لم تكن لنا في أواخر السبعينيّات ونحن أطفالٌ صغارٌ وسائل لمشاهدة الأفلام شبه الحديثة سوى قاعات السينما بكلّ عِلاّتها، وكراسيها المدمّرة، وشاشة العرض العملاقة التي تعكسُ أشرطةً تعرضها آلةٌ بالية، كثيرًا ما تُمسك شريط الفيلم، ونبقى دقائق طويلة في انتظار موظّف العرض حتّى يستخرج البكرة من الآلة ويرمّمها ويعيدها للعرْض، إضافةً إلى الخربشات الدائمة الظاهرة على حائط العرض، في تلك الفترة أثَّر فينا فيلم، صنع جانبًا مهمًّا من طفولتنا، للمخرج مصطفى العقّاد، وهو الأكثر أثرًا وفعلاً، وهو فيلم الرّسالة.
فيلم الرِّسالة عُرِض علينا في آخر السبعينيّات، في عالمي الصّغير، في مدينة القيروان، في فضاءٍ تَكثُر فيه التسليّة واللّعب والنّوادي والأنشطة، في شكْلها المُباشر. السبعينيّات كانت فترة تكوينٍ مهاريٍّ حقيقيٍّ لبلادٍ تُعوّل على طاقة أبنائها، لها خُطَّة في صناعةِ جيلٍ مُتوازن، ثقافيًّا وعلميًّا وجسديًّا. عُرِض علينا في تلك الفترة فيلم الرّسالة، وبطبيعة الحال لم يكن مسموحًا لطفلٍ في الابتدائيّ أن يدخل قاعة السينما، أولياؤنا كانوا يرفضون ذلك؛ لأنّ قاعة السينما كانت مرتبطة بشبهات أخلاقيّة، وبعرْضِ أفلامٍ هنديّة وغربيّة فيها ما يمسُّ ويخدش الحياء، ولذلك كان علينا أن نستتر، وأن نجد أوّلا أعذار غيابٍ وأن نُوجِد ثانيًا مبلَغا من المال لاقتطاع تذكرة الدخول إلى السينما، وبعد أن نتجاوز كلّ هذه العقبات، كان علينا أن نُحسن الانفلات من القيّم على قاعة السينما وأن نرشوه ببعضِ المليمات حتّى يسمح لنا بالدّخول، لنجد البهجة المُطْلقة في الشاشة العملاقة، ولعلّي أتذكّر اليوم مصطلحين انقرضا من الاستخدام، وكانا شائعين بشكل كبير، وهما الشاشة الصغيرة والشاشة الكبيرة، تمييزًا للتلفاز من السينما، كنَّا ندخل القاعة، ونشعر أنّ الرّصاص سيصيبنا، وأن الحصان يتجوّل داخل القاعة، كان شعورًا رائقًا، رائعًا، وكوَّة مؤثِّرة في رؤية عوالم أخرى، تتجسَّد أمامنا حيّةً حييَّة.
فيلم الرّسالة، كان مختلف التأثير، تفاعلنا معه، وعشْنا كلّ لحظةٍ فيه، كرهنا «وحشيّ»، الشخصيّة التي أدّاها الليبي علي سالم قدارة، وكما هو معلوم، فهو ليس ممثِّلا، ولم يكن ممثّلا، وإنّما كان كهربائيًّا في الفندق الذي نزل فيه المُخرج مصطفى العقّاد، ولمّا رآه عرف أنّه الوحيد الذي يصلح لتأدية دور وحشيّ، وهنا يُمكن أن نتحدّث بإطْنابٍ عن عين للمُخرج الفذّ، يبدو أنّنا بدأنا نفقدها، اختيار مصطفى العقّاد صائبٌ جدّا، فلسنا نحن فحسب الذين كرهنا الشخصيَّة والشخص، بل يروي الممثّل علي سالم قدارة أنّ أمّه لمّا شاهدت فيلم الرّسالة طردته من البيت لأنّه قَتل حمزة بن عبدالمطلّب، كرهنا منى واصف وهي تؤدّي دور هند بنت عتبة، ونقمنا على أبي لهبٍ الدّور الذي أدّاه الممثّل أحمد أباظة، لتعرُّضه للرسول -عليه الصّلاة والسّلام- بالإساءة والتعذيب والحصار، ولكن ما أتذكّره ويُضحكني هو ما كنّا نقوم به في قاعة العرض خلال عرض مشاهد الحروب والتصفيق الحارّ عندما ينتصر المسلمون، والصّراخ العالي بتشجيع المُحاربين، والتحسّر حدّ البُكاء عند خسارة المعارك، ولعلّ جيلي يتذكّر عبارات من نوع الصّراخ داخل قاعات السينما تحذيرًا لحمزة من رمح وحشيّ، أو تحذيرًا للفرقة التي وضعها الرّسول في مرتفعٍ وأمرها ألّا تتحرّك وأن تحمي ظهور المقاتلين مهما حدث، فكانت القاعة تضجّ بالصّراخ على المحاربين المُسلمين الذي فارقوا أماكنهم، أن ظلّوا هناك، لا تنزلوا، خالد بن الوليد سينقضُّ عليكم. لماذا أروي هذا الآن؟ ليس ما أرويه من قبيل الحنين لزمنٍ ولّى وانقَضى، وإنّما تذكّرتُ ذلك في حالة الهياج والاندفاع والتصارخ حول فيلم «حياة الماعز» الذي أثار جدلاً ونقاشًا، روَّج للفيلم وجعله على قائمة الأفلام الأولى مشاهدةً في الوطن العربيّ، وفي الخليج تحديدا، فهل أنّ السينما لها القُدرة الفعليّة على أن تفعل في حياتنا كلّ هذا الفعل؟ أفهم ما كُنَّا فيه في السبعينيّات، فقد كنَّا ننعم بحياةٍ ثقافيّة محليَّة، تندرُ فيها المعلومة، ويقلّ فيها الانفتاح على الكون، أمّا الآن، فإنّ وابلًا وسيولًا من المعلومات مطروحة على قارعة صفحات الويب، فلا سبيلَ أن يظْهَر فيلمٌ جديدٌ دون أن يعلمه الشغوف بالسينما، وفي حين كنَّا ننتظر أسابيع وأشهرًا أحيانًا لتصلنا مجلّة عالميّة في السينما نتشارك في اشترائها، لنطّلع على حديث الأفلام.
تتيسّر المعلومة اليوم على صفحات التواصل الاجتماعي دون طلبٍ أحيانًا، ولذلك، فحين صفّقنا لانتصار المسلمين في فيلم الرّسالة، وعندما بكينا لموت حمزة كُنَّا تحت تأثير النُدرة والفقد وقلّة المشاهدة، ولكن الأهمّ من كل ذلك، كنّا لأوّل مرّة نرى هويّتنا وديننا وقيمنا وبدْء الرسالة المحمديّة، كُنّا نشاهِد ما كان يُرْوى لنا حول تعذيب قريش للمسلمين، وكُنّا نرى عمّار بن ياسر يئنُّ تحت صخرةٍ على صدره وأمّه تُقتَل أمامه، كُنّا نرى معنى الآية الكريمة التي لم نكن نفهمها «تبّت يدا أبي لهب»، رأينا بشاعة أبي لهب. اليوم ما زال للسينما نفس الوقْع الطفوليّ إذا ما تعلّق الأمر بالذّات، بالأنا، أمَّا «الآخر» فهو جحيمٌ وإلى الجحيم، ألم نعلَم أنّ للسينما هذا الأثر إلّا لمَّا مسّتنا في صميم سلوكنا، وما الذي يهزُّ عرشًا ثابتًا، إن كان ثابتًا، أو صُورةً جميلةً، إن كانت جميلة؟ ألم تُحيي أفلامٌ مُدنًا كانت نائمة، تغطُّ في سُبات دوغمائيّ، ألم تصنع تواريخ لمن لا تاريخ له، ألم نُشاهِد كلّنا فيلم «البيانيست» وتألّمنا لألمه الإنسانيّ؟
ماذا فعلنا نحن لنُحوّل آلامنا الحقّ إلى سينما، إلى فيلم حقيقيّ، فيه جهد وفعلٌ ونصّ. ماذا فعلنا لنؤرِّخ مدينة بفيلم؟ لنجعل حالةً في التّاريخ متقبَّلةً القبول الحسن عند شعوبٍ أخرى بواسطة السينما؟ يوم انفتحت السينما عندنا وفتحنا عليها خزائن الأموال، دحرجناها للسخريَّة الساذجة، ولأفلام في تايلند، الخليجي الذي يذهب إلى شرق آسيا ويتمتّع، وتكون له مواقف ساخرة، أو بالأحرى مُضحكة، ضحك البلاهة، لم تكن لدينا أبدا رؤيةٌ في السينما، ولا في المسرح، ولا في الموسيقى، ولكن تعلو أصواتنا، ونرجم «حبشيّ» ساعةَ نرى فيلمًا يخزُنا، موقفي من فيلمي العقّاد «الرسالة» و«عمر المختار» إيجابيٌّ جدًا، وموقفي من فيلم «حياة الماعز» سلبيٌّ جدًّا، ولي في أبعاده الأيديولوجية أقوالٌ، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
إلهام شاهين تشيد بتطور السينما في السعودية
أشادت الفنانة إلهام شاهين، عبر حسابها الرسمي بموقع تداول الصور والفيديوهات «إنستجرام»، بالتطور التكنولوجي في السينما بالمملكة العربية السعودية، مشيرة إلى المهرجانات وموسم الرياض والاستديوهات والتطور في الفن.
وشاركت إلهام شاهين، صورة عبر حسابها الرسمي على «إنستجرام» تجمعها بيسرا ونيللي كريم، معلقة عليها قائلة: «استوديوهات رائعة مجهزة على أعلى مستوى من التكنولوجيا، مبروك للمملكة العربية السعودية هذا التطور العظيم والسريع ثقافيا وفنيا، ونأمل أن نشاهد مستوى فني متميز جدا ينافس العالم كله من خلال ستوديوهات الحصن، وارتقاء بمستوى السينما العربية، مبروك وربنا يوفقكم، وكل التحية والاحترام لهيئة الترفيه بالمملكة العربية السعودية».
View this post on InstagramA post shared by Elham Shahin إلهام شاهين (@elhamshahin1)
آخر أعمال إلهام شاهينومن ناحية أخرى، تعيش إلهام شاهين، حالة من النشاط الفني حيث تواصل تصوير فيلم الحب كله.
تفاصيل فيلم الحب كلهتدور أحداث الفيلم خلال يوم واحد، فهو يناقش قضية اجتماعية، حول إلهام شاهين، التي تقوم بدور والدة الفنان أحمد فتحي، الذي يعيش قصة حب مع الفنانة حورية فرغلي، ويحتفلان بزفافهما في المنطقة التي يعيشان فيها، فيما تتناول القصة الكواليس الخفية وما قبل حفل الزفاف وما به من صعوبات وتحديات بالنسبة للأسر البسيطة.
أبطال فيلم الحب كلهفيلم الحب كله، يشارك في بطولته إلهام شاهين، بجانب كل من أحمد فتحي، حورية فرغلي، سلوى محمد علي، فاطمة محمد علي، حسن العدل، إلهام صفي الدين، وضياء الميرغني وآخرين، والعمل من تأليف سيد فؤاد، وإخراج خالد الحجر، وينتمي إلى نوعية الأفلام ذات اليوم الواحد، فيما تخطط الشركة المنتجة لطرحه في دور العرض نهاية العام الجاري.
اقرأ أيضاًالهام شاهين.فاتن حمامة نصحتنى ألا أقلدها.وزعيمة داعش أكثر شخصية كرهتها
إلهام شاهين تشيد بإطلاق المسلسل الأمريكي التاريخي «the chosen»
إلهام شاهين تستمع بجمال الطبيعة في سلطنة عُمان بهذه الإطلالة «صور»