لجريدة عمان:
2025-07-03@04:33:35 GMT

المقاومة

تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT

برز مصطلح «المقاومة» في الفترة الأخيرة مجددًا بسبب حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين الأبرياء، الذين كان ذنبهم الوحيد وجودهم في الزمان والبقعة الجغرافية الحالية، فلا سبيل إلى الحياة إلا بالمقاومة أو الهجرة؛ ولأن الخيار الأخير يُعدُّ هدفًا للاحتلال أصلًا، فإن بالإمكان اعتباره موتًا آخر، لا يقل عن الموت الحقيقي.

أفكر في مصطلح المقاومة عبر الأجيال وتطوره وتغيُّره كذلك.

فأما المصطلح، فإني لم أجد في المراجع التي عدت إليها بحثًا في جذوره -وهذا بطبيعة الحال قد يكون راجعًا إلى أني لم أهتدِ إلى المراجع الصحيحة بعد- ولكنني أحسب أنه ظهر مع الحركات الاستعمارية في المناطق المختلفة من العالم، بحيث تكون المقاومة -كما أفهمها- كل فعل يؤدي إلى الخلاص من المُستعمِر عسكريًا، وثقافيًا، واقتصاديًا حتى. أما تطوره، فإن المقاومة الأولى كانت بوسائل بدائية في مقابل ما يملكه المُستعمِر من تطور يتيح له فرض قيوده ووجوده على المُستعمَر، إلى أن تصبح تكلفة الاستعمار أعلى من وجوده، وهنا ينتهي الاستعمار.

أما تغيُّره، فإن المصطلحات تحدد الكيفية التي نتعامل بها مع الأشياء والناس والحياة ككل، لذلك كان لزامًا على مَن يملك القوة أن يتحكم بسيرورة المصطلحات وصوابيتها؛ فيغدو الفعل الذي يفعله شخص ما أو عدة أشخاص «فعل مقاومة» أو «فعل تخريب وفوضى» بناءً على توافق تلك الأفعال مع من يمسك بزمام الأمور وينتفع منها، سواء كان من جِنس المُستعمِر أو من المُستَعمَرين.

بحثت في معاجم اللغة وقواميسها، كلسان العرب، والقاموس المحيط، وجمهرة اللغة لابن دريد، علِّي أجد شيئًا مشابهًا لما نعرفه عن المصطلح اليوم، وذلك بدافع الفضول والاكتشاف. فلم أجد شيئًا إلا في «اللسان»، وذلك في ثلاثة مواضع في مادة «قَوَمَ». الأول منها في تفسير كلمة «قَامَ»، ووجدت ابن منظور يورد بيتًا لكعب بن زهير، ولا أحسب معنى لهذا البيت أحسن موضعًا من المعنى الذي نعرفه اليوم عن المقاومة، وهو قوله:

«فَهُمْ صَرفُوكم، حينَ جُرْتُمْ عنِ الهُدَى

بأَسْيافِهِمْ حَتَّى اسْتَقَمْتُمْ عَلَى القِيَمْ»

فالمقاومة أصلها السلاح والدفاع، وإجبار المعتدي الجائر على وقف عدوانه. والثاني حيث يقول: «..وقاومه في المصارعة وغيرها وتَقاوَمُوا في الحرب، أيْ قامَ بعضهم لبعض». والثالث في قوله: «..ويقال ما زلت أقاوم فلانًا في هذا الأمر، أيْ أُنازِلُهُ».

ولكن ما أهمية المقاومة؟ وهل المقاومة فعل في الحرب فحسب أم أنها طريقة للحياة؟

إن أحسن من يعرف معنى المقاومة هم الفقراء والقاطنون في الأماكن الصعبة الوعرة أولًا، ومن يتعرض للاحتلال أو الاستعمار أو الحرب ثانيًا. فأما الفئة الأولى، فإنها تقاوم الفقر والمرض والبيئة القاسية الصعبة بشتى الطرق والوسائل، متمسكةً بالحياة ورمقها. ولذلك نجد القادمين من هذه الخلفية الاقتصادية-الاجتماعية أو البيئة الجغرافية أصبر على الحياة وشظفها، وأكثر تطلعًا واجتهادًا لبلوغ «برِّ الأمان»، كما تفهمه هاتان الفئتان، لا كما نُعرِّفُ برَّ الأمان. وأما الثانية، فإنها تكتسب هذه القدرة والطاقة بعد مشقة ومكابدة، وذلك لأن الاحتلال أو الاستعمار أو الحرب أمر حادثٌ لم يُسبق بشيء شبيه له أو نظير في تلك البقعة الجغرافية.

لأجل هذا كله، يجب أن نحتفي بالمقاومة وندرس معانيها ونبثها في نفوس النشء لما تحمله من مكامن الضعف أو مواطن القوة لمستقبل الأمة. فالشباب الذي يدرك معنى المقاومة يدرك معنى الوطن بالضرورة؛ فلا يغدو الوطن بقعةً جغرافية حالها كحال أية بقعة جغرافية في هذا العالم الشاسع، بل هو كيان وهوية يُفدى بالأرواح والأموال.

ومتى ما غفل المسؤولون عمّا تفعله وسائل التواصل من تمييع للهوية الوطنية الحقة التي تتجاوز الشعارات الرنانة والأغاني الحماسية، وتتمثل واقعًا يبذل فيه المرء أقصى ما يملك لرفعة هذا الوطن، فإننا سنجني بذور ذلك الإهمال أو التغافل عاجلًا أم آجلًا. والسبيل إلى إصلاح الوضع قائم بالاستعانة بالمفكرين العمانيين والمثقفين في تقييم الوضع وتقديم الحلول الحقيقية الجذرية وتكوين صورة ثابتة عن الوطن، وقد يكون السبيل الأول لحل أية مشكلة هو الحديث بلا مواربة عن تلك المشكلة وتعريتها ثم علاجها العلاج الناجع. أما التغافل عن المشكلات، فهو كمن يعلم بوجود جرو الضبع في بيته، ويأمن ذلك الجرو زمنًا، ويعوّل على ضعفه وبراءته، حتى إذا قوي واشتد عوده وبرز مخلبه، وكشّر عن نابه؛ صرخ ولات حين مندم:

«ومن يصنع المعروفَ في غير أهله

يلاقي الذي لاقى مجيرُ أمِّ عامرِ».

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

مؤامرات فرط صوتية.. ومقاومة لم تزل حاضرة!

حين تدير وجهك عن شريط الأخبار العاجلة لبعض شأنك، أو ضجرا من تسارع الأحداث، تعود مدفوعا برغبة حارقة بالمتابعة، فتجد أن ثمة شيئا جديدا يحصل، هناك تسارع غير مسبوق في الأحداث.. حتى وقت قريب كان يمر الشهر أو الشهران دون أن ترى خبرا عاجلا، أما اليوم لا تمر ساعة دون أن تصطبغ شبكات الأخبار باللون الأحمر، هناك حالة من "فرط صوتية" تعيشها بلادنا منذ يوم السابع من أكتوبر، ومع تسارع الأحداث وجِدّتها، ثمة مسار آخر غير مرئي نرى ونشعر بأثره الموجع: كتل من المؤامرات السوداء تنفجر من حولنا كينابيع مياه آسنة، مؤامرات كبرى بحجم منجز المقاومة وعنفوانها، مقاومة تدير رؤوس المتابعين، وتغيظ العدو ومَن وراءه ومَن وراء وراءه!

من خلف دخان التصريحات التي يطلقها رجل نصف مجنون ونصف مغامر مقامر، تنتظر توقيعه الشهير أكبر قوة عسكرية في العالم، تشم رائحة حكايات ومؤامرات، تترى كموج البحر، بعضها أو جلها يتكسر على رمال الشاطئ، وبعضها غير المرئي ربما يتحول إلى موجات تسونامي مجنونة، ويبدو أننا على أبواب شيء من هذه الأخيرة!

يهمس في أذني أحدهم؛ سمع مباشرة من مسؤول كبير جدا في سلطة رام الله أن مبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط ويتكوف، هذا الرجل الذي يبدو كأنه ترامب صغير لكن أشد ذكاء منه وحامل سره، تواصل غير مرة معه والتقاه في غير عاصمة عربية وغربية، و"وعده" أن "المعلم" الكبير يخطط لإقامة شيء يسمى "دولة" فلسطينية في الضفة الغربية وغزة، مع ربط الإقليمين بممر. وفي التفاصيل: ستكون دولة بلا مواصفات الدولة، وتحت سقف اشتراطات "أوسلو" وربما أدنى بكثير منها، مع بقاء جل أو كل مستوطنات الصهاينة في الضفة الغربية، وتعديلات ما على تقسيمات الأراضي الأوسلوية: "أ" و"ب" و"ج"، وسيترافق هذا مع حفلة تطبيع كبرى مع دول عربية وإسلامية.

الطبخة التي تحدث عنها هذا المسؤول الكبير فاحت رائحتها المنتنة، حتى قبل أن "يبوح" بسره الخطير، بل إن أخبارها ملأت الشريط الإخباري الأحمر، والسؤال هنا: أين المقاومة من كل هذا؟ هذا السؤال لم يزل مطروحا على الطاولة، لسبب بسيط ووحيد هو أن المقاومة لم تزل حاضرة وتجلس على الطاولة، وترفض مغادرتها رغم كل ما حيك حولها من تآمر ليس لإبعادها عن الطاولة فقط، بل لدفنها تحت سابع أرض، إلا أنها حتى اليوم تسجل حضورها في دفتر الحضور والغياب، كحاضر واحد ووحيد في قائمة الشرف!

منذ مائة عام اعتدنا في بلادنا العربية وتشكل قلب العالم، أن نعيش حياتين: حياة فوق السطح مليئة بالخطابات القومجية المجعجعة بالنصر والإنجاز الكاذب والاستقلالات الوهمية، وحياة أخرى تحت أرضية تحتوي خطط وبرامج برسم التنفيذ تستهدف إبقاء هذه الأمة في حالة سيولة وميوعة وطنية، فلا هي مستقلة ولا محتلة بالمعنى الحرفي، لكنها مخترقة حد كونها تدار بأيد خفية، تكون حيث يُراد لها أن تكون، لا حيث يريد أهلها. وتلك حالة يبدو والله أعلم أننا بدأنا نشهد بدايات أولية لنهايتها، فقد سقطت الأقنعة، وتمزقت أوراق التوت، ولم تعد العورات الوطنية متوارية وراء الأكاذيب، بل إن عصا غزة، أو عصا موسى بمعنى من المعاني، بدأت تلقف ما يلقون، من عصي يهيّأ للناظر أنها أفاع، وهي محض عصي لا حول لها، تلك ليست محض أماني، فالواقع الذي سطرته غزة وفلسطين بمقاومتها وسابع أكتوبرها، أكبر من أن تحجبها مؤامرات أو قنابل دخانية، نحن أمام واقع جديد عربيا وغربيا، لن يتسامح أبدا مع تلك الجرائم الكبرى التي ارتكبها الصهاينة النازيون، وسأقول أكثر: إن الله أكرم من أن يدع تلك الدماء الزكية تذهب هدرا، هناك واقع جديد في الضمير الجمعي العربي والغربي أيضا، يقول إن الكيان ارتكب جرما كونيا ولا بد أن يعاقَب عليه، حتى ولو بدا هذا الكيان وكأنه يعيش فترة علو غير مسبوقة، فحسب قوانين الفيزياء بعد أن تبلغ كتلة ما ذروة العلو تعقبها مرحلة السقوط، أما كيف وعلى أي نحو، ومتى على وجه التحديد، فعلمها في بطن الغيب، وإن كانت كل مؤشرات عالم الغيب والشهادة أيضا تنبئ بأن هذا السقوط بات وشيكا جدا، وثمة مليون مؤشر يدعم هذا الاستنتاج، ولم يكن هذا ليحدث لولا ثبات المقاومين منتعلي الشباشب، وتشبثهم بمبدأ الحرص على الموت بمقدار ما يحرص عدوهم على الحياة، أي حياة!

صحيح أنني وأمثالي نبدو كمن "يتباهى بشعرات بنت خالته" كما يقول المثل الفلسطيني السائر، ولكننا على الأقل لم ننخدع بألاعيب القومجيين، ولم نطبل أو نزمر لمن طعن المقاومة في ظهرها، وبقينا نصرخ بأعلى الصوت -وهو كل ما نملك تقريبا- مدافعين عن صوابية موقفها، وخياراتها، ولم نروّج لما حاول بيعه المخذلون والمتخاذلون من تصنيفات وضيعة لأكثر مراحل التاريخ الفلسطيني نظافة وعنفوانا.

نحن على أبواب مؤامرة كبرى جديدة؟ على الأغلب نعم، حيث تغطيها سحابة دخانية من التصريحات الترامبية، التي تحمل الشيء وضده في الوقت نفسه، ما هو مؤكد أن كل "الترامبات" عبر التاريخ كان مصيرهم أسود قاتما، ابتداء من فرعون ونهاية بهتلر، مرورا بكثيرين أغرقوا بلادنا بالدم، وذهبوا كأي عارض صحي، وبقيت الأمة بكل عنفوانها وحضارتها و.. مقاومتها أيضا.

مقالات مشابهة

  • د. غادة جابر تكتب: شهيدات حادث المنوفية لكل كلمة معنى
  • هذه مخرجات الملتقى الدولي “جرائم الاستعمار في التاريخ الإنساني”
  • هذه مخرجات الملتقى الدولي جرائم الاستعمار في التاريخ الإنساني
  • معنى اسم المثنى وصفاته
  • السودان.. حرب بلا معنى (2)
  • رئيس جامعة الأزهر: صعدت إلى غار ثور منذ 20 عاما وفهمت معنى كلام النبي.. فيديو
  • الاستعمار الرقمي ودروس العدوان على إيران
  • انطلاق فعاليات الملتقى الدولي حول جرائم الاستعمار في التاريخ الإنساني بالعاصمة
  • إسرائيل: قراءة الزمن الطويل
  • مؤامرات فرط صوتية.. ومقاومة لم تزل حاضرة!