بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
بائسةٌ تلكم الصّورة التي يراد تصويرُها للعلاقة بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، وأنّها علاقة قائمةٌ على الأحقاد الشخصيّة، والمنافع الذّاتيّة، والقتال لأجل القبيلة والعشيرة، والحرب انتصارا لشهوات السلطة والتمحور حول الذّات.
لا أريد الخوض في المعركة التي يتم استحضارها بين فينة وأخرى لاعتبارات كثيرة؛ ليس بينها البحث العلميّ الرصين، أو البحث عن الحقيقة الموضوعيّة، أو الاعتبار الراشد من أيام الأمة الخالية.
ووصفها العقّاد بقوله: "ليس موضع الحسم فيها أن ينتصر عليّ فيحكم في مكان معاوية، أو ينتصر معاوية فيحكم في مكان عليّ، بل موضع الحسم فيها مبادئ الحكم فيها كيف تكون إذا تغلّب واحد منهما على خصمه؟ أتكون مبادئ الخلافة الدينيّة، أو مبادئ الدولة الدنيويّة؟ الحسم حقّ، الحسم هنا هو تغليب مبادئ المُلْك أو مبادئ الخلافة، ولا حيلة لعليّ ولا لمعاوية في علاج الأمر على غير هذا الوجه لو جهد له جهاد الطّاقة".
أمّا الموقف الشخصيّ من معاوية تجاه علي رضي الله عنهما فتجلّيه مواقف عديدة منها:
الموقف الأول: وتذكرة عموم كتب التاريخ والفضائل عند أهل السنة والجماعة ومنها "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" للأصبهاني، و"صفوة الصفوة" لابن الجوزي، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر، وتسوقه كذلك مصادر الشيعة ومنها "بحار الأنوار" للمجلسي، وفيه: "دخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صف لي عليا. فقال: أوَتعفيني يا أمير المؤمنين، قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بدّ، فإنّه كان والله بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدّنيا وزهرتها، ويستأنس باللّيل وظلمته، وكان والله غزير العَبرة، طويل الفكرة، يقلّب كفّه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللّباس ما قصر، ومن الطّعام ما جشب، كان والله كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نكلّمه هيبة له، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين، ويحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضّعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السّليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي أسمعه الآن وهو يقول: يا ربّنا يا ربّنا، يتضرّع إليه ثم يقول للدّنيا: إليَّ تغرّرت، إليَّ تشوّفت؟! هيهاتَ هيهات، غرّي غيري قد بنتك -طلّقتُك- ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آهٍ من قلّة الزّاد، وبُعد السّفر، ووحشة الطّريق. فوكَفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشّفها بكمّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك -حزنك- عليه يا ضرار؟ قال: وجدُ -حزنُ- مَن ذُبح واحدها -ولدها الوحيد- في حجرها، لا ترفأ دمعتها ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج".
هذا المشهد كفيلٌ بتجلية حقيقة المشهد القلبيّ الشعوريّ والموقف النفسي الشخصيّ لمعاوية تجاه عليّ رضي الله عنهما، وقد يحلو للبعض أن يصف الأمر أنّه محض تمثيل لا صدق فيه، وهذا القول فضلا عن دخوله في النوايا وهو لا يستقيم مع الحكم ويجعله رغائبيا غير سويّ، فإنّه أيضا يتغافل عن أن معاوية رضي الله عنه لم يكن بحاجة إلى مثل هذا المشهد التمثيليّ من الأساس، فهو حينها ملك المسلمين الذي لا ينازعه في ملكه أحد، وعليّ رضي الله عنه قد قضى نحبه شهيدا، فأيّة حاجة إلى التمثيل أو التكلّف حينها؟!
والموقف الثّاني: يذكره ابن كثير في "البداية والنهاية" في إطار حديثه عن معاوية رضي الله عنه؛ فيقول: "لم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيّامه في بلاد الرّوم والفرنج وغيرها، فلمّا كان من أمرِه وأمرِ أمير المؤمنين عليٍّ ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتحٌ بالكلّية، لا على يديه ولا على يدي عليّ، وطمع في معاويةَ ملك الروم بعد أن كان قد أخسأه وأذلَّه، وقهر جنده ودحاهم، فلمّا رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليّ؛ تدانى إلى بعض البلاد في جنودٍ عظيمةٍ، وطمع فيه، فكتب إليه معاوية: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحنّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنّك من جميع بلادك، ولأضيّقن عليك الأرض بما رحبت. فعند ذلك خاف ملك الروم وانكفَّ، وبعث يطلب الهدنة".
وفي هذا المشهد لفتةٌ مهمّةٌ وموجعة، وهي أنّ الخلاف الذي حصل بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما كان سببا في تعطيل حركة الفتوحات ونشر الإسلام في الأمصار، وهي رسالة بالغة الأهميّة إلى العاملين في حقل الإسلام بأنّ الخلاف بينكم إن وصل حدّ المواجهة سيعطلكم جميعا عن خدمة مشروعكم المشترك، وهو خدمة الإسلام وإعلاء اسمه في الأرض.
كما أنّ فيه لفتة بالغة الأهميّة في موقف معاوية من عليّ رضي الله عنه، وهو أنّ هذا الموقف والخلاف مهما بلغت درجته فإنّه لا يمكن أن يسمح بدخول أعداء الإسلام فيه وإذكائه، فضلا عن أن يمكّنهم من استثماره لصالحهم، فمعاوية كان عنده الاستعداد التامّ للاصطلاح مع عليّ رضي الله عنهما وتناسي الخلافات لمواجهة التهديد الخارجيّ الذي كان متوقعا ولم يكن واقعا، فما بال العاملين في حقل الإسلام اليوم يسلّون سيوف المعارك على بعضهم بعضا وعدوهم الذين يرميهم عن قوس واحدة يدمّر الديار ويريق الدماء وينتهك الأعراض ويدنّس المقدّسات؛ ما لهم كيف يحكمون؟!
وأمّا عليّ رضي الله عنه فقد ثبت عنه فيما أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح أنّه قال: "قتلاي وقتلى معاوية في الجنة"، وهو بهذا لا يريد الحكم بدخول أعيانهم الجنّة، إنما الحكم بإيمانهم ونفي ما قد يتوهمه البعض من كفرهم أو يتقوّله البعض من إخراجهم من الملّة.
وينقل الذهبي في "منهاج الاعتدال" موقفا نفيسا يرويه أهل البيت عن بعضهم رضوان الله تعالى عنهم أجمعين، حيث قال: "روى سفيان عن جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر قال: سمع علي يوم الجمل، أو يوم صفين، رجلا يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرا، إنّما هم قومٌ زعموا أنّا بغينَا عليهم، وزعمنا أنّهم بغوا علينا، فقاتلناهم. وعن مكحول أن أصحاب عليّ رضي الله عنه سألوه عمن قُتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون".
إنّ الموقف الشخصيّ لكل من عليّ ومعاوية رضي الله عنهما تجاه الآخر ينبغي أن يكون منطلقا في الحديث عنهما أو الحديث عن الخلاف الحاصل، والتعامل معه بمنطقهما لا بمنطق الأحقاد الشخصيّة أو التعصبات الطائفيّة التي يتمّ سكبها على المشهد استحضارا وتحليلا واستنباطا وإسقاطا.
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه معاوية علي السنة الشيعة صفين السنة الشيعة علي معاوية صفين مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بین علی
إقرأ أيضاً:
قواعد البأس الشديد
مصطفى عامر
القاعدة الأولى يا نتنياهو:
لا فرق بين جبال اليمن وبين رجالها، ومن الحماقة بالطبع أن تناطح جبلًا!
القاعدة الثانية:
حتى لو استوعبت القاعدة الأولى، وقمت بتنفيذ مضامينها، فمن أولوياتنا تكسير رأسك! وما دمت قابعًا في الحياة الدنيا، فمن واجبنا إرسالك إلى جحيم الآخرة!
ليس من المناسب، لنا، أن نتغاضى!
لقد أرسلنا الله لفض الإشتباك بين رأس كلّ خنز.يرٍ، وكتفيه!
القاعدة الثالثة:
لقد سبقك كثيرون إلى تجريب اليمن، ومثلك تمامًا لم يفهموا- قبل فوات الأوان- أن هذه أرضٌ لا تبقي على أعدائها، ولا تذر! ولهذا فمن الطّبيعيّ أن ترتكب نفس أخطائهم!
لأننا أرسلناهم بالطبع إلى دار البقاء،
وكفى بالفناء المحض واعظًا ومعلّم!
القاعدة الرابعة:
أعداؤنا السابقين استحالوا أممًا بائدة،
لأننا- على نحوٍ ما- عذاب الله وعباده أولي البأس الشديد، وآيتنا “فجاسوا خلال الديار”، ونؤمن تمامًا بأنّ وعد الله كان مفعولا.
مثالٌ توضيحي:
في صنعاء حيٌّ يُدعى “مذبح”، وقد سمّيناهُ هكذا لأسبابٍ تشرحها التسمية، وبإمكان أردوغان تزويدك بمعلوماتٍ إضافيّةٍ، لو فكّرت بالاستزادة!
القاعدة الخامسة:
أمامنا فلا يرفعنّ عدوٌّ رأسه، ومن ثقُلت عليه فليرفعها، إذن! وبالطبع:
إن هي إلا مرّة، ولن يجد من بعدها رأسًا لإعادة الكرّة!
لأننا نعرف تمامًا كيف نحيل رأس العدو المرفوع، إلى محض رأسٍ مقطوع!
القاعدة السادسة:
هذه أرضٌ حرون، ولهذا فأبنائها الحقيقيون فرسانها، وعلى العدو فإنهم بالتأكيد نار الله الموقدة!
القاعدة السابعة:
فرط صوتيّة!
ولهذا فليس من الضروري أن تفهمها الآن،
إنّ بعض الدروس تُفهم ساخنة.
القاعدة الجامعة:
نحن لا نركع إلا لله، ولا نستعين إلا بالله، ولا نتوكل إلا على الله، ولا نخاف ما دون الله، ونوقن أن أعمارنا بيد الله، وأن الكون ما كان إلا بعد “كُن”، وما دمنا مع الله فإن الله معنا.
“فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”.