التطور، لتكون النتيجة تجربة تعليمية شاملة ترتقي بالفرد وتنمي علاقته بالله عز وجل.