شبكات تضليل معقدة.. الصين تطور أدواتها لضرب الانتخابات الأميركية
تاريخ النشر: 4th, September 2024 GMT
عندما ظهر "هارلان" لأول مرة على منصات التواصل الاجتماعي، قدم نفسه على أنه محارب قديم في الجيش الأميركي، من سكان نيويورك، وداعم للمرشح الرئاسي الجمهوري، دونالد ترامب، وعرض صورة ملف شخصي لشاب وسيم مبتسم يبلغ من العمر 29 عاما.
ولكن بعد بضعة أشهر، تغير هارلان فجأة، وهو الآن يدعي أنه يبلغ من العمر 31 عاما وأنه من فلوريدا.
هذا التحول لم يكن مجرد تغيير في العمر والموقع، بل كان جزءا من استراتيجية أعمق وأكثر تعقيدا، وفق تقرير لأسوشييتدبرس.
الأبحاث الجديدة حول شبكات التضليل الصينية التي تستهدف الناخبين الأميركيين كشفت أن شخصية "هارلان" كانت مزيفة تماما، مثل صورة ملفه الشخصي، التي يعتقد المحللون أنها أُنشئت بواسطة الذكاء الاصطناعي.
وبينما يستعد الناخبون الأميركيون للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات المقبلة، كانت الصين تعمل على بناء شبكة من الحسابات المزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، مصممة لتبدو وكأنها أصوات أميركية حقيقية.
"هارلان" هو مجرد عنصر صغير في جهد أكبر يبذله خصوم الولايات المتحدة للتلاعب بالنقاش السياسي الأميركي وإفساده من خلال استغلال الانقسامات وزرع الفوضى.
هذه الجهود ليست مجرد عمليات تأثير بسيطة، بل هي حملات محكمة ومنسقة تعتمد على استخدام تكنولوجيا متقدمة وشبكات من الحسابات المزيفة التي تعمل بتناغم لخدمة أهداف مشتركة.
إليز توماس، المحللة البارزة في معهد الحوار الاستراتيجي، وصفت هذه الظاهرة بأنها غير مسبوقة، مشيرة إلى أن الصين "تتبنى الآن نهجا أكثر دقة وتطورا في عملياتها التضليلية مقارنة بما سبق".
وتضيف أن الصين "لم تعد تعتمد على الرسائل المباشرة باللغة الصينية فقط، بل أصبحت تتخفى وراء شخصيات أميركية مفترضة تتحدث الإنكليزية بطلاقة، وتتبنى مواقف سياسية متباينة".
"سباموفلاج".. الحملة الأكثر تأثيراهذه التحركات التي تقف الصين وراءها جزء من حملة "سباموفلاج" التي ظهرت لأول مرة في 2019، وركزت في بدايتها على نشر محتوى مؤيد لبكين ومعاد للغرب، باللغة الصينية.
ولكن خلال السنوات الأخيرة، تحولت "سباموفلاج" في أنشطتها إلى استهداف الأميركيين مباشرة، عبر "محاولة زرع الشكوك" حول الإدارة الأميركية، والديمقراطية الأميركية، وفق تقرير جديد لمؤسسة Graphika.
ومنذ عام 2019، تتبعت مؤسسة Graphika حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تحمل رموزا وطنية، مثل علم أميركا، وأسماء أميركيين يقدمون أنفسهم على أنهم ناخبون وناشطون.
وكشف تقرير للمؤسسة، صدر الثلاثاء، بأن هذه الحسابات تتبع لحملة "سباموفلاج"، الأكثر تأثيرا، والتي ترتبط بالحكومة الصينية، وتتنكر في صورة ناخبين أميركيين لترويج روايات تهدف إلى تعميق الانقسام بين الأميركيين.
وGraphika هي مؤسسة أميركية متخصصة في مجالات الثقة والأمان، واستخبارات التهديدات السيبرانية، والاتصالات الاستراتيجية عبر صناعات تشمل الاستخبارات والتكنولوجيا والإعلام والترفيه، والمصارف العالمية.
ويكشف تقرير المؤسسة أن حملة "سباموفلاج" تستخدم أكثر من 40 منصة إلكترونية، وحسابات غير أصلية لنشر وتضخيم الفيديوهات والرسوم الكاريكاتورية التي تروج لروايات مؤيدة للصين ومعادية للغرب.
الانتخابات الأميركية هدف لحملة "سباموفلاج"حملة "سباموفلاج" الصينية تعمل منذ سنوات على نشر المعلومات المضللة، لكن تغيرا طرأ على استراتيجيتها مؤخرا، لتتوجه سهامها تجاه الانتخابات الأميركية #الحرة #الحقيقة_أولا #شاهد_الحرة
Posted by Alhurra on Friday, April 26, 2024وتؤكد التقييمات التي أجرتها "سباموفلاج" بناء على مؤشرات المصادر المفتوحة والشركاء في الصناعة أن هذه الأنشطة مرتبطة بشكل وثيق بالدولة الصينية.
وكشف التقرير أن 15 حسابا على منصة أكس، وحسابا واحدا على منصة تيك توك، تتبع لحملة "سباموفلاج"، وتدعي تلك الحسابات أنها تخص مواطنين أميركيين أو مدافعين عن حقوق الإنسان، ولكنها في الحقيقة جزء من الحملة.
في البداية، كانت "سباموفلاج" تركز على موضوعات جيوسياسية عامة، إلا أنها سرعان ما بدأت في توسيع نطاق الموضوعات التي تتناولها.
شمل هذا التوسع تناول القضايا الداخلية الأميركية، مما جعل الحملة أكثر تأثيرا على الرأي العام الأميركي.
وعلى سبيل المثال، بدأت الحملة في مناقشة قضايا مثل امتلاك الأسلحة، والتشرد، وتعاطي المخدرات، وعدم المساواة العرقية، بالإضافة إلى حرب غزة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
واللافت أنه منذ منتصف عام 2023، بدأت "سباموفلاج" في استخدام شخصيات وهمية على أساس أنهم مواطنون أميركيون أو ناشطون في مجال حقوق الإنسان والسلام.
وصممت هذه الشخصيات لتبدو وكأنها جزء من المجتمع الأميركي، للمساعدة في زيادة مصداقيتها وتأثيرها.
واستخدمت هذه الشخصيات صور الأعلام الأميركية والجنود في ملفات التعريف الخاصة بهم على هذه الحسابات، وأكدت في منشوراتها أنها لن تصوت للرئيس بايدن في الانتخابات القادمة.
ومع اقتراب موعد الاقتراع في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، بدأت "سباموفلاج" في التركيز بشكل أكبر على النقاشات الانتخابية الأميركية. خاصة مع احتدام المنافسة بين المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ومنافسته الديمقراطية، كمالا هاريس.
وكانت الحملة قد بدأت مبكرا في نشر محتوى يركز على انتقاد الرئيس الأميركي، جو بايدن، (قبل أن ينسحب من السباق الرئاسي)، والمرشح الجمهوري ترامب، ويشكك هذا المحتوى في شرعية العملية الانتخابية.
وصمم هذا المحتوى لإثارة الشكوك وزرع الفوضى بين الناخبين الأميركيين لتقويض الثقة في النظام الديمقراطي.
ومن بين التطورات الرئيسية التي شهدتها تكتيكات "سباموفلاج" هو استخدامها لتقنيات الذكاء الاصطناعي في إنتاج المحتوى.
واستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء شخصيات وهمية أكثر واقعية، وإنتاج محتوى بشكل أسرع وأكثر كفاءة.
ولم يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة المحتوى الذي تنتجه الحملة فقط، بل أيضا في زيادة نطاق انتشاره عبر شبكات التواصل الاجتماعي وفضاء الإنترنت.
التأثير على الرأي العاملم تقتصر "سباموفلاج" على استخدام منصة واحدة لنشر محتواها، بل عملت الحملة على التنسيق بين عدة منصات تواصل اجتماعي لنشر رسائلها.
وعلى سبيل المثال، استخدمت منصات أكس وتيك توك لنشر محتوى مشابه في توقيتات متزامنة، مما زاد من فعالية الحملة في الوصول إلى جمهور واسع.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها حملة "سباموفلاج" للتأثير على النقاشات الانتخابية الأميركية، لم تتمكن العديد من الحسابات المرتبطة من تحقيق تفاعل كبير في المجتمع الأميركي.
ولكن كان هناك استثناء واحد، إذ نجح أحد الحسابات المزيفة على تيك توك في نشر مقطع فيديو حصل على 1.5 مليون مشاهدة. وهذا النجاح يعكس التحدي الكبير الذي تواجهه الولايات المتحدة في مواجهة هذه الأنشطة التضليلية.
وفي مبادرة تتبع أخرى، حددت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD) 170 صفحة وحسابا مزيفا على فيسبوك، كانت تروج لرسائل معادية لأميركا، بما في ذلك هجمات موجهة ضد الرئيس، جو بايدن. وكانت "سباموفلاج" منخرطة بقوة في هذه الأنشطة.
وتعرف مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، في تقرير، حملة "سباموفلاج" بأنها إحدى أبرز الحملات الرقمية الصينية التي تهدف إلى نشر رسائل سياسية معادية للولايات المتحدة عبر منصات مثل فيسبوك.
ورغم جهود المنصات المختلفة للحد من هذه الأنشطة، استمرت الحملة في التكيف والتطور، مما يجعل من الصعب تتبعها أو إيقافها بشكل كامل.
وتقول المؤسسة إنه رغم محاولات شركات التكنولوجيا لتحديد وإيقاف هذه الحسابات، يمثل تعقيد تكتيكات "سباموفلاج" تحديا كبيرا.
وتتطلب هذه العمليات مستوى عاليا من التنسيق والتخطيط، مما يزيد من صعوبة اكتشافها ومنع تأثيرها.
ويؤكد تقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات على أهمية التعاون بين الشركات والمؤسسات الحكومية لمكافحة هذه الحملات.
ويتطلب التصدي لمثل هذه التهديدات الرقمية، أيضا، تكاملا بين التكنولوجيا المتقدمة والإجراءات القانونية والسياسات العامة.
"حنكة وتطور"وتمكنت هذه الحسابات من جذب انتباه المستخدمين الحقيقيين، مما جعل من الصعب على الباحثين التعرف عليها بسرعة مقارنة بالمحاولات السابقة.
ونشاط "هارلان" وحسابات أخرى مشابهة أثار القلق داخل الولايات المتحدة، حيث أفاد مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، في فبراير، إلى أن الصين تسعى لتوسيع حملات نفوذها بهدف تقويض الديمقراطية الأميركية وتعزيز نفوذها الخاص.
وعلى الرغم من تصريحات المتحدث باسم السفارة الصينية في واشنطن بأن الصين لا تتدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، تشير الأدلة المتزايدة إلى عكس ذلك.
المحللة البارزة في معهد الحوار الاستراتيجي، إليز توماس، أشارت إلى أن النهج الجديد الذي تتبعه الصين يشير إلى "درجة عالية من الحنكة والتطور"، إذ أصبحت هذه الحسابات "أكثر إقناعا في انتحال شخصيات أميركية حقيقية ودعم مواقف سياسية متناقضة".
هذه الحملات لا تسعى فقط لتأييد مرشح على حساب آخر، بل تهدف بشكل أساسي إلى "إضعاف الثقة" في النظام الديمقراطي الأميركي، وفق الخبراء.
وأثبتت التحقيقات التي تجريها الجهات الأميركية المعنية بتتبع حملات المعلومات المضللة أن الصين "لم تتخل عن هدفها الاستراتيجي في تصوير الولايات المتحدة على أنها دولة غارقة في الفوضى والانقسامات".
وتظهر قصة "هارلان" كيف يمكن لعمليات التضليل أن "تتحول إلى أدوات قوية لتقويض الديمقراطيات"، وفق أسوشييتدبرس.
وبينما تواصل الصين بناء شبكاتها المعقدة من الحسابات المزيفة، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية حماية العملية الانتخابية الأميركية في نوفمبر المقبل من هذه التهديدات الخفية، والتي قد تغذي أي خلافات أو انقسامات قد تظهر بعد إعلان المرشح الفائز برئاسة أميركا.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الانتخابات الأمیرکیة التواصل الاجتماعی الحسابات المزیفة الذکاء الاصطناعی الولایات المتحدة بین الأمیرکیین فی الانتخابات هذه الحسابات هذه الأنشطة من الحسابات أن الصین جزء من
إقرأ أيضاً:
الأمن الأردني بمواجهة التحديات.. قراءة في عملية تفكيك شبكات العنف الاخواني
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لم تكن التفاصيل التي كشفت عنها الحكومة الأردنية مؤخرًا، بشأن إحباط سلسلة من المخططات التخريبية، مجرد أخبار أمنية عابرة. بل جاءت كجرس إنذار ثقيل يوقظ مخاوف دفينة عن عودة "الخلايا النائمة"، ويعيد طرح تساؤلات قديمة-جديدة حول حدود المشروع الإسلامي السياسي، وما إذا كانت تياراته –حتى تلك التي تدّعي السلمية– قد تخلّت فعلًا عن نزعتها الانقلابية.
البيانات الرسمية الأردنية، سواء من دائرة المخابرات العامة أو الناطق باسم الحكومة محمد المومني، كشفت عن خلية معقدة التركيب، متعددة القضايا، تمتد جذورها منذ 2021، وتورّط فيها 16 شخصًا على الأقل. أخطر ما كُشف هو العمل على تصنيع صواريخ قصيرة المدى (3-5 كم)، وتجهيز طائرات مسيّرة، وتجميع مواد شديدة الانفجار، وتجنيد أفراد لخوض تدريبات أمنية خارجية، بعضها جرى على الأراضي اللبنانية بدعم خارجي. ورغم نفي جماعة الإخوان المسلمين الأردنية –التي حُلّت قضائيًا في 2020– لأي صلة بهذه الأعمال، فإن الاعترافات والتقارير الأمنية تشير إلى انتماءات فكرية وتنظيمية واضحة لبعض المتهمين للجماعة أو "أُسرها" التنظيمية.
الخطر الأمني لا ينبت من فراغ
لا يمكن التعامل مع محاولة تسليح مجموعات غير نظامية داخل دولة مستقرة مثل الأردن بوصفها حوادث فردية أو مغامرات منفلتة. فهذه المحاولات، بطبيعتها وتوقيتها، تمثل تهديدًا مباشرًا للبنية الأمنية والسياسية في المملكة، وتهدد بتحويل المشهد الداخلي إلى حالة شبيهة بالسيناريو اللبناني، حيث تتعايش الدولة مع كيانات مسلّحة خارجة عن سلطتها. التوازن الحساس الذي يميز الداخل الأردني –والقائم على مركزية القرار الأمني والسياسي– لا يحتمل دخول لاعبين جدد يمتلكون السلاح، مهما كانت شعاراتهم.
الخطورة تكمن كذلك في نوعية المواد التي جرى ضبطها بحوزة الخلايا، والتي شملت مواد شديدة الانفجار مثل TNT وC4 وSemtex-H. هذه ليست أدوات بدائية يمكن الحصول عليها من السوق السوداء المحلية، بل تحتاج إلى خبرات فنية عالية وشبكات تهريب منظمة تتجاوز الحدود الأردنية. كما أن عمليات تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة تدل على أن الهدف لم يكن مجرد تخزين للأسلحة، بل إقامة بنية تحتية مستقلة للتصنيع، وهذا مؤشر على مشروع عسكري مبيت وليس مجرد عمل تخريبي معزول.
شخصيات تنظيمية
ما يضاعف القلق هو ورود معلومات مؤكدة عن تلقي بعض العناصر تدريبات في لبنان، وقيامهم بزيارات للتواصل مع شخصيات تنظيمية هناك. هذا المعطى يفتح باب الشبهات حول وجود روابط لوجستية أو تنظيمية مع "حزب الله"، الذي يملك تاريخًا في دعم حركات مسلحة خارج الحدود، وهو ما يعزز المخاوف الأردنية من تسلل النفوذ الإيراني إلى الداخل عبر قنوات غير تقليدية. كما أن هذه التطورات تأتي بعد سلسلة من الحوادث التي أعلن الأردن فيها إحباط تهريب أسلحة ومخدرات عبر الحدود السورية، ما يرسم مشهدًا إقليميًا ملبدًا بالاختراقات الأمنية.
في ضوء هذه المعطيات، فإن الأردن لا يواجه فقط مجموعة مسلحة، بل يواجه مشروعًا عابرًا للحدود، يحمل أبعادًا أيديولوجية وتنظيمية، وربما طموحات تتجاوز الداخل الأردني. ومن هنا، فإن التعامل مع هذه القضية يجب أن يكون ليس فقط أمنيًا وقضائيًا، بل سياسيًا واستراتيجيًا، من خلال تحصين الجبهة الداخلية ومراقبة أذرع التأثير الإقليمي، وقطع الطريق على محاولات تحويل المملكة إلى ساحة مواجهة بالوكالة في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
الإخوان المسلمون: المعضلة المستمرة
في كل مرة تقع فيها حادثة أمنية ترتبط بأشخاص لهم صلة بجماعة الإخوان المسلمين، تعود الجماعة إلى واجهة المشهد السياسي والأمني، مُعلنة تمسكها بـ"الخط الوطني" و"النهج السلمي"، ومتبرئة من أي علاقة بالعنف أو التخطيط له. لكن هذه المواقف المعلنة، على الرغم من تكرارها، لم تنجح في تبديد الشكوك العميقة التي تُراكمت عبر السنوات في الوعي الجمعي الأردني. فمنذ تفجيرات فنادق عمان عام 2005، مرورًا بقضية الكرك عام 2016، وصولًا إلى أحدث القضايا التي أعلنت عنها المخابرات العامة، لا تزال الجماعة محاطة بشبهات عدم القدرة –أو عدم الرغبة– في الفصل الحاسم بين الدعوي والسياسي من جهة، وبين العسكري والتنظيمي من جهة أخرى.
المرونة الأيديولوجية
إن ما يزيد الموقف تعقيدًا هو ما يصفه مراقبون بـ"المرونة الأيديولوجية" لدى الجماعة الأم، وهي مرونة تجعل من تنظيم الإخوان مظلة واسعة قادرة على احتواء مشاريع متطرفة ضمن خطاب "المقاومة" و"نصرة الأمة". في هذا السياق، يصبح التبرؤ من الأفعال العنيفة التي يرتكبها أفراد محسوبون على الجماعة أو نشأوا في بيئتها التنظيمية، غير كافٍ. فالسؤال المشروع هنا لا يتعلق فقط بمسؤولية الجماعة عن الأفعال، بل أيضًا بدورها في إنتاج الذهنية التي تحتمل التحول لاحقًا نحو التسلح والعنف.
ومن هذا المنطلق، فإن بيان الجماعة الأخير، الذي تحدث عن "أعمال فردية لا علاقة لها بالتنظيم"، لا يعفيها من المسؤولية البنيوية عن تغذية بعض هذه المسارات. فإذا لم تكن هذه العمليات قد صدرت بقرار مركزي، فهل تملك القيادة فعلًا السيطرة على الأطر التنظيمية الداخلية، كالأسر والدوائر التربوية؟ وإذا لم تكن تعلم بنشاطات بعض المجموعات، فهل كانت تُغض الطرف عن تجاوزاتها؟ هذه الأسئلة تمس صميم الإشكال الهيكلي المزمن في التنظيم، الذي يعاني من تباين دائم بين الخطاب العلني السياسي، والخطاب الداخلي العقائدي الذي قد يُفرز توجهات أكثر تشددًا.
معضلة قديمة جديدة
في نهاية المطاف، تتكرر مع الإخوان معضلة قديمة جديدة: خطاب مزدوج يُظهر في العلن التزامًا بالديمقراطية والسلم، لكنه يُبقي على بنية مغلقة وتنظيم هرمي قابل للاختراق والتطرف من الداخل. وهذا التناقض، الذي لم يُعالَج تاريخيًا، يُبقي الجماعة في منطقة رمادية، تارة متهمة بالضلوع في عمليات مسلحة، وتارة ضحية لـ"أعمال فردية"، لكنها في كل الأحوال، لا تستطيع إقناع الدولة والمجتمع بأنها قد طوت صفحة العنف تمامًا، أو أنها باتت جزءًا طبيعيًا من النسيج السياسي الوطني.
ولا يمكن فهم مسارات الإخوان في الأردن نحو العنف، دون العودة إلى السياق الأوسع الذي تمثله الجماعة الأم في مصر، والتي تشكّل المرجعية الأيديولوجية والتنظيمية لمعظم فروع الإخوان في المنطقة. فالتاريخ القريب شهد تصعيدًا واضحًا في خطاب الجماعة الأم بعد الإطاحة بحكمها في مصر عام 2013، حيث عاد الخطاب إلى نغمة "التمكين بالقوة" و"الشرعية المغتصبة"، مع رواج مفاهيم مثل "القصاص" و"الرد على الظلم" و"استرداد الحكم"، وهي مفاهيم وفّرت أرضية خصبة لميلاد تنظيمات أكثر تشددًا خرجت من عباءة الإخوان، مثل "حسم" و"لواء الثورة" في مصر، والتي تبنّت عمليات اغتيال وتفجير ضد رجال أمن وسياسة.
التجربة المصرية
هذه التجربة المصرية ألقت بظلالها على فروع الجماعة في المنطقة، ومنها الأردن، حيث لم تكن البيئة التنظيمية الإخوانية بمنأى عن التأثر. فالتواصل بين كوادر الفروع، والمشاركة في المؤتمرات والمنتديات التربوية المشتركة، والعلاقات العابرة للحدود بين القيادات، كلها عوامل ساهمت في نقل المزاج المتوتر والمشحون بعد 2013 إلى قواعد الجماعة في الخارج. ومع تزايد التضييق السياسي على التنظيم، وتآكل شعبيته المجتمعية، ظهرت بوادر انقسام داخلي بين من يرى ضرورة مراجعة فكرية، وبين من يتجه نحو التصلب العقائدي أو حتى تبني العنف بوصفه "خيار الضرورة"، وهو ما يفسر وجود خلايا منفلتة أو شبكات تنشط في الظل، تستند إلى خلفية تنظيمية إخوانية ولكنها تتجاوز الخطاب العلني للجماعة.
مشروع بلا بوصلة
تواجه الجماعات الإسلامية، لا سيما بعد صدمة ما بعد "الربيع العربي"، مأزقًا وجوديًا يتمثل في غياب المشروع السياسي الناضج والقابل للتطبيق ضمن أطر الدولة الوطنية الحديثة. فبعد أن فشلت بعض هذه الجماعات في اختبار الحكم أو عجزت عن التكيف مع آليات العمل الديمقراطي، وجدت نفسها أمام خيارين: إما التحلل والانكفاء، أو البحث عن بدائل أكثر صدامية. وفي كثير من الحالات، فضّل بعض المنتسبين اللجوء إلى خيار "التعبئة الصامتة"، التي قد لا تتجسد فورًا في العنف، لكنها تمهد له نفسيًا وتنظيميًا.
هذا السياق يجعل من التسلح –حتى وإن لم يُستخدم ميدانيًا– فعلًا سياسيًا رمزيًا، يُعبر عن الرفض والاحتجاج على الواقع القائم، ويُخزّن كأداة جاهزة "للرد" إذا ما سمحت الظروف. وفي الحالة الأردنية، يبدو أن بعض الموقوفين تورطوا في تأسيس بنية تحتية أولية لمشروع عنفي، رغم غياب الأهداف المباشرة أو المؤشرات الواضحة على نية تنفيذ هجوم قريب. هذه المراوحة بين الجاهزية والانكفاء تكشف عن أزمة بوصلة: فالفعل التحضيري قائم، لكن الوجهة غائبة.
تصور سياسيً أو عقائدي
اللافت في تفاصيل القضية أن المتهمين، رغم القدرات التنظيمية والتقنية الظاهرة في تصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة، لم يكونوا يملكون تصورًا سياسيًا أو عقائديًا ناضجًا يبرر هذا النشاط. لم تظهر في اعترافاتهم إشارات إلى أهداف استراتيجية، أو تصورات حول "اليوم التالي" لتفعيل هذا السلاح. الأمر بدا أقرب إلى تمرين في التمكين التنظيمي والبنية التحتية، وليس إلى عملية مدروسة بأبعاد سياسية أو أيديولوجية مكتملة.
هذه الحالة تفتح الباب أمام احتمال خطير: أن يكون المشروع الحقيقي لا يزال في طور الإعداد، أو أنه مرتهن لإشارة خارجية أو تغير إقليمي كبير. فغياب الأهداف لا يعني غياب النية، بل ربما يشير إلى انتظار الفرصة المناسبة. وهنا تكمن خطورة هذا النوع من "العنف المؤجل" الذي لا يندرج تحت إطار الإرهاب التقليدي، بل يتخفى وراء شبكة علاقات تنظيمية محلية وخارجية، بانتظار اللحظة التي يُعاد فيها تشغيله لخدمة مشروع أكبر، لا يتحكم به الفاعلون المحليون وحدهم.
دلالات العملية الأمنية الأخيرة في الأردن وأهميتها:
أولًا، تكشف العملية عن مستوى عالٍ من اليقظة الاستخبارية الأردنية، خاصة أن المتابعة بدأت منذ عام 2021، ما يدل على تراكم معلوماتي ورصد طويل الأمد لتحركات الخلايا ومخططاتها. هذا لا يعبّر فقط عن كفاءة تقنية، بل عن إدراك استراتيجي لخطورة "العمل البطيء تحت الأرض" الذي تتبناه بعض الجماعات، حيث لا يعتمدون على الهجوم المباشر بل على بناء البنية التحتية والتغلغل التدريجي. وهنا، تكمن أهمية التوقيت في كشف الشبكات قبل أن تنتقل من مرحلة التجهيز إلى التنفيذ.
ثانيًا، تفتح العملية الباب واسعًا أمام مراجعة العلاقة بين بعض الخطابات الإسلامية التقليدية، وبين تحولات بعض العناصر نحو العنف. فبينما تنفي القيادات المركزية –كما هو حال جماعة الإخوان المسلمين– أي صلة بالمخططات، إلا أن تكرار انخراط أفراد "متأثرين" أو "منتمين سابقًا" يطرح علامات استفهام حول فعالية الرقابة الداخلية للجماعة، ومدى قدرتها على احتواء أو عزل الأجنحة الأكثر تشددًا. وهو ما يعيد الجدل القديم الجديد حول التماهي أو التحول التدريجي من الفكر إلى الفعل العنفي.
ثالثًا، تشير هذه العملية إلى وجود بعد إقليمي في التهديدات التي يواجهها الأردن، خاصة مع ورود إشارات إلى تدريب في لبنان، ونقل أموال ومعدات عبر الحدود. هذه المعطيات تؤكد أن الأردن ليس فقط ساحة مستهدفة، بل هو أيضًا في قلب معادلات التنافس الإقليمي، خصوصًا بين قوى تصدّر خطاب "المقاومة" وتبحث عن موطئ قدم في الجوار. وبذلك، فإن أمنه الداخلي أصبح مرتبطًا بتوازنات معقدة تتجاوز حدوده الجغرافية.
وأخيرًا، فإن هذه القضية تضع الدولة الأردنية أمام تحدٍ مزدوج: أمني وتنظيمي. فهي مطالبة من جهة بتعزيز سيطرتها على الفضاء الداخلي وضبط أي مساحات رخوة يمكن أن تنشأ فيها مثل هذه الخلايا، ومن جهة أخرى بالانفتاح على نقاش وطني حول طبيعة بعض الجماعات الأيديولوجية التي ما تزال تنشط تحت شعارات سلمية لكنها تحوي في طياتها بذور التشدد. وهذا يتطلب استراتيجيات لا تكتفي بالمعالجة الأمنية، بل تتجه نحو تفكيك البُنى الثقافية والتنظيمية التي تسمح بمثل هذا التسلل الخطر.
خاتمة: درس أردني للمنطقة
في نهاية المطاف، يظل الأردن مثالًا حيًا على أهمية وجود منظومة استخباراتية قوية قادرة على متابعة التهديدات الأمنية قبل أن تتحول إلى عمليات مؤذية. إن النجاح في تفكيك هذه الشبكات قبل تنفيذ مخططاتها ليس فقط دليلاً على احترافية الأجهزة الأمنية، بل يعكس أيضًا أن الأردن يمتلك رؤية استشرافية للتحديات التي قد تطرأ في المستقبل. ومع ذلك، تبقى هذه العملية مجرد خطوة في مسار طويل يتطلب تكاملًا بين العمل الأمني والجهود السياسية والاجتماعية المستدامة. فالاكتفاء فقط بالتركيز على الجوانب الأمنية دون معالجة جذور التهديدات قد يؤدي إلى عودة هذا النوع من المخططات في شكل آخر، وقد يعزز من حالة الاستقطاب والتطرف.
المطلوب من الدولة الأردنية، وأيضًا من الدول المجاورة، أن تدرس بعناية الدلالات التي تحملها هذه القضية، لأن المخاطر التي تهدد الأمن الوطني لا تتعلق فقط بالأعمال العدائية المباشرة، بل بما يمكن أن يترسخ في المجتمع من شعور بالحرمان والاغتراب. إذا كانت هناك شبكة خارجية تمد الجماعات بالأموال والتدريبات، فإن هذا يشير إلى أن هناك خللاً ما في مناهج التنمية والتوجيه الداخلي. وهذا يتطلب، بشكل عاجل، مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تستهدف فئة الشباب، الذين قد يُستغلون بسهولة من قبل هذه الجماعات.
ورغم أن الجماعات الإسلامية قد ترفض الربط بينها وبين هذه القضايا، فإنها تتحمل مسؤولية كبيرة في فحص خطابها التنظيمي والمراجعة الجذرية لآليات عملها. يجب أن تكون هناك وقفة جادة من داخل هذه الجماعات لإعادة تقييم مواقفها من العنف والتسلح، لا سيما في ظل محاولات البعض لاستغلال الفراغات السياسية والاجتماعية لتحقيق أهداف قد تكون بعيدة عن المشروع السلمي. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تتطلب تطهير خطاب الجماعات من أي تبريرات للعنف أو التحريض على التطرف، والاعتراف بأن التغيير الفعلي لا يتحقق عبر العنف، بل عبر العمل السياسي الشرعي والناضج.
أخيرًا، إن ما تحتاجه المنطقة، وخاصة الأردن، هو نوع من النضج السياسي الذي يتجاوز الشعارات والتكتيك المؤقت. المشروع السياسي الذي يفتقر إلى شفافية المسؤولية والالتزام بالمواطنة المتساوية لا يمكنه أن يستمر في العيش على أطراف الأنظمة السياسية. كما أن ممارسة السياسة تحتاج إلى التزام جاد بالقيم الوطنية، والتي لا يمكن أن تتوافق مع أي استثمار في الجهل أو في الألعاب السياسية المزدوجة. ولذلك، فإن المراجعة الجادة من داخل هذه الجماعات تعد خطوة أساسية نحو بناء مشروع سياسي بديل قائم على المبادئ الوطنية والسلمية، والذي يراعي مصلحة المجتمع بأسره.