في لقاء إذاعي أجريته عبر برنامجي اليومي في إذاعة سلطنة عمان العامة، بادر ضيفي الكريم بقوله: كلنا في عُمان على قلب رجل واحد. حينها قررت أن أستدرك هذه المحادثة في وقت الفاصل الإعلاني، فقلتُ له حينها: وعلى قلب امرأة واحدة. بدا لضيفيّ أنني أجهل اللغة العربية التي تذهب للتذكير في حالة الجمع. وأن المقصود بهذا هنا كل الناس، نساءً كانوا أم رجالًا.
بدأ الحديث عندما شارك أحد الصحفيين ما معناه، أن أي مجادلة يستخدم فيها الشخص لغة وأطر من يجادله، فإنه بذلك يقوي وينشط لغة من يجادله، ويقوض وجهة نظر من يجادل. يبدو أن هذه المقولة لشخصية معروفة لكن ليس هذا ما لفت انتباهي بشكل خاص، بل الضجة التي أثارتها هذه التغريدة، عندما رد أحد الناشطين على إكس أن النظرة السياسية التي تقرأ الكلمات على أنها تعاويذ سحرية فالحرص على اختيار النبرة المناسبة والمزيج السحري من الكلمات والتراكيب هي حالة عصابية تحول الخطاب السياسي إلى لعبة لانهائية للمفردات.
ربما يستدعي هذا الكاتب في هذا السياق، الصوابية السياسية، التي تذهب لتعديل اللغة واختيار اللغة والضمائر بدقة وحذر مفرطين لضمان عدم التمييز تجاه أي طرف -هذا في تعريفها الأبسط طبعًا. أرسلان خان المتخصص في الأنثروبولوجيا السياسية عقّب على هذا الرأي بأن الجميع يعرف أن الكلمات واللغة مهمة بطبيعة الحال، لكن هذا الإيمان لا ينطوي بالضرورة على إيمان مطلق بقدرة اللغة على تقديم حلول سحرية وجذرية للمشكلات، لكن مما لا شك فيه هو أن اللغة والكلمات يعيدان تشفير وإعادة إنتاج الأيديولوجيات والحقائق لذلك ينبغي أن تتغير اللغة باستمرار.
هنالك بعض اللغات التي تعالج الفروقات بين المذكر والمؤنث، وتلك التي لا تفرق بينهما، فتصبح الضمائر محايدة. لكن هذا ليس هو حال اللغة العربية، فهل هنالك ما يمكن أن نسهم به، في إدخال الضمائر التي تخص النساء في اللغة اليومية خصوصًا في أوقات الجمع، هل يشبه هذا بحث النساء عن أماكنهن داخل الفضاء العام المحرّم عليهن غالب الوقت، أو الذي يبدو ملحوظًا ومهددًا بمجرد وجود امرأة في مكان عام، عدا عن الأحكام التي توصم بها النساء في هذه الأماكن. يقول من أُطلق عليهم سلفيي اللغة العربية، إن ذلك يهدد بقاء اللغة وقوامها وقوتها، وإنه بذلك يقوضها عوضًا عن كون ذلك لا يتجاوز مشروعًا إمبرياليًّا لتغريب اللغة، خصوصًا أن اللغة العربية مرتبطة بالقرآن. لكن هل تسهم اللغة حقًا في الحصول على الحقوق السياسية أو التهيئة من أجلها؟ أعتقد أنها الآن في هذه اللحظة التاريخية أقرب لعلامة على الأيديولوجية التي تتبعها المؤسسات على اختلافها، فتلك التي تستخدم ضميرين في الكلمة أو أكثر من ذلك تريد أن تقول لك إنها مؤسسة يسارية وتقاطعية، وإنها تفهم التمييز وتحاول المساهمة في علاجه، أما التي تصر على عدم استخدام الضمائر المحايدة أو تستخدم الضمير المذكر فهي تقول إنها محافظة ويمينية وترفض هذا النوع من التغييرات التي تهدف للقضاء على النوع البشري.
يعد ما حدث للملاكمة الجزائرية إيمان خليف في أولمبياد باريس امتدادًا لهذا الخلاف وشراسته فالجميع يريد أن يضع نفسه في الطرف المناسب من هذا الاستقطاب ليحقق بذلك مجموع المبادئ التي ينافح عنها في حملته الانتخابية وفي الجمهور الذي يستهدفه. إنها فعلًا أداة سلطوية حتى وإن كانت في جوهرها محاولة لإلغاء التمييز.
بدلًا من رفض هذه التغييرات الحتمية، التي أصبحنا نراها بشكل بديهي ودون انطلاق من أيديولوجية واضحة ومفهومة عند الأجيال الجديدة إذ تستخدم الفتيات حتى العربيات الضمير المذكر للتعبير عن أنفسهن في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في تواصلهن المباشر مع بعضهن بعضًا، ماذا لو تناقشنا أكثر حول اللغة وأهميتها، وموقفنا منها، لو حاولنا أن نفكر في صالح ثقافتنا وتراثنا دون أن ننطلق من مواقف أصولية؟
أتذكر في هذا الجانب كتاب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد، وهو رواية عن حياته هو نفسه، يستخدم في مكتبه إحدى المرات صفة منبوذة جدًا في عالمنا اليوم للإشارة لموظف آخر، ينتبه بقية الموظفين ويتحفزون ويسود التوتر الأجواء، فكيف يمكن أن تنطق هذه الكلمة اليوم. يعلق كناوسغارد على هذا: لا بأس اليوم إن استخدمت لغة تجميلية حتى وإن كان الواقع التمييزي على الأرض راسخًا هناك ولا يمس. اللغة سؤال كبير أليس كذلك؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: اللغة العربیة
إقرأ أيضاً:
مبادرة “بالعربي” تحصد جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بدورتها الثالثة
حصدت مبادرة “بالعربي”، إحدى أبرز المبادرات المعرفية التابعة لمؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، والرامية إلى تشجيع استخدام اللغة العربية ومفرداتها في الحياة اليومية جائزة مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية بدورتها الثالثة، تقديراً للإنجازات الكبيرة التي حقَّقتها في خدمة اللغة العربية ونشر الوعي اللغوي بين أفراد المجتمعات العربية. وكرَّم مجمع الملك سلمان للغة العربية، فريق المؤسَّسة خلال حفل تكريم الفائزين بالجائزة والذي تم تنظيمه مؤخراً في العاصمة السعودية الرياض.
وأعرب سعادة جمال بن حويرب، المدير التنفيذي لمؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، عن بالغ سعادته بحصول مبادرة “بالعربي” على هذا التكريم الرفيع الذي يثبت من جديد نجاح المؤسَّسة في تعزيز اللغة العربية وتكريس حضورها داخل الأوساط المعرفية والأدبية والمجتمعية، وتوسيع مساهمتها في المحتوى الرقمي العربي على الشبكة العنكبوتية، وقال سعادته: “لطالما سعت المؤسَّسة إلى إطلاق المبادرات واحتضان الفعاليات التي تُعنى باللغة العربية وتؤكد مرونتها وحيويتها وقدرتها على احتواء إبداعات الفكر الإنساني في كل زمان. وتمثِّل مبادرة “بالعربي” مثالاً نموذجياً في هذا السياق، إذ نجحت على مدار السنوات في تحفيز الأجيال الشابة لاستخدام لغتهم العربية كلغة تواصل على منصات التواصل الاجتماعي، وعمَّقت معرفتهم بكنوز العربية وقدرتها الاستثنائية على تقديم أساليب متنوعة ودقيقة للتعبير عن الأفكار”.
وأضاف سعادته: “يمثِّل الفوز بهذه الجائزة حافزاً جديداً للمؤسَّسة لمواصلة جهودها الدؤوبة في دعم اللغة العربية وتعزيز استخدامها اليومي عبر مختلف القنوات، والتمسك بها لغةً للعلم والمعرفة، فهي تمثل هويتنا وتختزل تاريخنا الحضاري وتعبر عن انتمائنا الأصيل لحضارتنا العربية العريقة”.
وحصدت مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة الجائزة عن فئة المؤسَّسات لفرع نشر الوعي اللغوي وإبداع المبادرات المجتمعية، تقديراً لما حققته مبادرة “بالعربي” من تعزيز لحضور العربية على المستويين الإقليمي والدولي، عبر تشجيع الفئات الشابة على التوسع في استخدام اللغة العربية على شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي وتحفيزهم إلى إنتاج محتوى إبداعي يبرز جمالية اللغة ومكانتها الحضارية الفريدة.
ومن جهة أخرى، قدَّمت المؤسَّسة العديد من المشاريع الأخرى الدافعة لمسارات تمكين اللغة العربية، عبر استضافة العديد من المحاضرات والفعاليات، وإعداد الدراسات العلمية، وتنظيم الجلسات النقاشية التي تعنى بموضوعات الترجمة والأدب، فضلاً عن احتضانها المبادرات والمشاريع والفعاليات التي تُسهم في زيادة الوعي بأهمية اللغة العربية بصفتها جسراً للتواصل بين المجتمعات، ووسيلة حيوية لحمل الفكر واحتواء التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع الذي يشهده العالم.
وتُعد الجائزة تأكيداً جديداً لأهمية التعاون بين المؤسَّسات المعرفية العربية من أجل تعزيز الهوية اللغوية وإثراء الحراك الفكري داخل الأوساط المختلفة، حفاظاً على التراث اللغوي العربي الغني، وترسيخاً لقدرة اللغة على استيعاب تطورات المستقبل بكل ما تحمله من تحديات وفرص.