دفعت لابنتي 100 دولار لقراءة كتاب
تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
في صيف هذا العام دفعت لابنتي ذات الاثنتي عشرة سنة مائة دولار لتقرأ كتابًا. وفي حدود ألاعيب الأمهات كانت تلك هي المحاولة الأخيرة وكان قدر المبلغ المدفوع ضخمًا ولا شك. لا يمكنني أن أدعي الفخر، لكنني راضية أتم ما يكون الرضا. فقد نجحت الخطة. ونجحت نجاحًا عظيمًا. حتى أنني أقترح على آباء رافضي القراءة أن يفتحوا محافظهم ويرشوا أبناءهم كي يقرأوا هم أيضا.
ابنتي طفلة شديدة الذكاء، أذكى بالقطع مني حينما كنت في الثانية عشرة. لكنها لم تقرأ فصلًا كاملًا من كتاب بهدف المتعة إلى أن لجأت إلى رشوتها. كانت تقرأ كتب المدرسة، لكن حملها على ذلك كان أشبه بخلع الضرس، وكانت تقرأ بدافع ذاتي الروايات المصورة واستمعت إلى الكتب الصوتية وبخاصة إصدارات سلسلة هاري بوتر. ولم يتحول شيء من ذلك إلى مدخل لاكتساب عادة قد أسميها القراءة العميقة الكلاسيكية، بعينين في مواجهة الصفحة، بمعزل عن أي شيء آخر.
حينما واجهت تلك الحقيقة قبل أشهر قليلة، شعرت كما لو أنني فشلت في تربيتها. برغم أننا قرأنا معًا كثيرًا من الكتب القصصية وهي أصغر في السن، وبرغم أننا نعيش في بيت متخم بالكتب، لم أستطع أن أغرس في نفس ابنتي إحدى أهم مسرات الحياة.
قبيل الوباء، كشف استطلاع رأي مؤسف أجري على المستوى الوطني إلى أي مدى تهاوت مستويات القراءة من أجل المتعة بين الأطفال. قال قرابة 30% من الأطفال البالغين من العمر ثلاثة عشر عاما إنهم: «لم يقرأوا قط أو تقريبا» من أجل المتعة، بزيادة كبيرة عن 8% قالوا مثل ذلك قبل قرابة خمس وثلاثين سنة. وفي ضوء أن وقت الشاشات قد ازداد أيضا زيادة كبيرة خلال الوباء، فمن الإنصاف أن نخلص إلى أن هواية القراءة معرضة لخطر الانقراض في أوساط الأطفال.
ويعلم القراء المداومون على القراءة طوال العمر ـ ممن يقدّرون تراكم الكتب على المناضد المجاورة لأسرتنا توشك على الترنح، ممن يكتنزون في عقولهم صداقات مع شخصيات جمعناها على مدار السنين من الصفحات المطبوعة، إن التعريف بأهمية القراءة لا ينبغي أن يكون أمرًا عسيرًا. وكلنا نعرف كم تقوِّي القراءة نسيج تجاربنا. غير أنني صادفت صعوبة عجيبة في إيصال شيء من ذلك إلى ابنتي العازفة عن القراءة. كانت تقول إنها تكره القراءة، ولا تهتم بأن تحبها. ولا ترى في شيء من ذلك مشكلة. وكثير من أصدقائها مثلما أخبرتني «لا يميلون» إلى القراءة. وأدركت أنني لكي أوضح لابنتي متعة القراءة، فعلي أن أستوضحها لنفسي أولا.
مؤكد أن حصول ابنتي على هاتف ذكي العام الماضي ـ هو جهاز آيفون مستعمل مزود بما لا حصر له من أدوات التحكم الأبوية والمحددات الزمنية ـ يمثل جزءًا من المشكلة. فقبل الهاتف كانت ابنتي نَمِرَة اجتماعية، تتهلل فرحا لشيء بسيط بساطة ظهور حلوى جديدة في الثلاجة. وفي ما بعد الهاتف، باتت مخلوقة رخوية متشبثة بالأغطية قليلة الكلام لا تريد سوى البقاء في غرفتها مسدلة الستائر مغلقة الباب أسفل الأغطية محتضنة في راحتيها ذلك المستطيل الصغير الذي بدا وكأن انتزاعه منها كفيل بأن تختفي كل حياتها الاجتماعية. ففي غياب أصدقائها، أو في غياب هاتفها، لم يكن يبقى في نظرها غير شيء واحد: «ملل».
هل سبق أن حاولتن في مرح أن تقلن لطفلة في الـ13 من العمر خلال ساعتي منعها من الهاتف التزاما بالقواعد الأبوية أن تستخرج علبة الألوان المائية القديمة؟ أو تجرب فن الأوريجامي؟ ما لم تكنّ راغبات في تساقط شعركن فورا بقوة أشعة ليزر الكراهية المنبعثة من شقوق صغيرة في عيون المراهقين المتقلبة، فإنني أنصحكن ألا تجربن.
غير أنني لم أيأس قط من القراءة؛ لأنني كنت أدرك أن ما تبحث عنه ابنتي، شأن الكثيرين في سنها، إنما هو مهرب. وبدا لي أن ذلك طبيعي في تكوينها. لكن المشكلة هي أن أيسر سبيل للعثور على مهرب كان الانغماس في فوضى إدمانها على الهاتف الذكي.
فأطلقت حملة. قلت لها إن قراءة الروايات هي الطريقة المثلى لمعرفة دواخل الناس. قالت إنها تستطيع أن تعرف ذلك أفضل من مشاهدتهم وإنها تتابعهم على مواقع التواصل الاجتماعي حيث يعرضون بأنفسهم ما بداخلهم.
قلت لها إن الكتب توفر الحواديت قالت: نتفليكس.
قلت إن الكتب تعلم التاريخ، قالت: الإنترنت.
قلت إن الكتب تساعدها على فهم نفسها، قالت: متشكرة جدا، يكفيني أن أعيش.
وعدتها مسرفة بأن أشتري لها كل الكتب التي تريدها وأضع لها أرففا في غرفتها فترى كعوب جميع الكتب التي تحبها وهي مستلقية في سريرها. فقالت «ماما، مرحبا بك في عالم الأحلام».
أدركت أنني لم أستطع أن أنتصر عليها في نقاش لأن أغلب حجج ابنتي ضد القراءة بدت لي خاطئة. صحيح أن القراءة سبيل إلى توسيع عالمك واستكشاف عوالم جديدة، لكن الإنترنت كذلك هي الأخرى. لذلك فإن تلك النقاشات ـ التي كانت تزعج كلتينا ـ كانت تنتهي دائما وحتما بأن أتملقها بكلام عن المعرفة والانتباه وأن القراءة «نافعة لك».
ولكني لم أكن أريد ابنتي أن تمسك كتابا لأجل ذلك. لا من أجل تعظيم قدراتها العقلية، بل من أجل التنعم بسحر خفي محدد. أتعرفون حينما يوجز كاتب شعورا لم تكونوا تعرفونه في أنفسكم، فتضيء مائة مصباح أعلى رؤوسكم وكأنما يوحى إليكم؟ أردتها أن تنال فرصة الشعور بذلك الإحساس. ومثلما كتب نيل بوستمان عام 1982 في «غياب الطفولة» فإن أي وسيط قائم على شاشة من قبيل التلفزيون أو الفيديو لا يمكن أن تقيم مثل هذه العلاقة لأن هذا الوسيط بطبيعته لا بد أن يملأ لك كل الفراغات. أما الكتب ففيها مساحة للفراغات وما تتيحه من إلهام بالإبداع الداخلي.
هكذا قررت أن أقطع طريق ذلك المنطق في التفكير بواقعية مباشرة باردة: النقد. قلت لابنتي ذات الاثنتي عشرة سنة إنني سوف أدفع لها مائة دولار لقراءة رواية. قالت «ماذا؟ فعلا؟»
ثم وافقت بالطبع.
استطلعت آراء صديقات لديهن أبناء مراهقون عن الكتاب الذي يمكن أن يوقد شرارة القراءة. وفي حين اقترح البعض أعمالا من قبيل «الأمير الصغير» و«مرتفعات ويذرنج»، كان الكتاب الذي اقترحه أغلب الناس الذي يعرفون ابنتي هو رواية جيني هان «في الصيف الذي أصبحت فيه جميلة» التي تحولت إلى مسلسل شهير على أمازون برايم وشاهدته ابنتي وأحبته.
تفاوضت في الصفقة: مائة دولار إذا قرأت الرواية في شهر. وشرعنا حينها في رحلة شاطئية، مع صديقي، إلى جزيرة يونانية رومانتيكية، وهي فعالية طويلة فيها جسدان لشخصين في منتصف العمر يرتديان ثياب البحر بما يثير حرج فتاة في الثانية عشرة من العمر، ويجعلها لا تقوى على رفع عينيها، وهذا هو المطلوب.
كانت مدة الإجازة ثمانية أيام، وقبل أن ينتهي سابعها، كانت ابنتي قد أنهت الكتاب. ولما رجعنا إلى البيت، طلبت الرواية التالية في السلسلة، وقرأتها في غضون أسبوعين، دونما تكلفة إضافية.
هل سيفضي بها هذا إلى قراءة «نساء صغيرات»؟ أو التهام «الحارس في حقل الشوفان» و«أسنان بيضاء»؟ هل سينتهي بها هذا إلى القراءة طوال حياتها حتى تتطاول أبراج الكتب على المنضدة المجاورة لسريرها، وتجد في الكتب أصدقاء ومعلمين ومشجعين وبلسما للجروح، أي جروح قد تصادفها؟
من يدري؟ ما أعرفه هو أن ابنتي الآن لديها بقيمة مائة دولار مساحيق تجميل كنت قد قضيت العام الماضي رافضة لشرائها. أعرف أيضا أننا قمنا معا بفتح باب جديد لها إلى الصفحة المطبوعة: هو مكان جديد خاص أتخيل، وأرجو، أن ينفعها طوال حياتها. تلك أفضل نقود أنفقتها في حياتي.
ميريل سيلكوف ناقدة ثقافية وكاتبة قصة قصيرة وصحفية في نيويورك تايمز
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مائة دولار من أجل
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: معارض الكتب العربية.. لماذا لا نمل التكرار؟!
في البدء كانت الكلمة، ثم صارت معرضًا، نلتقي هناك، بين الرواق والرف، لنعيش لحظات نعتقد أنها ثقافة، لكنها غالبًا ما تكون مجرد ظل لها. نشتري الكتب، نلتقط الصور، نستمع إلى المتحدثين نفسهم كل عام، ثم نغادر كما جئنا: بلا أسئلة جديدة، ولا أفكار تقلقنا.
هذا ليس نقدًا لمعارض الكتب، بل هو حنين إلى ما يمكن أن يكون. إلى معرض لا يختزل في "الحدث الثقافي" الذي يعلن عنه، بل في ذلك الحوار الخفي الذي يحدث بين القارئ والكتاب، بين المبدع والمتلقي، بين الماضي الذي نحمله والمستقبل الذي نصنعه. معرض لا يكرر نفسه، بل يتجدد كالنهر الذي لا يعبر المرء نفس مياهه مرتين.
فهل نجرؤ على أن نحلم بمعرض كهذا؟!
في كل ربيع، تتنفس أبو ظبي بكتب تفتح، وأفكار تعلق كنجوم في سماء ندواتها، وأصوات تأتي من كل حدب لتلون أروقة المعرض الدولي للكتاب. هنا، حيث تتحول الكلمات إلى لوحات، والندوات إلى حوارات تلامس الغيم، يصبح المعرض ليس مجرد سوق للورق والحبر، بل مهرجانًا ثقافيًا يذوب فيه الفن في الفكر، والماضي في المستقبل. لكني، وأنا أقرأ أخبار هذه الدورة، أشعر بظل من الحزن يتسلل إلى كياني؛ حزن لا يعبر عن غيابي الجسدي عن أروقته هذا العام فحسب، بل عن سؤال يلح علي: هل يكفي أن نكرر الوجوه ذاتها كل عام لنجعل من المعرض منارة ثقافية؟.
بين الكتب والوجوه: سردية المكان
لا يختزل المعرض في رفوفه الممتلئة، بل في ذلك الحوار الخفي بين الغائبين عنه والحاضرين فيه. إنه فضاء تعيد فيه الثقافة العربية اكتشاف ذاتها عبر كتب تتنافس في جمال الطباعة وعمق المحتوى، وندوات تلامس قضايا من الشرق إلى الغرب، وفنون تشكيلية تتحرك كأنها قصائد بصرية. الضيوف الذين يحتضنهم المعرض، من مفكرين وأدباء وفنانين، هم بمثابة جسور تربط بين الموروث والحداثة، بين المحلي والعالمي. كل دورة جديدة تذكرنا أن الثقافة ليست تراكمًا، بل حركة دائمة نحو آفاق غير مطروقة.
لكن هذه الحركة، يا سادتي، تحتاج إلى رياح جديدة. فكيف لنا أن نتحدث عن انفتاح ثقافي، ونحن نرى الوجوه ذاتها تتكرر عامًا بعد عام، وكأن المعرض تحول إلى "صالون أدبي" مغلق على نخبة محددة؟ أليس في العالم العربي والعالمي من المبدعين والمفكرين من يستحق أن يسمع صوته؟ أليس التغيير جزءًا من جوهر الثقافة ذاتها؟.
غيابي... وحضور الأسئلة
قد يقول قائل: "الحضور رمزي يعزز التواصل". لكنني، وأنا أتأمل صور الندوات وبرامجها، أتساءل: كم من تلك الأسماء المكررة قدمت رؤية جديدة هذا العام؟، كم منهم تجاوز خطابه المألوف إلى فضاءات غير مسبوقة؟ الثقافة لا تبنى بالتكرار، بل بالتجديد. ولئن كان حضور بعض الوجوه ضرورة لاستمرارية الحوار، فإن إحلال دماء جديدة مكان أخرى بالية هو شرط بقاء الثقافة حية.
أذكر ذات مرة أن الدكتور سعيد يقطين الناقد المغربي المعروف ، كتب عن "السرد الناعم" كحكاية تتدفق بلا ضجيج، لكنها تحدث أثرًا عميقًا. هكذا يجب أن يكون المعرض: حكاية تتجدد شخصياتها كل عام، لا أن تتحول إلى مسرحية يعاد تمثيلها بنفس الأدوار. إن تكرار الضيوف يشبه إعادة طباعة كتاب قديم بغلاف جديد: قد يبدو جميلًا، لكنه لا يغني المكتبة.
اقتراح من القلب
لا ينبع نقدي من جحود بقيمة المكررين، بل من حب لجعل المعرض منصة لا تضاهى. لماذا لا نستلهم تجارب معارض عالمية تخصص مساحات واسعة للاكتشاف؟ لماذا لا نشرك الشباب أكثر، أو نستضيف مبدعين من ثقافات لم تسمع أصواتها بعد؟ الثقافة العربية غنية بتنوعها، لكن هذا التنوع لا يظهر إلا إذا فتحنا الأبواب لـ"الآخر" المختلف، لا الذي نعرفه مسبقًا.
الشارقة.. حب قديم!
بين ضجيج المعارض وصمت الذكريات، تقف الشارقة كسيرة عشق لم تكمَل. زرتها ذات يوم ضيفًا على معرض الكتاب، فكانت كحكاية "كليلة ودمنة" تروى لأول مرة: كل جنباتها حروف، وكل شارع فيها باب مفتوح إلى عالم آخر. أحببتها حتى ألفت عنها كتابًا، وكتبتها حتى صارت في قلبي وطنًا ثانيًا.
لكن العجيب في الحكايات الجميلة أنها تنسى أحيانًا! فمنذ تلك الزيارة اليتيمة، لم أتلق دعوة، ولم أعد إلى أروقة المعرض، وكأنما اكتملت فصول تلك القصة بلا خاتمة. أتذكر جيدًا ذلك الزحام الثقافي، وتلك الوجوه المتعطشة للكتب، والجلسات التي كانت تشبه "نديم" الجاحظ في زمن السوشيال ميديا. فالشارقة ليست معرضًا للكتب فقط، بل هي "ديوان" العرب الذي يجمع بين الأصالة والانطلاق.
فيا معرض الشارقة، أليس من العدل أن تعود الفراشات إلى حيث تلونت أجنحتها أول مرة؟ أم أن الدعوات صارت كالكتب النادرة التي لا يوفق الجميع لاقتنائها.