عبدالله مكاوي
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يحدث في السودان يفوق حد الوصف وحدود الاحتمال، فمنذ اندلاع حرب الاخوة الاعداء، غابت كل الخطوط الحمراء، فيما يخص حقوق وكرامة المواطنين الابرياء، وما يختص بسلامة الدولة وبنيتها التحتية. فحيثما حلت جحافل الجنجويد في مكان ما، غابت الدولة وحلت الفوضي وعمت الاستباحة كافة الارجاء.
وما يثير الحيرة، ان هذا العنف المجنون الذي يسم هذه الحرب القذرة، يطفو علي سطح مجتمع عرف عنه الطيبة والبساطة رغم تنوع سحناته وامتداده القاري! ويبدو ان هذه الطيبة والبساطة يرجع جزء منها للخبرات الانسانية ومعرفتها بما يجره العنف من كوارث علي امنها المجتمعي، وجزء يرجع للتدين الشعبي كاحد افرازات دخول وتغلغل الصوفية في انسجة وثقافة المجتع السوداني. كما ان اكبر مصدر للعنف (المقصود العنف الواسع) مرتبط غالبا بالسلطة ونزعة السيطرة علي الآخرين، وهذا بدوره اكتسب شأوا بعيدا بعد تطور مؤسسة الدولة ودخول عامل الاسلحة الفتاكة. والحال كذلك، نجد العنف المفرط في المجتمع ارتبط بالاحزاب العقائدية، بسمة المراهقة التي تكتنفها، ومن ثمَّ ايعازها بسمو الغايات وسهولة التغييرات وتفاهة التحديات، بما يبرر كل الوسائل لانجاز الطموحات المنشودة! اي بدل ان يكون الانسان غاية تلك الاهداف، يصبح وسيلة لتلك الغايات، ولذلك تقل قيمته وينخفض ثمنه ويُدفع به للتهلُكة. والعامل الآخر للعنف المفرط هو دخول المؤسسة العسكرية/الحركات المسلحة، كطرف في صراع السلطة، مستفيدة مما تملكه من قوة مسلحة لفرض سطوتها علي المجتمع. وغالبا هذا سبب حالة التقاطعات والمصالح المشتركة التي تجمع بينها طوال تاريخنا منذ الاستقلال.
ولكن اذا صح اعلاه يصح اكثر ان العنف نفسه متدرج سواء في تأصله او نطاق استخدامه. ففي حالة الاسلامويين مثلا، يصل طاقاته القصوي من الجهتين (التاصيل والاستخدام) وذلك لتماهيه مع القداسة الدينية. كما انه يعبر لديهم عن ضيق الافق، وشدة التوتر والانفعال، وكراهة الآخر المختلف، والحقد الدفين علي كل من يتفوق عليهم (سياسيا مثل الشيوعيين واخلاقيا مثل الجمهوريين وجماهيرا مثل الاحزاب الطائفية وماليا مثل الراسمالية الوطنية وخارجيا نموذج امريكا روسيا كاقوياء). وكأن المشروع الاسلامي في خلاصته، تصفية حساب مع الآخرين اكثر منه رؤية للعالم واسلوب حياة.
وكنموذج لمعاناة الاسلامويين المأزومين، نتخذ الفقر كمقياس طبقي اندرج فيه جل الاسلامويين، فهم نظرو ونظَّروا للفقر كعيب في حقهم وعار يجب التخلص منه، ولكن بطريقة حلولهم محل الاغنياء وافقار الآخرين، واسهل طريقة لذلك هي الاستيلاء علي السلطة واحتكار كافة الامتيازات بغطاء الدين. ولذلك لم تنتج ادبياتهم شيئا ذي بال، اذا استبعدنا الشعارات العاطفية. عكس الشيوعيين مثلا، الذين اعتبروا الفقر عدو للمجتمع وهو نتاج علاقات الاستغلال، وذلك بعد تحليلهم للمجتمعات، وهذا ما منحهم القدرة علي بناء برامج وتبني مشاريع وانتاج ادبيات عميقة، حتي ولو اختلف البعض معها او مع طريقة انزالها علي ارض الواقع.
وهنالك جانب آخر اكسب الاسلامويين طاقات مهولة من العنف ضد الآخر، بالتوازي مع حالة الانكار وعدم الاكتراث لاثر ونتائج هذا العنف عليه. وبتعبير آخر، إلغاء هذا الآخر من بند الوطن والانسانية وتجريده من كافة الحقوق والصاق كل العبر به، لمجرد انه معارض لمشروعهم او منازع لهم في السلطة. وهذا الجانب المقصود متعلق بسوء التربية ويتحمل عبئه الاكبر مربيهم السيئ الترابي، الذي استغل استعدادهم لفعل كل شئ، طالما يتماشي مع رغباتهم. لفرض طاعته ومن ثمَّ خدمة مشروعه الخاص. ليخرجوا من بين يديه (رحمه علي قول الجماعة) وكأنهم سادة العالم، وانهم ما خُلقوا إلا ليفرضوا سيادتهم علي الآخرين، والمتجسدة في الحكم والاستكبار والاستحواذ الشامل. لذلك تجد احقر كوز يعتقد انه افضل من اكبر بروف، واهيف إمعة يعتقد انه يضارع اشهر مبدع، واصغر امنجي يتوهم انه يفوق المناضلين والسياسيين والنشطاء والحقوقيين عظمة وتدين ووطنية (خير تنظيم اخرج للناس)!
وفي كل الاحوال آخر من يحق له محاسبة الآخرين عن صلتهم بمليشيا الجنجويد هو جهاز الامن ذاته. والسبب انه المختبر الذي تم داخله صناعة هذا المسخ، لانتهاك حرمات الآخرين والقضاء عليهم اذا تطلب الامر! وصحيح ان المليشيا وبسبب مالكها الحصري حميدتي، تطبعت بطابعه بعد ان اكتسبت صفاته وتخلقت باخلاقه، كمرتزق مجرم طموح، يجيد المكر والغدر والابتزاز. توسعت في نفوذها واعمالها الاجرامية، مما جعلها في حاجة لمرتزقة من كل شكل ولون، لتحتشد بالمجرمين واللصوص والقتلة من كل فج عميق، لتفوق صانعها في ارتكاب الفظائع والموبقات. والحال هذه، يصبح الرهان عليها مستقبليا، كرهان علي اسوأ نسخ الاسلامويين، كبديل عنهم! وهذه سخافة لاتصدر الا عن قلة وعي او شهوة انتقام من الاسلامويين او تعصب جهوي وقبلي يرغب في تصفية غبن تاريخي. وكل ذلك لا يليق بالاحرار والاسوياء ناهيك ان يصلح لبناء وطن مدني ديمقراطي، اثبتت كل التجارب انه لا يستطيع تاسيسه إلا المدنيون والديمقراطيون وبوسائل مدنية وديمقراطية. كما ان الاسلاموية لا تعني شيئا سوي التفسخ القيمي والانحلال الاخلاقي والاستبداد بالسلطة والاستهتار بمقومات وجود الدولة واحتقار الآخر، وبكلمة مختصرة، العداء للحق والخير والجمال، وكل ذلك يتبع فيه الجنجويد الاسلامويين حذو النعل بالنعل. فهل بعد ذلك يجوز الحديث عن تفاوت او افضلية بينهما؟!
وهذا بدوره يقول شئ آخر، ان هذه الحرب المشتعلة الآن بضراوة هي في حقيقتها حرب الاسلاموية الداخلية، او الحرب الاهلية بين القادة والتيارات داخل نظام الانقاذ (منظومة مصالح مافيوية وقيم مهترئة). ولذلك يدفع المواطنون وممتلكاتهم ثمنها مرتين، مرة عندما تتخذهم مليشيا الجنجويد كحوافز لمقاتليها، ومرة عندما يتاجر بانتهاكات المليشيا قادة الجيش والكيزان. والحال كذلك، وبسبب ضعف انتماء الاطراف المتقاتلة لمواطني هذه البلاد، بحيث يندفع احدهم لخدمة مشروع خارجي، والآخر لخدمة تنظيم داخلي. اتخذت هذه الحرب طابع العنف الارعن والانتهاكات الفظيعة في حق المدنيين العُزل، من دون اي وازعٍ كان.
واذا نظرنا بمنظار اشمل ومنذ بزوغ نظام الانقاذ الاسلاموي الظلامي، نجد هذه الحرب تندرج في ذات سياق الحط من قيمة الآخر وتجريده من كافة حقوقه، بل فقط اتخذت هذه المرة طابع نزاع الشركاء علي السلطة، بوصفها القدرة المطلقة علي التحكم في الآخرين وموارد البلاد. وليس بعيدا عن ذلك تاتي جريمة مقتل الشهيد الامين بهذه الطريقة الوحشية. اي هي مجرد تكثيف لحالة الغاء الآخر او تجريده من كافة حقوقه وبما فيها حق الحياة بطريقة بشعة ودم بارد، اي كجزء من روتين العمل اليومي، وبعدها ينصرفون لحياتهم الطبيعية. وما زوبعة التحقيقات والمحاكمات إلا وسيلة للتغطية علي الجريمة والافلات من العقاب وتنفيس الغضب، وبعدها يبدأ مسلسل المماطلة الي حين ميسرة. والسبب ان ذات الافراد الجناة جزء من منظومة متكاملة، اذا سقط البعض تهاوي المعبد بكامله.
وهذا بدوره يقول ان نمط الاستبعاد ومصادرة الحقوق، هو جزء من حالة العنف العامة التي تكشف عن بنية واداء نظام الاسلامويين الفراعنة. وهو عنف يبتدئ من مصادرة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويمر بالحرمان من كافة انشطة الحياة الطبيعة، وصولا لمصادرة الحياة، لكل من يعارضهم او يتوهمون انه يعارضهم او يشكل خطر علي سلطتهم وامتيازاتهم.
وكل ذلك يقول ايضا، ان الكيزان والدعامة وجهان لعملة واحدة، عنوانها العريض الشر المستطير، وان وجودهما بكامل نفوذهما او وجود احدهما بكامل نفوذه، يشكل استمرار لحالة الغاء الآخر (الكل ما عدا الاقلية المتسلطة) وتاليا الخضوع لذات منظومات القمع والفساد والاستبداد والاستباحة، اي انتاج حالة الانسان المهدور في اصدق تجلياتها. ومن المعلوم ليس هنالك من سبيل لاستمرار نفوذهما وسيطرتهما، إلا من خلال استمرار هذه الحرب السلطوية اللعينة، التي تلغي الفعل السياسي والدور الجماهيري، قبل ان تعذب الناس وتهدر حياتهم. ويصح ان التخلص منهما او تاثيرهما الحاسم غير ممكن في المدي القريب، ولكن ذلك لا يمنع التعايش معهما (فوق راي) اذا ما استجابا لدعوات ايقاف الحرب. وإلا وبما ان قدرات الجماهير محجمة في الداخل، فيقع العبء علي النشطاء في الخارج، لممارسة كثير من الانشطة والضغوط للتعجيل بالتدخل الدولي لحماية المدنيين، من هؤلاء السفهاء الذين يتقاتلون علي جماجم الابرياء، لمصالح ضيقة لا تتعدي اعادة انتاج ذات العاهات لتحكمنا الي الابد.
واخيرا
نسأل الله الرحمة والمغفرة للشهيد الامين، الذي عرَّت روحه الطاهرة في معراجها للسماء، قبح هؤلاء المتاسلمين، وتجردهم ليس من القيم الانسانية والدينية الي يتشدقون بها فحسب ولكن حتي من الاعراف المجتمعية. فمن يصدق ان دولة كالسودان بشعبها الموصوف اعلاه، ياتي عليه يوم، وفي كل ركن من بلاده يحتله مكتب لجهاز الامن وبعضها تشغله بيوت الاشباح، وكل حي من فرقانه ومكتب في مؤسساته ينتشر العسعس ليتحسسوا ويتجسسوا علي فقره وقلة حيلته، بعد ان تم تجريده سلفا من كل اسباب الحياة الكريمة، وكل لله (الله يقبحكم)!
تقبل له الله بواسع رحمته مع الصدقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا، والهم ذويه الصبر وحسن العزاء وانا لله وانا اليه راجعون. ودمتم في رعايته.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه الحرب من کافة
إقرأ أيضاً:
اليونيسف: أطفال رضع بين المتعرضين للاغتصاب في السودان
الأمم المتحدة: سلطت منظمة اليونيسف الضوء على تقارير تفيد بأن رجالا مسلحين اغتصبوا أطفالا، بمن فيهم رضع لا تتجاوز أعمارهم السنة، واعتدوا عليهم جنسيا في خضم الصراع في السودان، وذكرت اليونيسف أن البيانات التي جمعها مقدمو خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان ترسم صورة مؤلمة للأزمة التي يتعرض لها الأطفال؛ حيث تم تسجيل 221 حالة اغتصاب ضد الأطفال منذ بداية عام 2024.
وأوضحت اليونيسف أن هذه الأرقام لا تمثل سوى جزء يسير من إجمالي الحالات لأن الناجين وأسرهم غالبا ما يترددون أو يعجزون عن الإبلاغ عن هذه الحالات بسبب صعوبات الوصول إلى الخدمات والعاملين في الخطوط الأمامية، والخوف من الوصم الذي قد يواجهونه أو الخوف من الرفض من أسرهم أو مجتمعهم ومن الانتقام من الجماعات المسلحة أو الخوف من الانتهاكات المتعلقة بسرية المعلومات.
انتهاك شنيع للقانون الدولي
وقالت المديرة التنفيذية لليونيسف، كاثرين راسل: "اغتصاب رجال مسلحين لأطفال لا تتجاوز أعمارهم السنة يجب أن يصدم أي شخص في صميمه ويحفز على اتخاذ إجراء فوري. ملايين الأطفال في السودان معرضون لخطر الاغتصاب وأشكال أخرى من العنف الجنسي، التي تستخدم كأسلوب حرب. هذا انتهاك شنيع للقانون الدولي وقد يشكل جريمة حرب. ويجب أن يتوقف".
وذكرت اليونيسف أن من بين 221 شخصا تعرض للاغتصاب، هناك 147 طفلة – أي 66 % من الضحايا، بينما تبلغ نسبة الصبيان 33 بالمائة، وهم معرضون للوصم وتحديات فريدة في الإبلاغ وطلب المساعدة والوصول إلى الخدمات.
ومن المثير للصدمة أن هناك 16 فردا تقل أعمارهم عن 5 سنوات، بمن فيهم أربعة أطفال يبلغون من العمر سنة واحدة. تم الإبلاغ عن الحالات في تسع ولايات في السودان. وتم الإبلاغ عن 77 حالة إضافية من الاعتداء الجنسي ضد الأطفال، معظمها حالات محاولة اغتصاب.
إرث سلبي هائل ودائم
ونبهت منظمة اليونيسف إلى أن الواقع الوحشي لهذا العنف، والخوف من الوقوع ضحية له، يدفعان النساء والفتيات إلى ترك منازلهن وأسرهن والفرار إلى مدن أخرى حيث ينتهي بهن المطاف غالبا في مواقع نزوح غير رسمية أو مجتمعات تعاني من شح الموارد. كما أن خطر العنف الجنسي مرتفع داخل هذه المجتمعات، وخاصة ضد الأطفال النازحين داخليا.
وبرغم أن التأثير الهائل للعنف الجنسي على الناجين غالبا ما يكون مخفيا، إلا أنه يمكن أن يكون له إرث سلبي هائل ودائم، بما في ذلك الصدمات النفسية الكبيرة، والعزلة القسرية أو الرفض من الأسرة بسبب الوصم الاجتماعي، والحمل، والأمراض المنقولة جنسيا، والإصابات الخطيرة والمضاعفات الأخرى.
وذكرت اليونيسف أنها تعمل مع الشركاء لإنشاء مساحات آمنة توفر خدمات العنف القائم على النوع الاجتماعي للناجين، فضلا عن دمج هذه الخدمات في الخدمات الصحية في المراكز الطبية والعيادات المتنقلة وتوفير الإمدادات الطبية ذات الصلة.
وتعمل اليونيسف أيضا على بناء قدرات العاملين في الخطوط الأمامية، بمن فيهم الأخصائيون الاجتماعيون وعلماء النفس والمهنيون الطبيون، ونشرهم في مواقع في جميع أنحاء السودان لتقديم خدمات مجتمعية تشمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي وخدمات الإحالة. كما يتم العمل داخل المجتمعات لمعالجة المعايير والممارسات الاجتماعية الضارة.
وقالت مديرة اليونيسف: "لقد زرع العنف الجنسي المتفشي في السودان الرعب في الناس، وخاصة الأطفال. يجب على أطراف النزاع، ومن لهم نفوذ عليهم، بذل قصارى جهدهم لوضع حد لهذه الانتهاكات الخطيرة ضد الأطفال. الندوب الناجمة عن هذه الحرب لا يمكن حصرها وهي طويلة الأمد".
خطوات مطلوبة بشدة
وقالت اليونيسف إنها تواصل المطالبة بما يلي:
يجب على حكومة السودان وجميع الأطراف احترام التزاماتها بموجب القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان لحماية المدنيين، وخاصة الأطفال.
يجب أن يتوقف، فورا، العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك العنف الجنسي بوصفه أسلوب حرب.
يجب حماية البنية التحتية للخدمات الأساسية ومقدمي الخدمات حتى يتمكنوا من مواصلة عملهم المنقذ للحياة.
يجب أن يتمكن العاملون في المجال الإنساني من تقديم المساعدات والخدمات المنقذة للحياة بأمان، ويجب أن تتمكن الأسر من الوصول بأمان إلى الدعم الذي تحتاجه.
يجب إعطاء الأولوية لأنظمة البيانات الآمنة والأخلاقية، سواء للمساعدة في تعزيز الاستجابة الإنسانية أو كجزء من جهود أوسع لمحاسبة الجناة.
يجب على المانحين التعامل مع برامج العنف القائم على النوع الاجتماعي على أنها منقذة للحياة.