الشجب والاستنكار «شيكات» بلا رصيد
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
شبع الشعب الفلسطيني على مدار العقود الطويلة من عمر القضية الفلسطينية، مواقف شجب واستنكار ظهرت في ملايين المناسبات، وبصورة مملة متكررة تتردد على ألسنة الزعماء والقادة حول العالم وفي كل مرة يتعرض فيها الشعب الفلسطيني لمأساة أو مجزرة جديدة.
وتُستخدم هذه العبارات بشكل دائم في بيانات أولئك المستنكرين الرسمية وتصريحاتهم الصحافية، بينما يستمر تساقط القنابل على رؤوس الأبرياء، وتستمر إسرائيل في توسيع مستوطناتها، وتهجير الفلسطينيين من منازلهم ومضاربهم وقدسهم وأرضهم، وفق مساعٍ ممنهجة للتطهير العرقي.
مواقف وإن قدرناها أحيانا إلا أنها وبعد عقود من الصراع شهدت نكبات ونكسات، وبعد أكثر من 330 يوماً من المحرقة الجديدة المستمرة، لم يعد لمواقف كهذه أي إثر يذكر. فمواقف بلا مخالب ما هي إلا شيكات بلا رصيد، لا تأتي إلا في سياق رفع العتب والتحلل من المسؤولية الأخلاقية، ضد شعب ذبح ونحر لأكثر من سبعة عقود من الزمن تخللها صدور مئات القرارات الأممية، التي إن تسلح بها أصحاب الشجب والاستنكار لخلقت واقعاً مختلفاً، أعفى البشرية من سوداوية المشهد في فلسطين ومن حولها.
المفارقة في الأمر تكمن في حقيقة أن الشيك وإن حمل وعدا بالدفع، إلا أنه وفي ظل انعدام التغطية المالية خلف ذلك الوعد، إنما يجر صاحبه اليوم وفي كثير من المجتمعات إلى الملاحقة العدلية، لكن فعل الشجب والاستنكار ليس فارغاً من قيمته الفعلية والتأثيرية فحسب، وإنما لا يخضع لأي مساءلة تذكر . وعليه فإن الشجب إنما يحمل بعداً معنوياً في التعاطف والتأييد، لكنه لا يشكل ضمانا بتحقيق العدالة، ولا حتى فعلاً يذكر باتجاه إعلاء كلمة الحق وهو ما يجعل هذا الفعل ومع الاحترام الشديد لأصحابه ما هو إلا بمثابة كلام فارغ ليس إلا.
لقد شهد العالم وفي خضم عقود من الصراع العربي الإسرائيلي الكثير من المجازر والاعتداءات على الشعب الفلسطيني، بدءا من نكبة 1948 مرورا بنكسة 1967، وقائمة لا تنتهي من الحروب، وصولا إلى الحرب الوجودية على الهوية الفلسطينية والمستعرة الآن والتي ما جاءت إلا بفعل كثافة الشجب والاستنكار، وما رافقهما من حالة اللافعل واللاتحرك واللاعمل واللاهتمام، وبفعل العجز الدولي، والانبطاح الأممي أمام أهداف إسرائيل ونزواتها.
أبشع ما يصاحب هذا العجز، يكمن في ازدواجية واضحة في المعايير واستسلام شامل أمام واقع لا يتغير
ولعل أبشع ما يصاحب هذا العجز، يكمن في ازدواجية واضحة في المعايير واستسلام شامل أمام واقع لا يتغير. ففي الوقت الذي تُفرض فيه عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على دول أخرى لارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان، أو لشنها حروباً متعددة، تجد أن إسرائيل تُعامل معاملة مختلفة تماما، فيتم التغاضي عن جرائمها تحت ذريعة «الدفاع عن النفس»، أو «مكافحة الإرهاب»، في انتهاك واضح للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
ولا تقتصر هذه الازدواجية على الدول الكبرى فقط، بل تشمل أيضا المؤسسات الدولية ومنها، مجلس الأمن، الذي يُعتبر أعلى هيئة لاتخاذ القرارات الدولية المتعلقة بالسلم والأمن.
لقد أصدر هذا المجلس العديد من القرارات المتعلقة بفلسطين وإسرائيل. لكن هذه القرارات تبقى حبراً على ورق، حيث يُحبط أي جهد لتنفيذها من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) من قِبل بعض الدول العظمى، وخاصة الولايات المتحدة.
وبذلك فشل مجلس الأمن ومعه أطر ومجالس ومؤسسات الأمم المتحدة، التي أنشئت لتحقيق السلم العالمي وحماية حقوق الإنسان، في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
على مر السنين، خاصة بعد إصدار مئات القرارات التي أدانت وتدين إسرائيل وتطالبها بإنهاء احتلالها لفلسطين ووقف الاستيطان والانسحاب الشامل من الأراضي المحتلة، لكن هذه القرارات تبقى بلا تنفيذ، والسبب يكمن باقتصار الجهد العالمي على الشجب والاستنكار والتعبير عن القلق والإدانة بأشد العبارات وانعدم الآليات الفعالة لفرض هذه القرارات، ما جعل الأمناء العامين للأمم المتحدة من أكثر الناس قلقاً وانشغالاً في قضية لم يمتلكوا إزاءها سوى لغة الكلام والمواقف الصماء والخطب الشعاراتية الفارغة.
أما المؤسسات الدولية الأخرى، كمحكمة الجنائية الدولية، التي لديها صلاحية التحقيق في جرائم الحرب فقد أصبحت منصة للمماطلة والتسويف، بفعل جبروت الولايات المتحدة الأمريكية وسطوة التأثير الصهيوني عليها، وما يصاحب ذلك من سيل من الضغوط السياسية الهائلة، التي تمنع تلك المحكمة ومعها محكمة العدل الدولية من اتخاذ أي خطوات ضد القادة الإسرائيليين المتورطين في الجرائم ضد الفلسطينيين، أو وقف الذبح والقتل الذي يتعرضون له.
أما البرلمانات العالمية ومع تقديرنا لكثير منها ومن مواقفها، إلا أنها واجهت الحال ذاته بعد أن أصدرت قرارات داعمة للقضية الفلسطينية، دونما تأثير يذكر لهذه القرارات.
السبب في ذلك إنما يعود إلى أن هذه البرلمانات لا تملك القدرة على تنفيذ سياسات خارجية بمفردها، وتحتاج إلى موافقة حكومات تنفيذية افترستها إسرائيل وحيّدت قراراتها.
وعليه فقد بقيت هذه القرارات مجرد حبر على ورق، وتكفير واضح عن التقصير، وتعبير عن الرأي السياسي دونما توظيفه في سياسات فعالة تضغط على إسرائيل.
لكن الإحباط الذي يخلقه الشجب والاستنكار، وعلى الرغم من كثافة التحديات التي عاشها ويعيشها الفلسطينيون، لم يستطع أن يقتل الأمل في صدر شعب شهد سيلاً من التحولات السياسية التي جاءت بأنظمة وأيديولوجيات ظهرت وأفلت، بينما بقي هو على إصراره وعناده، حتى يستفيق ضمير العالم ويتحول الشجب والاستنكار إلى فعل وأثر.
إن الكلمات وحدها لا تكفي، بل يجب اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف إسرائيل وأحلام صهاينتها، لأن الشجب والاستنكار لن يحققا العدالة بل سيساهمان في انغماس أصحاب القرار الأممين في وحل الجريمة المرتكبة، وهو ما يجعلهم شركاء بصمتهم وتنصلهم من مسؤوليتهم. فهل يدرك المجتمع الدولي حاجة الفلسطينيين لأفعال حقيقية؟ أم ينتظر الفلسطينيون مليون شجب واستنكار قادمين، بينما يبقى عداد العجز متواصلاً؟ ننتظر ونرى!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة نتنياهو الاحتلال الاستنكار التنديد مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه القرارات
إقرأ أيضاً:
مؤرخة أمريكية: نتنياهو يستقوى بدعم اليمين العالمي في مواجهة الضغوط الدولية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
خطاب الأوساط الترامبية يسعى لخلق معركة مصطنعة بين العالم اليهودي المسيحي والإسلام ويستخدم صراع الشرق الأوسط لخدمة أهداف داخلية
"رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يستقوى بدعم قوي ضمن ائتلاف غير رسمي يربط بين زعماء اليمين فى العالم".. هكذا تحدثت الفيلسوفة والمؤرخة الأمريكية سوزان شنايدر، نائبة مدير معهد بروكلين للبحوث الاجتماعية فى نيويورك والباحثة الزائرة في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، والمتخصصة في شئون الشرق الأوسط.
تعليقًا على إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق بنيامين نتنياهو، قالت سوزان شنايدر، فى حديث لصحيفة "لوموند" الفرنسية: إن رئيس الوزراء الإسرائيلي، على وجه الخصوص، يحظى بالدعم الكامل من الزعماء المحافظين على مستوى العالم. وتابعت، لشرح رؤيتها، قائلة: لنلاحظ أولًا أن الرئيس الأمريكى جو بايدن، المنتهية ولايته، اعتبر قرار المحكمة الجنائية الدولية "فاضحًا". ومع ذلك، فإن ازدراء المحكمة الجنائية الدولية سوف يزداد عندما يحتل الرئيس المنتخب، الجمهوري دونالد ترامب، البيت الأبيض، خاصةً أنه في جميع أنحاء العالم، من المجر إلى الأرجنتين مرورًا بالهند، هناك العديد من القادة على رأس الدول الذين يزدرون هذا القرار. إنهم ينتمون إلى ائتلاف ناشئ يشكل يمينًا عالميًا، ومن أبرز شخصياته دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
مؤتمر سنوى
وللحق مكون أيضًا من مفكرين وإعلاميين يعتبرون عند البعض مؤثرين جدًا، أبرزهم بشكل خاص الإسرائيلى يورام هازوني الذي كان قريبًا من نتنياهو، ولكنه قبل كل شيء مؤسس المؤتمر الوطني المحافظ، الذي يعقد كل عام منذ عام 2019 في أوروبا أو الولايات المتحدة. ويجمع هذا الحدث بعض الشخصيات الأكثر تأثيرًا داخل اليمين المتطرف، مثل نائب رئيس الولايات المتحدة المستقبلي، جي دي فانس، ومقدم البرامج التليفزيونية تاكر كارلسون، وفيكتور أوربان، والملياردير بيتر ثيل.
إن حجم هذه الشبكات يبين لنا أننا وصلنا إلى وضع متناقض حيث أصبح القوميون المتطرفون، اليوم أكثر أممية من اليسار. ويجد نتنياهو تأييدًا واسعًا بينهم لتشويه سمعة المحكمة الجنائية الدولية وتصويرها على أنها هيئة دولية لا يحق لها التدخل في شئون دولة ذات سيادة.
وبالفعل، يعد الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأمريكي مقترحات لمعاقبة القضاة المشاركين في إصدار هذا القرار. كما هدد السيناتور ليندسي جراهام بفرض عقوبات على أي دولة تنفذ قرار المحكمة الجنائية الدولية، التي ليست الولايات المتحدة عضوًا فيها. ومن المؤكد أن نتنياهو سيزور أمريكا بعد وقت قصير من تولي ترامب منصبه في يناير 2025 لتسليط الضوء على قوة تحالفهما وتجاهلهما للقانون الدولي.
حلفاء مقربون
وأضافت المؤرخة الأمريكية: كان نتنياهو حريصًا بشكل خاص، لسنوات عديدة، على تعزيز هذه العلاقات المميزة مع الزعماء القوميين، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في جميع أنحاء أوروبا. والمجر هي الحليف الأقرب لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي. وقد رأينا مثالًا على ذلك في شهر فبراير الماضى، عندما حاولت المجر منع تبني قرار أوروبي يدعو إلى وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط. وهذه العلاقة قديمة، حيث أصبح أوربان ونتنياهو أقرب بعد لقائهما الأول في عام 2005، عندما كانا في المعارضة. ثم في عام 2015، تم إرسال أحد أعضاء الليكود إلى المجر لتنسيق العلاقات بشكل أفضل مع حزب فيدس بزعامة أوربان. وفي عام 2017، استعان رئيس الوزراء المجري أيضًا بخدمات مستشار سياسي أمريكي، أوصى به نظيره الإسرائيلي، من أجل إطلاق حملة ذات إيحاءات معادية للسامية ضد جورج سوروس، ذلك أن هذا الملياردير والمحسن هو عدو هذين الزعيمين لأن مؤسسات المجتمع المفتوح التابعة له تدعم جمعيات حقوق الإنسان.
وفي عام 2019، ساعد نتنياهو أوربان على الاقتراب من اليمين الأمريكي. وتوسط بالفعل نيابة عنه للسماح له بلقاء دونالد ترامب. واليوم يدفع فيكتور أوربان له الثمن، ويدعم بشكل كامل العمليات التي تنفذها إسرائيل في غزة. وردًا على مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، دعا أيضًا نتنياهو لزيارة المجر، على الرغم من أن بلاده من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.
ولذلك فإن هذا التجاهل للقانون الدولي، باسم السيادة الوطنية، سوف يستمر، حتى أن دولًا مثل فرنسا تبدي بعض التردد في تنفيذ مذكرة الاعتقال التي تستهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي.
معركة وجودية
إن الخطاب الذي نسمعه في الأوساط الترامبية، وحتى بين بعض الديمقراطيين، يجعل من إسرائيل قاعدة أمام الحضارة الغربية، حسبما تقول سوزان شنايدر. ومن وجهة النظر هذه، فإن معركة وجودية مصطنعة يمكن أن تدور رحاها بين العالم اليهودي المسيحي والإسلام. وكما فعلت الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر، فإن هذا الاتجاه يرى أن إسرائيل محقة في الاعتماد على القوة، والتصرف من جانب واحد، واحتقار الأمم المتحدة.
يُستخدم يوم 7 أكتوبر بشكل عام من قبل اليمين العالمي لخدمة خطاب معادٍ للإسلام. ومن شأن هذه الهجمات أن تثبت أن التعايش مع المسلمين مستحيل، وهو أمر يمثل خطرًا على العالم. وارتفعت مقولة شاذة تزعم أنه "سوف يتم تدمير الغرب إذا استقبل "هؤلاء الناس"، وتحولت الأمور إلى "هم" أو "نحن".
تعمل دوائر المحافظين بنشاط على ربط معارضة حركة الحرب بحركة الووكيسم التي تنشط بشكل كبير في الجامعات، والتى تحولت إلى حركة تسعى لخلق الانشقاق ووضع أفراد المجتمع في صراع ضد بعضهم البعض، كما لو كانت عصابة تعمل على تقويض الولايات المتحدة. وبهذه الطريقة، يتم استخدام الصراع في الشرق الأوسط لخدمة أهداف داخلية.
سوزان شنايدر