أتحدث هنا عن العالم الافتراضي الموجود على شبكة المعلومات، وسوف أخصص كلامي عن عالم الفيس بوك الأكثر شهرة، والأكثر اجتذابًا للبشر الذين يشاركون فيه بفاعلية يوميًّا، حتى إنه أصبح يشغل اهتمام معظم البشر، صغيرهم وكبيرهم؛ بل أصبح يشكل مجال همهم واهتمامهم، فيخصصون له وقتًا طويلًا من يومهم، ومن ثم من أعمارهم.
أحد أشكال هذه الظاهرة تتبدى في حرص كثير من النساء على "التواجد الجسماني": فمن الشائع أن تجد فتاة أو امرأة مشغولة بإظهار مفاتنها الجسدية واختزال مجمل وجودها في هذا التحقق الجسماني الذي سوف يزول بالتدريج؛ ومن ثم فإنها تنظر إلى نفسها باعتبارها سلعة معروضة على الملأ. تجد نسوة منشغلاتيوميًّا بالإعلان عن حضورهن الجسماني في أوضاع جديدة على الدوام، ويلحقن بالفيديوهات التي يقمن بإذاعتها موسيقى أو أغنيات رائجة لإضافة المزيد من التأثير على صورتهن! نعم قد يكون هذا مثيرًا ويلقى إعجابًا من المشاهدين أو المتصفحين لعالم الفيس بوك، ولكن هذا التأثير يظل وقتيًّا عابرًا؛ فهو لا يخلق سوى مجرد رغبة في التعارف لدى البعض من المعجبين، أي حالة من الحضور غير الأصيل أو التحقق الزائف، أعني أنه لن يكون وجودًا حقيقيًّا.وبطبيعة الحال، فإنني لا أقصد من وراء ذلك إلى القول بأن عالم الفيس بوك ينبغي أن يظل جادًا أو متجهمًا على الدوام، بل إنه ينطوي في أحيان كثيرة على مشهد أو صورة أو طرفة يمكن أن تبعث البهجة في النفوس؛ ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق من خلال الحضور الجسماني بإلحاح لامرأة تستعرض مفاتن جسدها أو ما تظنه مفاتنَ حقيقية.
المشكلة الأكثر خطورة تتجاوز أحوال تلك النسوة في عالم الفيس بوك؛ لأنها تمتد إلى حال أشباه المثقفين- أو المحسوبين على الفكر والثقافة- ممن يظنون أن تواجدهم اليومي بإلحاح في هذا العالم يمكن أن يضمن لهم وجودًا حقيقيًّا في عالم الثقافة والإبداع. ولا شك في أن ما ينشره بعض المثقفين والمبدعين على الفيس بوك يكون مفيدًا في حالات كثيرة من قبيل: نشر نص إبداعي من تأليفهم، أو التنويه إلى نص إبداعي من تأليف غيرهم، أو إلى فاعلية ثقافية مهمة، أو إلى معلومة ثقافية أو فكرة أو عمل فني، وما شابه ذلك. ولكننا- للأسف- نجد أن كثيرًا من المثقفين يتواجدون يوميًّا على صفحات الفيس بوك من أجل التنويه إلى أشياء تافهة أو صغيرة؛ لمجرد الحرص على التواجد اليومي:
ينسى هؤلاء أن المفكرين والمبدعين العظام لم يكن لديهم أي من أدوات التواصل الاجتماعي الموجودة في عصرنا الآن، ومع ذلك فإن حضورهم كان وسيظل طاغيًا من خلال كتبهم وأعمالهم التي ستبقى على مر الزمان، والتي يتتبعها كل مثقف وطالب للمعرفة. وبدلًا من أن يكرس المثقف بعضًا من وقته لنشر مقال عن واحد من هؤلاء المبدعين أو لنشر مقال من إنتاجه الفكري لعل غيره ينتفع بذلك؛ بدلًا من ذلك تراه ينشر أخباره التافهة التي تخصه وحده، ولا تخدم المعرفة أو الثقافة، بل حتى لا تخدم فكرة التواصل الاجتماعي نفسها التي تسهم في تعرف الناس بعضهم على بعضهم وعلى ما هو مشترك بينهم، بما في ذلك أفكارهم وهواياتهم. وعلى سبيل المثال: تجد واحدًا ينشر خبر انضمامه إلى اللجنة الفلانية بهذا المجلس أو ذاك، وينشر القرار بتشكيل اللجنة الذي يضم اسمه، أو تجده ينشر قرار ترقيته الوظيفية في المؤسسة التي يعمل بها. وتجد شخصًا آخر ينشر خبر ابن عمه أو خاله اللذين لا يعرفهما أحد، لينال تعاطف الآخرين معه، بينما هو في حقيقة الأمر يستخدم وفاة القريب كوسيلة للحضور أو التواجد من خلال عالم الفيس بوك. أذكر هنا واقعة ربما تكون دالة على ما أريد الإفصاح عنه: فعندما تُوفيت والدة صديقي الفيلسوف محمود رجب (رحمه الله)، سألته عن مكان العزاء، فقال لي: لا مكان للعزاء؛ لأن هذا يعني إرهاق كثير من الناس ممن لا يعنيهم الأمر، وسوف يحضرون العزاء من باب المجاملة، فمن توفيت هي أمي وأنا الذي أعاني موتها حقًّا. كان محمود رجب- وهو الهيدجري على الأصالة- يعرف معنى الوجود ومعنى الموت باعتباره معاناة وقلق الموجود الحقيقي إزاء الموت.
ما أريد أن أخلص إليه في هذا المقال هو أن كل الحالات السابقةوأشباهها هي مجرد أمثلة على ظاهرة التواجد من خلال عالم الفيس بوك، والتواجد يختلف تمامًا عن الوجود الحقيقي؛ فهو يمكن أن يكفل للمرء شهرة أو حضورًا، ولكن حضوره هذا يظل حضورًا وقتيًّا عابرًا، سوف يتلاشى بمجرد توقف ما يدعم هذا الحضور؛ ولذلك فإن هذا الحضور يتوقف بمجرد ابتعاد هذا المرء عن المشهد أو بموته. ولكن الموجود الحقيقي لا يتوقف حضوره بابتعاده، وحتى الموت نفسه لا يكون قادرًا على إلغاء هذا الحضور. أما المرء الذي يسعى إلى التواجد الدائم في كل مكان وحين عبر عالم الفيس بوك، فهو يفتقر إلى الوجود الحقيقي أو الأصيل، بحيث يصدق عليه تعبير هيدجر عن الموجود الزائف باعتباره "الموجود في كل مكان دون أن يكون في أي مكان".
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی عالم یمکن أن من خلال
إقرأ أيضاً:
حكم صلاة الجماعة في مكان غير المسجد
أجابت دار الإفتاء المصرية، برئاسة الدكتور نظير عياد عن سؤال ورد لها من أحد المتابعين، عبر صفحتها الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي، جاء مضمونه كالتالي: ما الحكم في إقامة صلاة الجماعة في أي مكان خلاف المسجد حتى إن كان هناك بعد في المسافة، مع أنهم يسمعون الأذان من المسجد عن طريق مكبرات الصوت؟.
حكم صلاة الجماعة في مكان غير المسجد لبعد المسافةقالت دار الإفتاء المصرية إن المسجد ليس شرطًا في صحة الصلاة مطلقًا سواء كانت تؤدى فرادى أو جماعة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحَت وَصَلَّيْتُ» رواه أحمد.
وأوضحت دار الإفتاء أن العلماء اختلفوا في إقامة الجماعة في الصلاة المفروضة في البيت، مؤكدة الأصح أنها جائزة كإقامتها في المسجد، ومن ثم تصح الجماعة في الفروض في أي مكان طاهر غير المسجد ولو كان أهل هذه الجماعة يسمعون الأذان من المسجد سواء عن طريق مكبرات للصوت أو بدونه.
وأضات الإفتاء، قائلة: ولكن الأولى هو تلبية هذا النداء وإقامة الجماعة في المسجد؛ لما في ذلك من تكثير جمع المصلين وتعمير المساجد بكثرة روادها والمصلين فيها.
حكم صلاة ركعتين جماعة بعد العشاء
وأوضحت دار الإفتاء المصرية حكم صلاة ركعتين جماعة بعد صلاة العشاء، مشيرة إلى أنه أمرٌ جائزٌ لا كراهة فيه، بشرط ألَّا يكون ذلك على جهة الإلزام، فإن كان على سبيل إلزام الغير وتأثيم من لم يشاركهم فيها فإن ذلك العمل يصبح بدعة مذمومة؛ لأن فيه إيجابًا لما لم يوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأضافت الإفتاء قائلة: من المقرر شرعًا أن كل ما لا تُسَنُّ فيه الجماعة -لمواظبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعله فرادى- يجوز فعله جماعة بلا كراهة؛ لاقتداء ابن عباس رضي الله عنهما بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التهجد في بيت خالته أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها. متفق عليه.
وتابعت:وكذلك صلى خلفه صلى الله عليه وآله وسلم ابن مسعود رضي الله عنه وغيره قيام الليل، والمعلوم أنه لا تُسَنُّ فيه الجماعة إلا في رمضان، ولكنها جائزة كما سبق.
وأكملت: فإذا اجتمع قوم في يوم معين لصلاة التهجد جماعة فإن ذلك جائز ولا بأس به ما لم يكن على سبيل الإيجاب، فإن كان ذلك على سبيل الإيجاب فإنه يدخل في نطاق البدعة المذمومة بإيجاب ما لم يوجبه الشرع، ولذلك لما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة في المسجد وصلى رجال بصلاته وتكرر ذلك لم يخرج إليهم صلى الله عليه وآله وسلم في المرة الرابعة، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجزُوا عَنْهَا» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا" وكان عبد الله رضي الله عنه يفعله.