تحدثنا في المقال السابق عن مقدمات للغزو المعنوي والحضاري، وفي هذا المقال نؤكد على الاستراتيجيات والأدوات لمفاهيم تترافق كمنظومة ضمن ما أشرنا إليه آنفا من منظومات التطبيع واستراتيجيات العدو.

ويبدو لنا أن مفهوم الحرب النفسية وعملياتها قد اختطها الكيان الصهيوني حتى قبل وجوده، ضمن عمليات متتابعة لخلق حالة من الترويع والتهجير الممنهج والمنظم، وهو ما أتاح له من بعد ذلك -وبمساعدة دول غربية- في استمرار هذه السياسة وتطويرها، ذلك أن مفهوم الحرب النفسية وارتباطه بالغزو المعنوي يقوم على قاعدة مهمة؛ أن للحرب أشكالا كثيرة ومداخل متنوعة، وأن هذه المداخل تسهم في تكاملها في معالم النصر أو الهزيمة.



فمفهوم الحرب النفسية يقوم على قاعدة اختلاق لبعض المعلومات أو تهميش بعضها أو التهويل من غيرها في محاولة للنيل من الخصم، وفي حقيقة الأمر أن الحروب النفسية ضمن مثل هذا الصراع الحضاري المصيري الممتد تتطلب التعامل مع أساليب العدو الصهيوني وعمليات الحروب النفسية؛ التي تتسم بخصائص جوهرية تجعل من الضروري القيام بتأسيس أجهزة معلوماتية في سياق هذا الشعار الأساسي "اعرف عدوك". هذه المعرفة لا تطلب لذاتها ولكنها تبتغى لمقاصدها، وفي هذا السياق يمكن النظر في المقابل ليس فقط لأساليب العدو الصهيوني، ولكن بالتعرف على جملة الاستراتيجيات والاستجابات المناسبة لحركة المقاومة في الأمة، والانخراط في التعامل مع شأن الحروب النفسية، هادفة إلى تقوية إرادة المقاومة في الأمة وتخذيل العدو والفت في عضده وإضعافه.

مفهوم الحرب النفسية وعملياتها قد اختطها الكيان الصهيوني حتى قبل وجوده، ضمن عمليات متتابعة لخلق حالة من الترويع والتهجير الممنهج والمنظم، وهو ما أتاح له من بعد ذلك -وبمساعدة دول غربية- في استمرار هذه السياسة وتطويرها
إن المسائل التي تتعلق بالتدافع في ميدان الحروب النفسية لهو أمر جوهري للحفاظ على مقاومة الأمة وتأسيس مداخل فاعليتها، وهي أيضا تؤدي إلى مقاومة حال الوهن، وواقع الهوان في الأمة بما يمنع تلك الهزيمة النفسية قبل خوض الحروب في الميدان أو في أثنائها، أو حتى فيما بعدها.

ومن هنا فإننا نؤكد أن الحرب النفسية لا تكون فحسب في الميدان المعقود للقتال، ولا في المسائل والخطاب المعني به، ولكنها تتخطى ذلك لتأسيس كل مصادر المناعة الأساسية في الأمة وتحقيق ما من شأنه تأسيس كل ما يتعلق بالخروج من الأزمة أو المحنة:"وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً" (التوبة: 46). والعدة هنا أمر كما يتعلق بتوفير عدة السلاح في مقام المعركة، فإنه أيضا يتعلق هنا في ميادين الحرب النفسية بتأسيس القدرة واستثمار كافة الإمكانات في حرب نفسية مضادة والنيل من العدو والحفاظ على إنسان الأمة، للقيام بدوره الفعال حضورا وشهودا.

وفي حقيقة الأمر فإن الحروب النفسية لا نغالي إن قلنا إنها تعبير عن حروب الإرادة وغزو النفوس واحتلال العقول والتسلل الثقافي والفكري، ومحاولة تكريس الوهن المعنوي والقيام بالتدليس والتلبيس في حال الغزو المفاهيمي والمصطلحي كما سبقت الإشارة، إنها -الحرب النفسية- واحدة من أهم أدوات الغزو الثقافي والمعنوي والفكري من العدو وممن يدعمه ويسانده.

ونحن الآن في خضم هذه الحرب -طوفان الأقصى- التي قاربت على العام، فإن معارك الحروب النفسية هي من طبيعة دائمة ومستمرة؛ بل إننا يجب أن نؤكد لكل من يهمه الأمر في هذا الشأن أنها ستستمر غالبا حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهو ما يتطلب منا استثمار كل الإمكانات في تلك الحرب التي تشكل إسنادا للميدان، وهو ما تجب ملاحظته في أية التغيير القرآنية التي أشارت إلى سنة إلهية ماضية: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).

ومن هنا وجب في سياق هذا المفهوم الذي ينال من الإرادة ويمهد لهزائم نفسية؛ أن نتدبر معاني التغيير ما بالقوم والأمة، ومعالم التغيير في الأداء والأدوات، وأصول التغيير بالأنفس في حالتها الجمعية، وبالنفس في ذواتها الفردية؛ إنها بحق معركة النفس الطويل، والانخراط المقاوم الذي يشكل مواجهة حقيقية لكل ما يتعلق بمعاني الإرادة وتمكين الصمود؛ بما يحفظ المقاومة من الانكسار بفعل أي محاولة في ميدان الحرب أو الحروب النفسية خاصة حينما نتعرف على اختلال موازين القوى والقدرات.

إن هذا العمل المذهل المقاوم، والمجاهد، والحاضنة الغزية التي تتحمل فوق ما يطيقه البشر إنما تشكل في حقيقة الأمر ملحمة من ملاحم هذا الزمان، رغم أنف هؤلاء الذين اجتمعوا في محاولة لكسر إرادة المقاومة أو إعلان انكسارها. ستظل المقاومة بذلك رمزا مهما يصمد في ميادين القتال، كما يصمد في ميادين الحروب النفسية، صمودا عزيزا كريما، هكذا تعودنا من أهل غزة العزة، مقاومة وشعبا وحاضنة.

المقاومة الحضارية الشاملة واستراتيجيات المقاومة في مدافعة الحرب النفسية حتى لا تذبل النفوس أو تحتل العقول وتهون الإرادات، بل كان ذلك في شأن الأمة وأحوالها (انتزاع المهابة، قذف الوهن)، ودور الحروب النفسية والحضارية في هذه الصناعة للأمة الغثائية على كثرتها الزائفة التي لا تقوم بأدوارها الدافعة والرافعة والناهضة والشاهدة. والشهود حضور فاعل وهو ضد المغيب والغياب والتغييب، وضد "حب الدنيا الذي تسرب في النفوس حتى أشربوا العجل في قلوبهم" ووصل إلى النخاع؛ فما أنتج إلا خنوعا وخضوعا، فتخلفنا عن روح الجهاد ونفسية المقاومة. نحن في هذا الشأن وهذه الحياة يجب ألا تستغرقنا خطابات التخذيل من باب الواقع الأليم وضغوط تتعلق بأفق الانحطاط الراعي للاستنفار والتحريض على الدافعية والرافعية للأمة نهوضا ومقاومة، تدافعا وقوة وجهادا، والانخراط في الحركة الناهضة على المستوى الإنساني والعالمي.

نموذج التصهين هو نتاج لحرب نفسية صهيونية تحت أغطية التطبيع والدعاية، وهو ما يفرض ضرورة إنشاء جهاز دعائي ودعوي لإسناد القضية العادلة لأمتنا. ويجب أن يكون العلماء والنخب المثقفة في وعي تام أن الحرب النفسية لا تستهدف النفوس الفردية، ولكنها تستهدف "القوم" الجمعي في الأمة، في نفسية الجماعات والأمم
إن حربا تجعل من النفوس ميدانها، هي معركة طويلة ومتواصلة، معركة النفس الطويل، والعمل المؤثر الكبير، هذه المعركة والمتابعة لها والانتصار فيها هو استكمال للطوفان مآلا وتـأثيرا وفاعلية. إن رسم مسارات فاعلة لترشيد حال الأمة في فعلها وفاعليتها ولا تترك للعمل العشوائي أو المتناثر، بل لا بد أن تتراكم الجهود وترشد وتسدد لعمل مؤثر. إن من حفظ النفس أن تقوم بأدوار مهمة في دفع الحروب النفسية القاصدة لغزو النفوس وتوهين الإرادة، وتسرب الهزيمة إلى داخلها بمداخلها المتعددة والمتنوعة. إن الفعل الإحيائي ضمن عمل منظم وبأساليب منظومية عمل غاية في الأهمية، والاستجابة الفاعلة والواعية والداعية، يتطلب دورا إحيائيا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (الأنفال: 24)؛ الحياة الكريمة ونفوس العزة والكرامة وعقول الحرية والتحرير، إنها في كل الأحوال معركة إحياء النفوس في ميدان حروب تستهدف النفوس "الحرب النفسية"، ذلك أن المدد النفسي الناهض في معركة المقاومة ليس بالأمر الهين.

إن نموذج التصهين هو نتاج لحرب نفسية صهيونية تحت أغطية التطبيع والدعاية، وهو ما يفرض ضرورة إنشاء جهاز دعائي ودعوي لإسناد القضية العادلة لأمتنا. ويجب أن يكون العلماء والنخب المثقفة في وعي تام أن الحرب النفسية لا تستهدف النفوس الفردية، ولكنها تستهدف "القوم" الجمعي في الأمة، في نفسية الجماعات والأمم.

إن الأمر المتعلق بالقابليات هو الذي يمكّن للمقولات الزائفة ضمن منظومات الحرب النفسية والدعاية، ضمن تسللات وفعل التخفي وضمن حالة حربائية متلونة. ومن ثم فإنه ضمن صناعة الوعي البصير الراصد بعمق والتفاعل بقوة مع الواقع والترشيد والتسديد للفعل المؤثر ضمن الوعي الممتد الذي يصب في كيان الأمة وعافيتها؛ كان النداء الحركي النبوي "بشروا ولا تنفروا"، بشروا واستنفروا، إنه "نفير الأمة" لإسناد مقاومتها والسير في طريق نهوضها، "بشروا" و"تنفروا" لأن البشارة جزء لا يتجزأ من عمليات الاستنفار العام والنفير العام في عملية المقاومة الحضارية، فيدفع القوى الناهضة والعمل الإيجابي المؤثر والفاعل ويجعل الأمل مشفوعا بالعمل، إنه سؤال التغيير لا يزال يعلمنا أن المقاومة لا بد وأن تكون على مستوى القوم، وعلى مستوى الذات والنفس الفردية والجماعة (الأنفس) وعلى كل مستوى حضاري بالحضور المقدر والفاعل.

x.com/Saif_abdelfatah

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحرب النفسية النصر الهزيمة المقاومة النصر المقاومة الحرب النفسية الارادة الهزيمة مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة رياضة سياسة صحافة مقالات سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الحروب النفسیة الحرب النفسیة النفسیة لا فی الأمة وهو ما فی هذا

إقرأ أيضاً:

على أرض غزَّة لا تلوموا الضَّحيَّة ولوموا الجلَّاد

 

 

حملة تشويه خطيرة وكبيرة يشنها أعداء المقاومة الفلسطينية على أهل غزة خاصة، وعلى القضية الفلسطينية عامة، حملة تشهير وتشويه لا تبدأ بتحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية عن حرب الإبادة في غزة، وعن الدمار والخراب الذي حل بأهلها، ولا تكتفي الحملة المنظمة بالتشفي بالمقاومين الفلسطينيين، والتشهير بهم، بل تمادى قادة الحملة المسعورة إلى حد التنكر لفكرة المقاومة الفلسطينية نفسها، وتشويهها بالنقد، وفي المقابل، يقدسون في منشوراتهم الخنوع والمذلة والهمالة والنذالة، وهم يخدمون فكرة التنسيق والتعاون الأمني مع المخابرات “الإسرائيلية”.
منطق أصحاب حملة التشهير بالمقاومة والمقاومين يعتمد على ما لحق بأهل غزة من جوع وحصار ودمار ونزوح ومستقبل مجهول، ويتشربون مادتهم الإعلامية من الواقع الصعب الذي يعيشه الناس في غزة، والذي لا ينكره عاقل، ولكن هؤلاء المبرمجين يضخمون المأساة، ويقلبون الحقيقة، ويدعون أن حركة حماس هي التي تتحمل مسؤولية ارتقاء الشهداء، وأن جوع الناس تتحمل مسؤوليته حركة حماس، ويبرئون العدو الإسرائيلي الذي يحاصر غزة، وهم يزعمون أن رجال المقاومة يلوذون بالاختباء بين الناس، متجاهلين تضحيات آلاف المقاومين في ميادين المواجهة، وعلى رأس الشهداء قادة المقاومة: محمد الضيف، ويحيى السنوار، ومروان عيسى آخر مقاوم يرتقي في هذه اللحظات.
المحرضون على المقاومة الفلسطينية يستقون مادتهم الإعلامية من الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، ومن الصهيوني إيدي كوهين، وللبعض تواصل مع مجموعة من الهاربين خارج غزة ـ عصافير أوروبا ـ أولئك الحاقدين على غزة وأهلها، هؤلاء هم من يقودون الحملة بشكل ممنهج ومدروس، وبترتيب مع أكثر من جهاز مخابرات محلي وعربي ودولي، والهدف النهائي لهذه الحملة هو اليوم التالي للحرب على غزة، وهي الفكرة الصهيونية التي عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيقها حتى اليوم، رغم كل وسائل الإرهاب والبطش والذبح، ليتصدر هؤلاء الناس مشهد التشهير بالمقاومة، والعمل على تدميرها من الداخل، والانقضاض عليها، متجاهلين المخططات الإسرائيلية المعلن عنها، التي لن تسمح بوجود أهل غزة أنفسهم على أرض غزة، في حين لو نجح الاحتلال بتدمير قدرات حماس، وتحقيق أهدافه في السيطرة على أرض غزة، فالتهجير هو الهدف الأكبر للعدو، والسيطرة العسكرية الإسرائيلية لن تسمح لا لهذا الفريق بالسيطرة ولا لذاك الفريق بالتواجد.
غزة تعيش الضائقة، وغزة في مصيبة كبيرة، ورأس غزة على المقصلة الإسرائيلية والأمريكية، وغزة بحاجة إلى من يقف معها وينصرها ويناصرها، وتناشد أمتها العربية والإسلامية ألا تتجاهل معاناة أهلها وعذابهم، ولكن ذلك لا يعني قلب الحقائق، وتحميل المسؤولية عن معاناة الناس إلى أشرف الخلق، أولئك الذين تصدوا بصدورهم ولحمهم وعظمهم للدبابات الإسرائيلية.
وبهدف وضع النقاط على الحروف، وكي لا يظل البعض تائهاً، وجاهلاً للحقائق، لا بد من تحديد خندق الأعداء، وترتيبهم كالتالي:
العدو الأول للشعب العربي الفلسطيني هو العدو الإسرائيلي، وحلفاؤه الأمريكيون، ومن يناصرهم من دول الغرب.
والعدو الثاني هو كل مسؤول فلسطيني يضع يده في يد المحتل الإسرائيلي، وينسق ويتعاون معه أمنياً.
والعدو الثالث هو كل نظام حكم عربي، يطبع مع العدو الإسرائيلي، ويتعاون معه سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ويحرّضه على المزيد من الذبح في غزة حقداً على رجال المقاومة!
والعدو الرابع، هو كل مسؤول أو قائد عربي يرى حرب الإبادة في غزة، ويغطيه مشهد الدم، ويغمض عينيه متجاهلاً المجزرة.
أما العدو الخامس فهم أولئك الأذلاء الجبناء، ضعفاء النفوس، من باعوا أنفسهم للإعلام الصهيوني، ووظفوا أقلامهم ومواقع تواصلهم، وخبرتهم في الكذب والتدليس، وراحوا يهاجمون المقاومة الفلسطينية، يحملونها مسؤولية قصف غزة وتدميرها، ويجللون الجيش الإسرائيلي برداء البراءة والعفة والطهارة.
أولئك هم أعداء فلسطين، وأعداء الشعوب العربية، أولئك هم قتلة.. مستقبلكم يا أمة العرب، فوجهوا سهامكم إلى نحورهم بلا رحمة، وبلا تردد، ولا تلوموا الضحية، ولوموا الجلاد.

*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني

مقالات مشابهة

  • العدو الصهيوني يهدد بفصل نحو ألف عسكري بسلاح الجو إثر مطالبتهم بوقف الحرب على غزة
  • لجان المقاومة الفلسطينية تدين المجزرة الأمريكية في الحديدة
  • المقاومة العمياء التي أخذت غزة إلى الجحيم
  • لماذا لا تُقاتل المقاومة؟
  • على أرض غزَّة لا تلوموا الضَّحيَّة ولوموا الجلَّاد
  • من (وعي وقيم ومشروع) كلمة السيد القائد بمناسبة يوم القدس العالمي 1446هـ ..
  • الحرب الجمركية.. هل تقود سياسات ترامب أمريكا إلى الازدهار أم إلى الانهيار؟
  • كيف يمكن لمصر أن تردع العدو الصهيوني دون حرب في 7 أيام؟
  • أسرار الانتصار.. كيف تحافظ المقاومة على قوتها
  • عبد الرزاق مقري: إنهاء المقاومة سيؤدي لتغوّل اليمين الصهيوني على العرب