#سواليف

اعلن النائب السابق والمرشح الحالي للانتخابات النيابية ينال فريحات اليوم الثلاثاء ، أن قرار الحكم في القضية التي رفعها عمر العياصرة ضده قبل أشهر ، صدر بعدم الملاحقة وبذلك انتهت القضية لصالح فريحات .

جاء ذلمك عبر فيديو نشره فريحات من قصر العدل بعد النطق بالحكم .

مقالات ذات صلة جنرال اسرائيلي .

. ليس أمامنا إلا أن نعلن الاستسلام أو نرضخ لصفقة تبادل 2024/09/03

عدم الملاحقة لينال فريحات في القضية التي رفعها عمر العياصرة pic.twitter.com/fUWLLcrayf

— fadia miqdadai (@fadiamiqdadi) September 3, 2024

وحسب الاستاذ جابر الملكاوي، محامي النائب عمر العياصرة ، في تصريحات سابقة ،أن القضية رفعت على خلفية شكوى مقدمة بحق ينال فريحات بتهمة القيام قصداً بنشر أو إعادة نشر ما ينطوي على ذم وقدح وتحقير.

وتفاصيل القضية تكمن في قيام الفريحات بالإدلاء بتصريحات عبر وسائل إعلام محلية تتهم النائب العياصرة بأنه عنصرا في الخلية والتي تحمل اسم “مؤتة” والتي اتهمت بالتخطيط لإغتيال الراحل جلالة الملك الحسين عام ١٩٩٣، وذكر النائب فريحات بأن النائب صالح العرموطي كان محاميا للنائب العياصرة حينذاك، إلا أن النائب العياصرة لم يكن جزءا من القضية نهائيا”.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: سواليف

إقرأ أيضاً:

قراءة في رواية ” ينال” للأديب العراقي أمجد توفيق

يناير 31, 2025آخر تحديث: يناير 31, 2025

فاطمة محمود سعدالله / تونس

1…التمهيد

اطلعت على رواية “ينال” للأديب العراقي أمجد توفيق فلفتت انتباهي صيغة العنوان وهي ما حثني  على أن أكتب انطباعاتي المتواضعة  عنها ُأنا لست ناقدة أكاديمية ولا أدّعي ذلك بل أنا قارئة  يحركني ما أقرأ  فأسجل انطباعاتي في قراءة ترد في شكل انثيالات تستضيء بما استخلصته من النص  ومما ترسّب في ذاكرتي من قراءات ودرااسات طيلة مسيرتي التعلّميّة و التعليمية لا غير.

لستُ أكاديمية  وأؤكد على ذلك وبالتالي فقراءاتي لبعض القصائد والدواوين  الشعرية لبعض الأصدقاء لم أعتمد فيها على البحوث البنيوية أو التفكيكية أو غيرهما وحاولت قصارى جهدي ألا أكون تابعة  لأي مذهب بل اعتمدت على مخزوني المعرفي الذي أعتبره متواضعا وسأعمل على تطويره.

فقراءتي ترتكز أساسا على النص في حد ذاته من ناحية وعلى أدواتي الخاصة التي اكتسبتها من تخصصي في مجال اللغة والأدب العربي.

لقد لاحظت أن رواية” ينال ” كتبت عنها كثير من القراءات النقدية فاخترت ألا أطلع عليها كي أتخلص من التبعية أو الوقوع في تدوير المعلومة لذا احتاجت هذه القراءة إلى أكثر من قراءة للرواية.

2..

تعريف موجز لسيرة الروائي أمجد توفيق الذاتية

أمجد توفيق قاص وناقد و  روائي عراقي هو ابن الشمال العراقي ،الشمال الغنيّ بطبيعته الخصبة، ابن قضاء دهوك التابعة للواء الموصل و مدينة دهوك محاطة بالجبال من ثلاث جهات  وتكتمل مساحتها بسهل يطوقها كعقد زبرجد نادر فيتعانق العلو والارتفاع مع  الامتداد والانبساط ويتناغم الثبات والتجذر مع الانفتاح والانطلاق  فتكون  مدينة دهوك  أرض المرتفعات والسهول  مدينة التقابل بين الارتفاع والانبساط. وبها عاش الروائي أمجد توفيق فلا غرابة إذًا أن نجد المرتفعات عموما و الجبل  تحديدا حاضرة حضورا مكثفا في كتاباته ( طفولة جبل  سنة 2002 و الجبل الأبيض  سنة  1977 برج المطر سنة 2000 و وقلعة تارا سنة 2000).

في مثل هذه البيئة الساحرة التي نسجت من التضاد تناغما وتكاملا و من التقابل  تحديا للمصاعب وتطويعا لها.

في مثل هذه الطبيعة الساحرة ولد الروائي أمجد توفيق وتربى وعاش في عائلة كبيرة وراسخة القدم في العلم والأدب والمعرفة. فجده الشيخ إسماعيل اليماني كان شاعرا وصاحب مكتبة عريقة.

أمجد توفيق إذا هو ابن هذه العائلة التي جمعت بين الكم والكيف في محلة الشيخ محمد كانت العائلة ذات الستة أبناء (أمجد رابعهم) تتمتع بصيت مرموق وبباع طويل في مجال الأدب إذ لم يكن جده إسماعيل فحسب شاعرا بل كان بعض إخوته يتمتعون بملكة الشعر ويمارسونه و لعل الأهم هو أن بالبيت مكتبة ثرية نهل منها أمجد توفيق طفلا ويافعا ولمَ لا بعد ذلك؟ واستفاد منها الجميع فرسخت أقدامهم في تربة ثرية أدبا ومعرفة ثراء الأرض خصوبة والجبال شموخا ورسوخا.

ما يلاحظ في سيرة الروائي أمجد توفيق الحالية أنه عنصر فاعل في الحياة الثقافية عموما والأدبية والإعلامية على وجه التخصيص. فهو خريج كلية الإعلام وحاصل على بكالوريوس إعلام. ومتمكّن من ناصية الأدب مبحر في محيطات الثقافة.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر فأمجد توفيق تقلد مناصب عديدة بين إعلام وثقافة فقد تقلّد منصب مدير الثقافة الجماهيرية في بغداد ورئيس سلسلة القصة والمسرحية في وزارة الثقافة كما ترأس تحرير مجلة الطليعة الشهيرة وكذلك مجلة فنون ورئاسة تحرير مجلة قطوف. كما تولى إدارة قسم الأخبار والبرامج في قناة البغدادية وكذلك كان مديرا عاما لقناة الرشيد الفضائية. هكذا جمع بين الإعلام تخصصا والثقافة عموما فتميز في التوفيق بين المجالين باقتدار.

ومثل هذا الثراء في التكوين الثقافي والإعلامي والخبرة القيادية طبيعي أن ينتجا قلما بل أقول نهرا من العطاء يؤاخي نهر الروبال  بدهوك في تدفقه وعنفوانه ونهر دجلة في امتداده قلادة على صدر العراق. لا يمكن للكاتب أن يبدع وتتوالد إصداراته بعضها من بعض وتتجذر في الآن نفسه في تربة الإنسانية الخصبة إلا إذا كان صاحب ” مشروع” لا يكتب كتابة عشوائية وربما يرسم لنفسه نقطة المبتدأ وخط الانطلاق ويتشوف إلى أبعد مسافة تجذبه إليها كحقل ممغنط. كل ذلك بعد اختيار ” لغة تكون أسلوب تفكير لا مجرد وسيلة تعبير”. ويحمل قلمه رسالة تؤمن بمبدأ ” لا اكتمال. النقصان سيد”. وهوما أكده الروائي أمجد توفيق بنفسه في أحد اللقاءات التلفازية.

 

أما أعماله فهي كثيرة ومتنوعة إذ كتب في القصة والرواية والنقد. ففي مجال القصة نذكر: الثلج..الثلج /1974.والجبل الأبيض وقلعة تارا ( سبقت الإشارة إليهما) أما في النقد فله كتاب ” نحل القلم.عسل الثقافة  وهو كتاب نقدي صدر عن وزارة الثقافة العراقية / الموسوعة الصغيرة سنة 2001.

أما مجال الرواية فهو أرحب و أكثر ثراء وتنوعا.

صدرت له العديد من الروايات نذكر منها:

برج المطر  عن وزارة الثقافة دائرة شؤون ثقافية (2000)

طفولة جبل  عن وزارة الثقافة دائرة الشؤون الثقافية ط1 سنة 2002 وط2 سنة 2021 عن دار مكشي/

الطيور الحرة ط1 2002 وط2  2019.

وغيرها من الروايات حتى جاءت رواية ” ينال” التي ” ملأت الدنيا وشغلت الناس”. وذلك سنة 2022 .

كتابات أمجد توفيق عموما سواء أكانت في القصة أو الرواية أو النقد حظيت باهتمام القراء والنقاد لما فيها من جدية و دسامة وثراء التجربة الإبداعية. لذلك حبّرت عنه الكثير من القراءات والدراسات والكتب النقدية. منها:

أمجد توفيق نهر بين قرنين / كتاب نقدي لمحمد مخلف الحديثي.

تحولات أمجد توفيق في الخطأ الذهبي / كتاب نقدي للأستاذ حمدي مخلف .

ابتكار الجمال السردي/ قراءة في رواية ينال لأمجد توفيق بقلم الناقد حمدي مخلف الحديثي سنة 2023

السر والمعنى / صباح هرمز/ كتاب نقدي عن تجربة أمجد توفيق الروائية بغداد 2023.

ولا أظن تجربة في مثل هذا الثراء لا يحظى صاحبها بالتكريم والتتويج بشتى أنواع الجوائز، أذكر منها:

جائزة الدولة لأفضل رواية عراقية

جائزة العنقاء الذهبية

جائزة أفضل مجموعة قصصية

جائزة أفضل إعلامي عراقي

جائزة قلادة الصحافة

مرشح  العراق لنيل جائزة اليونسكو.

دون أن ننسى حضوره الوازن ومشاركاته الكثيرة في المؤتمرات الدولية والمحلية في مجال الثقافة وفي المحطات الإعلامية كذلك.

3…

قراءة في رواية ينال

أ..العتبة الأولى /. العنوان

لا يختلف إثنان في تحديد قيمة العنوان في كل عمل إبداعي.فهو العتبة الأولى وربما الأهم في النص شعرا كان أو نثرا قصة كانت أو رواية لأنه يعتبر النواة التي تختزل العمل الأدبي وعصارته وهو البؤرة المركزية  التي تستقطب كل ما حولها إذ تختصر النص وتختزل رموزه ودلالاته التي تنتشر عبر النص وعلى القارئ تتبع مساراتها بأن يدرك العلاقة بينها لتتجلى له النسيجة المشحونة بالدلالات والرسائل المشفرة والمخبوءة بين ثنايا النص.

وكما أن العنوان هو النص مختزلا فإنّ النص هو العنوان منتشرا انتشار الدوائر المائية على سطح النهر مثلا بمفعول وقوع جسم ما أو تمدد بقعة الزيت التي تبدأ نقطة صغيرة لتتحول إلى مساحة تكبر وتكبر.

ولِما للعنوان من أهمية  فإنّ  الكاتب شاعرا كان أو قاصا أو روائيا يسعى إلى الاشتغال على العنوان اللافت للانتباه لشد القارئ وتحفيز فكره باختيار الجملة أو الاسم أو المركّب الذي تتوفر فيه شحنة قادرة على استفزاز الفكر وشغل العقل بالبحث عما يتخفّى وراء ذاك العنوان، فمابالنا إذا كان العنوان “فعلا” فيه من الطرافة والاحتمالات ما في جذره وصيغته من مدلولات وأبعاد؟

على مستوى التركيب ورد العنوان لفظا مفردا خاليا من الوصف والتوكيد والإضافة وغيرها مما يميز العناوين عادة  والأسماء خاصة، كأني بالكاتب جرّده من كل ما يثقله من زوائد ليقول إنه “مكتفٍ” بذاته ليس في حاجة إلى متممات. كما هو ليس في حاجة إلى ما يقيد الفعل من قرائن ذات دلالات معنوية أو زمنية هكذا اختاره غنيا بذاته مستغنيا عن الزوائد واللواحق.

أما الصيغة التي اختارها الكاتب فهي صيغة المضارع المرفوع. لكن الفعل لم يوظف للدلالة على الصفة أو الحال أو الحدث وإنما جاء ممتلئا بما يحمله الاسم من إحالات مختلفة كأن يعود على مسمّى من أسماء الجنس ( الحيوان ـ النبات ـ الجماد) بل تجاوز ذلك وارتقى به  ليضطلع بوظيفة اسم العلم الذي يحيل على مسمّى عاقل أو غير عاقل أحيانا كأن يطلق بعضهم على بيته و حيوانه اسم علم يحدده ويميزه هو بعينه يرفع عنه الإبهام ويسِمُه بالتعريف والعلمية.

وإذا كان اسم الجنس عاما في مدلوله ــ فشجرة أو صخرة أو سلحفاة يعود الاسم فيها على كل واحدة من ذاك الجنس ـــ فإنّ ” اسم العلم هو اللفظ الذي يعيّن مسماه تعيينا مطلقا أي غير مقيد بقرينة تكلم أو خطاب أو غيبة أو إشارة حسّية أو معنويّة أو زيادة لفظة كالصلة أو غير ذلك من القرائن اللفظية أو المعنوية التي توضح مدلوله وتحدد المراد منه. “النحو الوافي لعباس حسن دار المعارف بمصر ط5 سنة 1975 الجزء 1 صفحة 287.  فمن هذا التعريف لاسم العلم يتضح لنا سبب جعل العنوان مفردا لا يحتاج إلى زيادة لأنّ أمجد توفيق اعتبره اسم علم من خلال هذا المزج الطريف بين الفعل كصيغة والاسم كمعنى ودلالة. ينصهر الفعل شكلا في الاسم معنى لأداء دلالات تستدعي البحث والاندهاش.

وإذا كانت صيغة الماضي تدل على انقضاء الحدث وانتهائه في الزمن الماضي فإنّ صيغة الفعل المضارع تدل على عدم انتهاء الحدث واستمراره في الحال والاستقبال وتتغير دلالاته بتغير القرائن التي تصاحبه وهوما أكده عباس حسن في كتابه النحو الوافي الجزء1 الصفحة 57 الطبعة 7 عن دار المعارف بمصر لسنة 1981.إذ يقول:

” أنّ صيغة الفعل المضارع تصلح للحال والاستقبال إذا لم توجد قرينة تقيده بأحدهما وتقصره عليه وحين يصلح للحال والاستقبال يكون اعتباره للحال أرجح لأنّ الزمن الماضي له صيغة فعلية خاصة به تدل عليه وللمستقبل صيغة فعلية أيضا وهي صيغة الأمر وليس للحال/ الحاضر صيغة تخصه فجعلت دلالة المضارع على الحال أرجح عند تجرده من القرائن.”.

فصيغة المضارع إذًا تدل على الحال/ الحاضر وقد وردت “ينالُ” مجردة من القرائن. لكن هذا الفعل هل يدل على “النيْل” كحدث في الحاضر؟ وإن كان الأمر كذلك فماذا سينال؟ ومتى ؟ وأيْن؟ وربما يمضي بنا التساؤل أبعد فنقول كيف ولماذا إلى غير ذلك من متممات الحدث.

ولكن عبارة ينال في هذا العنوان لم تمحض للدلالة على الحدث  بل وظفتْ توظيفا جديدا، اكتسب الفرادة من جدته والتميز من انصهار الحدث في الاسم بدلالته على العلمية أساسا.

حمّل أمجد توفيق الفعل المضارع المرفوع المجرد من كل القرائن مسؤولية الاضطلاع بدلالة غريبة عليه وهي من اختصاص اسم العلم.الدلالة على التعريف والتعيين والتمييز.

ويأخذنا هذا الاستعمال الطريف إلى التساؤل : هل أن الروائي أمجد توفيق وقع على هذا العنوان صدفة أم هو وليد حفر عميق وبحث واعٍ؟ وهل هو أول من خاض هذه المغامرة وذلك بتوسيع وظيفة الفعل لتشمل “الاسم” العلم بل تخضعه للاشتقاق والتصريف والتوريث ؟  إذ في مسار الرواية سنجد اسم ابنة بطل الرواية تحمل اسم ” تنال” مؤنث اسم والدها وتصريف الفعل مع المفردة المؤنثة الغائبة / كنوع من التوليد: علاقة الأب بالابنة ولم يكتفِ بذلك بل ورّث اسمه لابن صديقته فكان امتدادا له حتى لا ينقطع نسله واسمه وهو الذي لم ينجب الا ابنة واحدة فكان هذا الطفل ابنا روحيا له سيواصل تخليد اسمه ” كأب روحي له”.ولعل محاولة  التعرف على شخصية البطل في هذه الرواية عن قرب ستجيبنا على بعض التساؤلات وربما سيخلق تساؤلات أخرى.

ب..العتبة الثانية : قراءة صورة الغلاف.

أغرق الرسام مساحة اللوحة بالضوْء فأكسب الألوان بذلك طاقة نورانيّة عالية تزوّد الكتلة الرئيسيّة / الرجل والمرأة بشحنة من التناغم والانسجام والحرارة والدفء وتعوّض لغة الكلام التي تعطّلتْ بين المتحاوريْن بلغة أخرى بديلة تضجّ رغبة تهيّؤا للاستجابة وقدرة على تجاوز كل العراقيل والموانع.

والملاحظ أنّ الرسام أتقن توزيع كتلة الرجل والمرأة على كامل مساحة اللوحة كأنّي به رصد ذاك الإحساس بالفراغ لدى البطل  والحاجة المحمومة إلى الامتلاء  وهو ما يكرّس فلسفة “النقص والاكتمال ” التي اعتمدها في الرواية  فراح يملأ الفراغ الذي  تركته في روحه  الغربة  ويسدّ تلك الثقوب التي  حفرها فيها الوجع تلك التي نحتها الظلم والاضطهاد اللذين تعرض إليهما بطل الرواية في وطنه وربما ذاك الضمير  الذي راح يلهب وجدانه  بسوطه ويعمّق فيه الإحساس بالذنب.

 

لذا فإن الأشكال التي أثثت هذه اللوحة منتقاة كما أنّ الألوان ليست عشوائيّة ولا جاءت على سبيل الصدفة هي أيضا بل اختارها الرسام  بوعي وأناة فجاءت حبلى بمدلولات وأبعاد ورموز متعددة مختلفة ،متآلفة  تصبّ كلها في بوْتقة واحدة: الرسالة التي حمّلها إياها الرسام وستؤديها بذكاء وأمانة.

فالمتتبّع لصورة الغلاف التي وردت في شكل مشهد حيٍّ ومتكامل سيلاحظ أنه في الأعلى وعلى اليمين تحديدا تلوح عبارة  “رواية ينال” كتبت باللون الأسود العادي في حين أنها وردت مسطرة بمربع أحمر عريض كأني به يذكرنا بإشارات المرور، عند الأحمر توقف وهي هنا لا تعني انتبه فحسب بل تقول  ” تبصّر وتمعّن ” ولم تقف عند  تجنيس هذا العمل وتعيينه  باعتباره رواية فإلى جانب وظيفة هذه الإشارة التعريفية / التعيينية فقد  أكسبها اللون الأحمرالذي جاء تحتها شحنة تشويقية تفرز الكثير من الأسئلة.

أما في النقطة المركزية للغلاف وبخط عادي يتصدّر اسم الكاتب وتحته مباشرة وباللون الأحمر أيضا  وبخط عريض يتلألأ  أكثر وضوحا عنوان الرواية ” “ينال” تأكيدا على رغبة الرسام في شدّ الانتباه والالتفات إلى هذا العنوان والتركيز عليه.

ليخصص بعد ذلك القسم الأكبر والأهمّ لصورة رجل وامرأة يبدوان في كامل عنفوانهما ولياقتهما البدنية.نلاحظ أنهما ملتفان في شبه ضفيرة لا انفصال بين أطرافها كأنما يتوالد أحدهما من الآخر. هما مختلفان جنسا لكنهما متوحدان وضعا ومتكاملان بشكل ملفت هي تلفه بفخذيها وهو ينزلق بسلاسة عند جانبها الأيسر فتخالف هذه الصورة  المتعارف والمألوف فلا تولد حواء من ضلع آدم بل ينبجس آدم  من جنب حواء الأيسر وينسكب بهدوء  ليس بعيدا عن القلب وقد مرر يده اليمنى ليتحسس ركبة مرافقته الشابة. جسدان متعانقان عناقا مختلفا بل ينصهران في وضع يلخص حضور المرأة / الجسد، في حياة بطل الرواية ” “ينال” .

هي تبدو في كامل زينتها ودلالها وأنوثتها  بل وفي شبابها الصارخ رغبة

الناضج حياة . يكاد فخذاها البلوريان المتدفقان شبابا وحياة وقد يرفعان النداء صوتا وحركة.

تلتفت بغنج إلى شريكها في هذه اللحظة الممتعة فتحوِّل نظر الرائي إلى كتفها البض العاري الذي تحبو نحوه يد مشاكسة وقد أسدلت  الشابة غرتها الملساء على جبينها فزادت وجنتيْها إشراقا وفرض الرسام على شفتيْها الانطباق والحمرة في انتظار ما سيأتي..

 

أما هو فيطوّق شريكته في هذه اللحظة الفارقة بذراعيه ولكنه رغم ذلك يبدو شبه متخفٍّ.

 

فالقبعة الخضراء ( القلنسوة) التي يضعها على رأسه تغطي جبينه بكرم. كما أنّ محاولة طمس العينين بما يشبه النظارة السوداء حركة من الرسام لإخفاء ملامح تلك الشخصية التي ربما تكون مشهورة ولا تريد أن تُ رى في مثل ذاك الوضع.شأنه شأن الشخصيات المشهورة عموما :يفعلون” ولكنهم يخشون الانكشاف والفضيحة فيتسترون.

 

ولا نغفل عن الإشارة إلى ذكاء الرسام في اختيار الألوان  وحسن توظيفها و توزيعها بإحكام وتوازن لإيصال مختلف الدلالات والرسائل.

 

الألوان متعددة ومتدرّجة وتختلف أهمية ومساحة ورمزا.

 

فاللون الأزرق وهو من الألوان الأساسية  يمسح النسبة الأكبر من الصورة وظفه الرسام لما له من ثراء في الدلالة ولإحالاته الكثيرة على الامتداد والصفاء اللذين عرفت بهما البحار والسماوات.ولعلّ ما اقتنصه الرسام هو لحظة الاستمتاع والاسترخاء بين آدم وحواء بكونها لحظة ودٍّ وصفاء لحظة فيها من الدفء والتوهج في تدرجه من الزرقة الفاتحة إلى الداكنة إلى البنفسجية  وفيها مافي هذا اللون من التناغم مع بقية الألوان كلما تزاوج مع أحدها  تولّد منه  لون آخر.

 

(الأخضر، البنفسجي الأزرق الفاتح) ولكن الأزرق يبقى الأساس فهو التوهج والصفاء والحرارة لذلك جعله الرسام غلالة شفافة تغطي آدم وحواء.

 

في حين أن حضور اللون الأخضر ( المتولد من لقاء الأزرق بالأصفر) حضور محتشم رغم أنه هو أيضا رمز للحرارة والضوء  والخصوبة. ولعل ضآلة الحضور تؤكد على رغبة آدم في التخفي فلم يسلّط عليه الضوء كثيرا. الأصفر هو أيضا حاضر حضورا متواضعا نراه في تلاشي الأخضر واتجاهه نحو الانتهاء فيبدأ الخط أخضر غليظا نوعا ما ثم تتلاشى الخضرة ليحل محلها الاصفرار ثم ينتهي الخط بذوبان الأصفر في الضوء.ربما لأنّ الأصفر بكونه معروفا بإحالته على معنى الخيانة فحاول الرسام طمسه و جعله باهتا رغم حضور الخيانة في اللوحة وتجسيد اللوحة لها بكل وضوح تحديدا في تعدد العلاقات الجسدية التي يعيشها البطل “ينال” في الرواية.

ويميط الرسام اللثام عن اللون الوردي / لون البشرة البيضاء المشربة بحمرة لامعة بلورية زئبقية ليحيل على وضوح التعبير عن نداء الغرائز والرغبة الصارخة بين الرجل والمرأة ( ينال وحبيبته  ربما هي التلميذة الشابة)في هذا المشهد شبه العاري. ولعلّ ماتعرّى من جسد الفتاة دال على ذلك. فوضعية أسفل جسد الفتاة رغم ارتدائها للجوارب الشفافة . وتلك الساق والفخذ المشبعان بالتورّد والحرارة يعبران  عن الرغبة المتصادية بين الطرفين و حالة التأهب القصوى  للانغماس في المتعة الجسدية التي تختصر مسيرة بطل الرواية الجنسية وتنقلاته بين عديد العلاقات النسائيّة إذ انفلت من قبضة الألم وتأنيب الضمير إلى براح الجنس والمتعة رغبة في الانتقام ممن اضطهدوه والتحرّر من الوجع والغضب.

ويستكمل الرسام باللون الأحمر القاني الذي وزعه على ثلاثة مواقع من اللوحة ووظف وظائف مختلفة.فهو مربع  أعلى اللوحة ،في أقصى اليمين  وظف للتنبيه وتركيز الاهتمام على العنوان وجنس العمل الإبداعي بكونه رواية.كما أن اللون  الأحمر اصطبغ به عنوان الرواية في مركز اللوحة ولعل هذا التوزيع في المواقع واختيار اللون هما  من  تخصصات الاعلاميين عند تصميم الصحف . وهذا أمر لم يغب عن الرسام فالبطل إعلامي  والروائي كذلك فكأني به يسعى إلى الاستجابة إلى متطلبات ذاك الاختصاص. فهذا التوزيع فيه حرفية المصمم الإعلامي ومهارة الرسام وذكاؤه وذلك بتنويع الخصائص الإعلامية من اختيار  للون  إلى الكتابة بالبنط العريض مرة بعد مرة إلى اختيار الموقع المركزي للوحة إلى غير ذلك من الوسائل التوضيحية والتعبيرية.

هذا ما بدا لنا في قراءة اللوحة مفككة عنصرا عنصرا وحسب الأهمية أما إذا تناولناها كلا متجانسا متآلفا فهي ترمز حينا وتصرح حينا آخر بصورة متكاملة لحياة بطل هذه الرواية المادية فقد منح فيها للجسد حيزا كبيرا. ولعل حياته الجنسية الصاخبة وتعدد علاقاته وعدم تقيده بامرأة بعينها نوع من هروب المكتوي بالرمضاء إلى الجمر. فذاك الثقب الأسود العميق المحفور في داخله بشراسة ،ذاك الثقب المشحون بالألم والثورة والإحساس بالاضطهاد جعله يرزح تحت نير عبء ثقيل حمله معه من وطنه الذي اضطهد في سجونه وجرد من ممتلكاته  وربما من إحساسه بإنسانيّته إلى بلد هيّأ له إمكانيّة الانتقام من مرارة الظلم بطريقته الخاصّة.

ج   العتبة الثالثة: ملامح  شخصية البطل ” ينال”.

تستوقفنا الأحداث في بداية الرواية لنرى أنّ الكاتب اختار لبطله اسم “ينال” الذي هو في الحقيقة فعل وليس هذا من قبيل الصدفة وإنما هو مخطط  له ومدروس لما لهذه العبارة المركبة معنى والمفردة شكلا من أبعاد وإيحاءات ورموزوتفسيرات أشار الكاتب بنفسه إلى بعضها في التقديم وهذا النوع من التسميات رغم قلته ليس مقتصرا على هذه الرواية  فإذا أمعن القارئ في البحث سيقف على تفسيرات واكتشافات متنوّعة.فتسمية الاسم بصيغة الفعل متجذرة في التاريخ والحضارة والمجتمع فاسم سزيد بن معاوية (الدولة الأموية) جاء على صيغة “يفْعِلُ من فعل زاد / يزيدُ كما أننا نجد هذا القبيل من الاسْتعمالات في أسماء المدن فمدينة “قُمْ” بإيران  هي صيغة الأمر من فعل قام يقوم كذلك مدينة “تَعِزّ” باليمن هي أيضا صيغة المضارع  المرفوع من عزّ الشيء يعزُّ وهي (صيغة المؤنث) تعِزّ بل هناك بعض أسماء الأعلام كذلك على صيغة الفعل .فاسم “نكْتلْ” هو في الحقيقة فعل مضارع مجزوم كجواب للطلب وأحمدُ وأسعدُ وغيرهما من أسماء الأعلام الواردة على صيغة أفعل في المضارع المرفوع . الملفت للانتباه أنّ كل هذه الأسماء رغم استعمالها كأعلام لم تحدث الضجة التي رافقت تسمية بطل رواية أمجد توفيق “ينال”  ولعل ذلك يعود إلى الشحنة المعنوية المدهشة  التي يؤديها هذا الاستعمال الطريف  “الاستفزازي” إن جاز التعبير. وهو ما سيتكشَّف للقارئ تدريجيا كلما تقدم في القراءة.

في بداية الرواية رسم الكاتب لبطل روايته ملامح “الشخصية السويّة المتوازنة” تلك التي تربّت تربية أقل ما نقول عنها أنها تقليدية  تحترم الدين والمعرفةلأن “ينال” تلقى في أسرته إلى جانب  المعرفة الدينية والأسس الأخلاقية التكوين الثقافي المتكامل  ولعلّ حصوله على شهادة عليا في الإعلام وممارسته لمهنة الصحافة باقتدار يشهدان على ذلك.

وسعى والده إلى تجذير الملامح الثقافية واستغلالها لبناء حياة متوازنة لكن الموت عجّل باختطافه فانكسر العمود الفِقَري لتلك الأسرة ومن هنا يبدأ ينال رحلة الطلم والاضطهاد  وتبدأ ملامح الشخصية  المتظلمة المضطهدة والناقمة والمهزوزة في الارتسام والتبلور.فتطفو على السطح الشخصية الضحيّة.

ينال الإعلامي الناجح ..ينال الإعلامي النشيط والمتميّز..ينال المجدّ الذكي المحب لعمله حد التفاني ..ينال الذكي يقع في فخّ المؤامرة.”يقع ينال إذا فريسة لمؤامرة دنيئة تدمّر صرح أحلامه وترمي به “وراء الشكس” كما يقال. ليتحوّل بطل الرواية من العنفوان إلى الانكسار ومن الحركيّة المثمرة إلى السكون والسلبية من القوة واتوازن إلى الضعف والاهتزاز ومن الكرامة إلى الإذلال ــ ولا نقول الذل ــ لتولد شخصيّة أهرى نختتها هذه الظروف الجديدة .إنها الشخصية الناقمة.

 

“ينال” لم ينلْ ما كان يطمح إليه وغرسه فيه الوالد. لم ينل جزاء  اجتهاده وتميّزه بل لم ينل حق الاستمتاع بما ورثه عنوالده من مال وعقار بل نال منه الجبروت وحنت هامته الغطرسة وأنانية الطالمين وجشغهم وظل على ذاك المنوال ردحا من الزمن  يتلقى الطدمات والتجريح وتتكسر نصال الطلم على نصال الحيرة والسؤال.ولكن تشاء الظروف أو يشاء الطلم أن يكتفِيَ فينجو “ينال” من هذا الموت البطيء ينفذ “ينال ” من هذا الموت المؤجل الذي كان يقتل فيه تدريجيا مع كلّ جلدة عضوا ومع كل صفعة عرقا ويخلق فيه مع كل سبّة، مع كلّ حرقة “قبضة من حديد ” تقول للصبر كن فأنا قادم  وللإرادة كوني كي أواصل المسيرة بل يقول للأمل إثبتْ كيْ أنالَ. ينجو ينال من السجن ويتنفّس أوكسجين الحريّة ..الحريّة المغمّسة بدقوس ” القرار المرّ”.قرارالانبتات  عن الروح والاغتراب عن الوطن. هذا الوطن الذي لم يحفظ له حقوقه. هذا الوطن الذي تخلّى عنه في محنته ولم ينصفه مظلوما،وربما هو الذي يشكل محنته ويمتّن نسيجتها بكل مافيه أرضا وسماء وبحرا وجبالا ونخيلا وبشرا.كل مايشدّ الذات إلى جذورها كان يدفعه إلى الانبتات والتشتت  والتشظي وربما التشرد.

هكذا يغادر ينال الأرض والأهل . وهناك بعيدا عن الكلّ تنسج خيوط الشخصية المأزومة وتبدأ ملامحها في التشكّل ليجد القارئ نفسه وجها لوجه مع شخصية تبدو متوازنة “خارجيّا” : مال وفير وعملٌ يحقق له الاكتفاء وزيادة وأسرة متكوّنة من زوجة وابنة تحققان له الاستقرار النسبي ظاهريّا.

وكل ما يحتاجة الإنسان عموما من مظاهر الحياة المرفه ليكون سويا سعيدا ومتوازنا.كل ذلك كان متوفّرا لكن من ينسي المظلوم من ظلمه؟ ومن يصالح المكسور مع من هشم عظمه؟ ومن يسامح المهجّر من اقتلعه من جذوره؟

كان ينال مهزوزا من الداخل .كان مهزوما أمام قوى ظاهرة وأخرى خفيّة .كانت شفتاه تبتسمان وتترشّفان النبيذ المعتّق والباهض التكلفة في إسبانيا وفي فرنسا وفي أي رقعة من الأرض له فيه عمل كان يعانق النساء ويقبل الشفاه ويعيش المغامرات النسائية المتعددة لكنّه في الأعماق كان يتعذّب كان يبكي. يبكيه الاغتراب عن الوطن. يبكيه الاجتثاث عن الجذور ويعذّبه الضمير الذي لا يتوقّف عن تذكيره بينال الماضي ويلومه على التفريط فيه.

ولعل هذه الحياة البوهيمية المتحللة من كل قيد أخلاقي أوديني أو حتى قانوني ،خاصة حياته الجنسية وانخراطه في تجارة الأسلحة تعتبر تحديا لما مرّ به من ظلم حين سجنه. فأحسّ أنه بُعِثَ  بعد موت محقق وأنه تحرّر بعد استعباد  غاشم  وهذا الملمح الإنتقامي الجديد ربما هو ولادة  جديدة لينال وبعث أول.

إنّ هذاالملمح من شخصيّة ينال المأزومة  وهذه المرحلة من حياته المضطربة / البيْن ــ بيْن : سعادة في الظاهر وأسى يحفر الوجدان ويدمي القلب، هذا ن المظهران يجعلان ذكرى كانت نائمة بين نجاويف ذاكرتي تستيقظ وتصحو. ذكرى “عمرالحمزاوي” بطل رواية الشحاذ لنجيب محفوظ الشخصية التي تستجدى نشوة  اليقين ومتعة السعادة به وانخرطت في رحلة البحث عن الجدوى وعن “المعنى؛ لكنه انغمس انغماسا مرضيا وبنهم في إسكات جوعه الجنسي والنهم العاطفي فظنّ أنّ الخمرة والجسد والتحرر من كل التزام ستحقق له ما يصبو إليه ولكنّ نجيب محفوظ يفاجئ بطله بأنّ السعادة  ليست بعيدة والحقيقة ليست معقدة بل هما قريبتان كل القرب بيسيرتان كل اليسر.

أما البطل الثاني الذي أعاده إليّ “ينال” فهو أبو هريرة في رواية : حدّث أبو هريرة قال: للأديب  التونسي الراحل محمود المسعدي، وهوأقرب إلى شخصيّة ” ينال” من عمر الحمزاوي لأنّ هذا الأخير وصل إلى حدّ ما إلى مبتغاه، إلى اليقين والسعادة به كحقيقة  غير أن أبا هريرة بطل محمود المسعدي فهو شخصية متشظية بين كل شخصيات الرواية ومجموعها أبو هريرة . وأبو هريرة هو الإنسان الذي يبحث عن سر الوجود ،عن الحقيقة ،عن السعادة بل هي رمز لتحمل الإنسان في رمزيّتها الوجودية والإنسانية.

وفي رحلته الوجودية  انغمس هو أيضا في ملذات الجسد واتجه إلى الدين  كما لم يغفل التجربة الوجدانية وتتواصل رحلة البحث المضني والمرير حتى توصل أبو هريرة بعد ذلك إلى ماتوصّل إليه “ينال” لكن بفارق بسيط ففي حديث البعث الآخر رأى أبو هريرة ومن ورائه المسعدي أنّ هذه التجارب كلها فاشلة ولا توصل إلى الرضا والسكينة لأنّ الجسد يشكّل عائقا يمنع البصيرة من اقتناص الحقيقة / السعادة واليقين.فقرر  أبو هريرة  أن يتخلص  هذا من الجسد / هذا العبْء الطيني الكثيف الذي يراه قمقما  فخاريا سجنت فيه الروح وحاجزا يحول  دونها ودون التحليق عاليا والاتحاد بالحق، بالمطلق في مدارات لا نهائية.لذلك كان القرار بالتخلص من هذا الجسد بكسر ذاك القمقم و”الخلاص” من سجنه. فكانت النهاية في “البعث الآخر” بأن قفز أبو هريرة من علٍ والتلاشي في فضاء لا محدود  دون أن يترك أثرا.

وهو ماتوصل إليه ” ينال ” أيضا في رحلة البحث إذ اختار الخلاص من الجسد وإطلاق سراح الروح السجينة فيه ــــ  وأؤكد–ــــ بفارق وسم كلا من الشخصيّتيْن.

فلئنّ تجربة أبي هريرة كانت وجوديّة توسّل بها المسعدي لعرض أفكاره ونظريّته المجوديّة فلذلك أنهاه دون أثر عندما فشل في التوصل إلى الحقيقة .في حين أنّ ” ينال ” حافظ على إنسانيّته لآخر لحظة فكان وجدانه حيّا وعاطفته حاضرة ، ذاك الإحساس القاسي بالظلم جعله يعبّ من نهر المتعة  حد الامتلاء حد حدّ الانفجار ولأن ذلك أثر على نفسيّته إذ جعلها مضطربة مهزومة فمال إلى ما يسمّى بنظام التعويض في علم النفس  وقد طرحه فرويد بوضوح في نظريّته . ولما لم يجد ما يطفئ نهمه للوصول إلى المبتغى وظلت رغبته في السكينة وربما في الانتقام شوكة تسكن القلب والروح وتنغص الوجود. الإحساس بالاضطهاد  تحوّل إلى حزمة شوكة دائمة الالتهاب كما أنّ الإحساس بالذنب كان عميق الوخز حارق اللوم  فبين حب الوطن وكرهه وبين الانخراط في تجارة الأسلحة ولوم النفس حينا ومحاولة التبرير حينا  لم يصمد أمام هذا التمزق ولم يقاوم قسوة جلد الذات  فقر هو أيضا كسر القمقم الفخاري الذي ضيق عليه الأنفاس واختار لنفسه بعثا آخر  وتحررا كتب فرمانه هذه المرة بنفسه دون انتظار من يجيزه ويصادق عليه فحدد توقيته وكيفيته ومراسم الاحتفال به بل المدعوين أيضا وحقق تحرير نفسه المعذبة فقرر الرحيل. وكان رحيلا مدوّيا.

رغم أنّ ينال عاش التحرر والبعث ثلاث مرات على الأقل ، غير أنّ بعثه ” الآخر”  هو الذي حقق له الرضا والسكينة لأنه قهر الألم  بإسكاته وقهر اللوم والإحساس بالذنب بإلغائهما وتصحيح بعض أثارهما.

فرغم أنّ خروجه من السجن يمكن اعتباره تحريرا ــلا تحرراــ وبعثا مؤقتا فهو لم  يحرره نهائيا لأنه لم يصنعه بيده .لم يكن فاعلا بل مجرد مفعول به { هم قرروا سجنه وسلبه وهم قرروا لفظه من السجن)

كما أنّ حياة البذخ في أورويا بين إسبانيا وفرنسا وغيرهما من البلدان الأوروبية ،لم تحقق له التحرر من الحنين إلى الوطن والحب المثقل بالغضب بل حتى استرجاعه لملكية بيت أبيه لم يكن انتقاما يشفي الغليل ؛كان مجرد لبنة في قلعة تحصين الذات وحرفا من أبجدية الانتصار، فلا المال ولا السفر ولا المغامرات النسائية ولا الجاهوالترف استطاع أحدها أن يعيد إليه ” ينال” الماضي، ينال البريء المتوازن ” النظيف” ،ذاك الشاب المشحون طاقة و خيراا ذاك الإعلامي النشيط الذي يفيض طموحا بل ذاك الإنسان  الذي كان يترشف كأس الحياة بتلذذ وسكينة . هكذا أقرّ ينال الحاضر أنه أفرغ من الداخل من ينال الماضى .

جاء القرار. جاء الاختيار.

كان القرار اختيارا حرّا. تحررا من نوع خاص.قرر قهر الجسد الذي منعه من الوصول إلى الحق.قرر سلب الجسد حقه في الحياة. ولكن لم يسلبه حق البقاء .

الرحيل المدوّي لابد من أن يترك أثرا.فضل ينال أن يظلّ حيّا رغم الرحيل.اختار خلودا رسمه على طريقته . عبث بالجسد وحرمه حقه في الحياة لكن الروح لا بأس أن تسكن أجسادا أخرى كنوع من ” الحلول ” و التناسخ” ،في إمكانها أن تنجز أعمالا أخرى وإن توقف ينال عن الفعل فإنّ “تنال ” ابنته ستواصل التذكير به  وبما أنّ العامة في بلداننا العربية وفي ثقافتنا الشرقية تؤمن بأنّ من لم ينجب الذكور فإنّ ذكره ونسله ينقطعان بمجرد وفاته  فاشتق اسم ابنته من جذر اسمه ليمحو هذه النظرية الجائرة والخاطئة من العقليّة المستقبلية .

كما أنّ “ينال” يؤمن أنّ الأبوّة ليست بالإنجاب فحسب فكم من أب أنجب ولم يمنح ابنه  في أسعد الحالات سوى الاسم وكم من أب تبنّى وربّى الابن تربية صالحة وأنفق عليه وحماه كما لوكان من صلبه .فالأبوّة في نظره امتداد روحيّ واتصال بحبال الودّوالعطاء دون انتظار لمردود مادي وما تركه مبلغا ماليا  للطفل “ينال” ابن صديقة له كي يعيش مرتاحا ومحميا من صروف الدهر إلا حركة حققت له لحظة القرار بالرحيل سعادة كان يبحث عنها  أثناء حياته المضطربة. كما أنّ الاستقرا الذي سيحققه هذا العطاء لذاك الطفل ” ينال” الذي ورّثه الكاتب  اسم بطل روايته ليؤكد نظرية البقاء والاستمراري{ بواسطة الخير الئي يمنح للغير وكأني الكاتب يقول إذا عجزت أن تسعد نفسك فساهم في إسعاد غيرك.

وأن الأعمال الخيرية الكثيرة التي أوصى بإنجازها في وطنه ستجعل اسمه كطائر مغترب يعود إلى الوكر  وما تلك المشاريع التي ستنشأ تطبيقا لوصيته إلا أسلوب من أساليب البحث عن السكينة و الرضا وذلك بالبقاء في الذاكرة العامة كنفح نسيم طيّب. ولم ينسَ تلك الطالبة  / سانا التي عاش معها تجربة غرامية وجسدية فترك لها مبلغا يساهم في صنع مستقبلها ويحقق له بعض الرضا والسكينة عندما يستمر ذكره وبقاؤه ببقائها واستمرارها وربما في نجاحها وانتشالها من بؤرة الفساد التي انجرفت فيها قدمها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د..العتبة الرابعة:   البناء السردي  في رواية ينال لأمجد توفيق.

أثناء مطالعتي لرواية “ينال” للروائي العراقي أمجد توفيق رأيتني أسافر بعيدا في الزمان لأحطّ رحالي عند النثر العربي منط ألف ليلة وليلة وحتى المقامات. أخذتني هذه الرواية إلى الجذور لتقول لي: ” أنا شجرة عروقي ثابتة في التراث وفروعي ممتدة في سماء الحضارة والتحديث”وعلى ضوء ما وشوشتني إياه الرواية سأحاول تحسس الطريق إلى البناء السردي الذي اتبعه الروائي أمجد توفيق في “ينال”.

امتاز النثر العربي القديم بظاهرة أسلوبية تعرف ب”التضمين” وهو التواشج السردي وتوليد الحكايات بعضها من بعض.

ترى الباحثة الجزائرية نزيهة زاغر مايلي: “كثيرا ما تتداخل الحكايات داخل النص السردي الواحد يعني إمكانية تضمين أكثر من حكاية جزئية أو فرعية داخل حكاية أساسية وهو آلية تفردت بها ألف ليلة وليلة خاصة فالتشابك والتلاحم والتلاقي والتوازي والاستمرار والانسياب من سمات ذلك العمل.”  مقتطف من نزيهة زاغر ( التداخل السردي في المتن الحكائي)  منشورات مخبر وحدة التكوين جامعة بسكرة ص 42.

فأمجد توفيق في تصميم منهجية روايته لم يخلُ ذهنه مما تغذّى به منذ كان بذرة راسخة في تربة الإبداع العربي الأصيل كما أنّ أجنحة الإبداع فتح أشرعتها في فضاء التحديث والتجديد الواسع.

وظف الكاتب في روايته آلية النسق التضميني الذي من وظائفه إلى جانب التشويق، توسيع الخطاب وتنويع مستويات الخطاب حسب الرواة وكذلك تعميق العقدة في الحكاية.

والمتتبع لهذا المسار سيجد أنّ الكاتب افتتح الرواية بال”القصة الإطارية” ويفسح من خلالها المجال للراوي الأوّل ليفتتح السرد ب وصف مشهد منسجم جميل فيه لقاء بريء بين طفلة وكلب شعره طويل و”رجل يجلس على كرسي ويرتدي قميصا أبيض على شورت أبيض أيضا كانت يده اليمنى تمسد ضفيرة الصغيرة والصغيرة تمسد شعر الكلب في مشهد منسجم جميل”( رواية ينال ص 11). هكذا  أعلمنا الراوي ببداية تعرفه على السيد “ينال”. مؤكدا ذلك بجملة خبريّة ” تلك بداية معرفتي بالسيد ينال” وانطلق بتعريفه بأسلوب فيه كثير من الممازحة حول المفارقة بين اسمه واسم ابنته وعلاقتهما بمفهوم “النيْل” عموما.

وهكذا ينخرط الارد الأساسي في الحكْي والحوار و تمرير بعض الإشارات المشوقة عن شخصية ينال كقوله نقلا عما ذكرته زوجة السارد ” مل هذا الحديث الطويل ولم تتعرف عن عمله؟ بل أمعن في التشويق والإيحاء بقوله ” لم أكن أعرف ٫ه رجل مخيف”. كما أن السارد فتح قوسا من خلاله دلفت زوجة ينال في الحوار وهي فرنسية من أصول تونسية  بحديثها عن مستوى العائلة الاجتماعي والاقتصادي .”لكني عرفت من زوجته أنهم يمتلكون شركات كثيرة في أوروبا،لم تذكر شيئا عن السلاح ،لكنها ذكرت بأنه عاتى كثيرا في العراق وتنقل بين بلدان كثيرة.”(رواية ينال ص 13).

وفي غضون الحوار بين السارد وزوجته تعرف أنه رجل متقاعد وأنه أديب كتب رواية، ولعل هذه المعلومة منتقاة عن قصد من الكاتب لأنه سيكون لها حضورها في باقي الأحداث.

ويتواصل السرد بأداء الوظيفة التعريفية لسائر الشخصيات. ولم يغفل الأديب أمجد توفيق عن تطعيم السر بالوصف والتأمل والتساؤل فجعله يكتسب حيوية وتشويقا وتحفيزا للعقل.” لماذا يستدعي الجمال ذكريات حزينة ؟ ولماذا يكون الخزين الفكري المعرفي سحابة ضاغطة على لحظات  يمكن  أن تكون مبهجة؟ فعلا لماذا؟

ويتواصل السرد والحوار ممتعا طريفا خاصة بوجود الحفيدة “لمار” .وتزداد لحمة الصداقة بين الراوي وينال وتتطور وتتعدد اللقاءات والدعوات على الغداء والفسح الاكتشافية والتأملية بين أحضان الطبيعة في إسبانيا.

وفي الصفحة 20 تضاء الإشارة لإبراز اهتمام ينال بالرواية وبالراوي ؟ الأديب الذي لا يحب الظهور . ليصل الراوي إلى معرفة مهنة ينال بقوله: ”  ذكر ينال أن قصته طويلة، مجموعة من المصادفات قادته إلى ممارسة أعمال متنوّعة بعد مغادرته للعراق ليستقر أخيرا  على تجارة الأسلحة .”( رواية ينال ص22).

وهكذا يتواصل التقارب بين السارد وينال  فلا يجد البوح حاجزا يعرقل تدفقه حين قال ينال لصديقة الراوي:”

ــــ اسمع يا صديقي، هذا المغلف يحوي مجموة أوراق كتبتها قبل سنوات، أحببت أن تتكرم بقراءتها وسؤكون سعيدا أن أسمع منك شيئا عنها.( ينال ص22).

بهذا الحدث الجديد  والمفاجئ تبدأ القصة الإطاريّة تلملم جزءها الأول لتفتح النافذة على مصراعيها للقصة المضمنة  لقدم الراوي الثاني / ينال أن تطأ ساحة السرد.

يخرج الراوي الأساسي من  قيادة زمام السرد السرد  لتبدأ القصة المضمنة وساردها في التبلور وإنه لعمري نوع من التجريب في الرواية عموما وهو لا يعتبر تجاوزا للثوابت في الكتابة السردية أو الشعريّة وإنما  ضرورة يحتاجها الإبداع دون إلغاء للثابت أو الانقلاب عليها  وذلك لتقريب المسافة بين المبدع / الباث والقارئ / المتلقي وهو ما يتطلب من الكاتب الاشتغال عل  الخلق والتجديد للوصول إلى شعور القارئ. والهدف من ذلك هو ملامسة زمنية القارئ واحتياجاته الفكرية والنفسية في حاضره وربما مستقبله لا العودة به إلى زمن مضى وذلك دون القطع والانبتات عن الجذور . ومن هذا المنظور تكون الحكاية الإطارية والحكاية المضمنة متكاملتيْن متلاحمتيْن تماما كالجنين في رحم أمه فتكون الرواية كلا لا يتجزّأ ولا يفصل بين أجزائه.

وبمجرد الانفتاح على القصة المضمنة يرحل بنا السارد العليم في القصة الأم في الزمان فيعود إلى ماضي ينال فهذا الانتقال في مستوى الزمن الحكائي يعتبر مؤشرا على دخول صوت سردي جديد . وهوما أكده الكاتب سعيدجبار  في كتابه “التوازد السردي ” جذور للنشر 2006 ص 23  قائلا:” بباستخدام السارد لآلية التضمين الحكائي ينفتح النص السردي على رؤية تبز المؤشرات في الصوت السردي يصاحبه انتقال على مستوى الزمن الحكائي”  وكذلك في المكان إذ يعود به إلى مسقط رأسه ووطنه وثقافته وإن صحّ التعبير إلى مأساته  فيلخاتل القارئ ليقبل معه صفحات من حياة بطل الرّواية / الورقات الإحدى عشرة والتي صدرها بعبارة ” أوراق مبعثرة لم أمتلك يوما القدرة على إتلافها”.وفي هذا القول اعتراف مختزل لمسيرة ينال ومعاناته التي سكبها حبرا خجولا وسريا وربما ممنوعا إلا في الوقت المناسب وللشخص الثقة.  ينال شخصيّة ثرية كلما أحس القارئ أنها اكتملت في ذهنه تتوالد صورها من جديد  في الذهن وتطفو على السطح لتسيطر على المشهد.  لتقول: مازال في الجعبة ما يثير ويحيّر.

ورقات ينال في الرواية تمثل نوعا من الاسترجاع ضمن الرواية الأم لتنسج تجربة سردية أخرى تتشكل من وجهات نظر مختلفة وتضطلع بأهداف كثيرة.

 

فأمجد توفيق بهذا النسق السردي الذي لم يتبع فيه السرد الخطي التقليدي أكسب روايته شرعيّة الحداثة والتجديد بتقسيمها إلى فصول دون أن تنبتّ عن الجذور التقليدية الأصيلة ” النسق التضميني” .

 

تنغلق هذه الحكاية المضمنة بما انفتحت به وهو تصريح  الراوي “ينال” بحبه للنساء  إذ يستهلُّ الورقة الأولي بمقطع غلّب فيه  النَّفَس الشعري على السرد لما تضمنه من اعترافات صاغها بلغة شعرية راقية ولعل ذلك وشوشة في أذن القارئ يصدرها أمجد توفيق تتضمن الإقرار بأن الأجناس الأدبية تتعاضد وتتكامل و كثيرا ما يصبّ بعضها في بعض    ـــ كلّ اللواتي عرفتهنّ

 

أفضل منّي

 

كلّهنّ أوضح منّي

 

صادقات،متفانيات يعرفن بالضبط حدود القلب وجنون الحبّ

 

لماذا إذا أخفق في إقامة علاقة صحيّة مستمرّة خارج الزلازل التي تعصف بي؟

 

الاعتراف  بتعدد العلاقات النسائية واضح ومرارة الاعتراف بالفشل فيها صادقة والحيرة في تحديد السبب أو الأسباب أكثر وضوحا.

 

تراه الخوف ؟ وممَّ يخاف؟ تراها العثد النفسية أم التمزق بين ارتداء العباءة الواجب الخانق أو التحلل منها كي تحدث السكينة.؟ ويبقى ظل الاستجواب يلاحقه فيخرج من ثوب الحيرة إلى دهاليز حيرة وجودية كبرى تشمل فلسفة  وجود الإنسان في منزلة بين منزلتين  بين  الحياة والموت .فلسفة الإحساس بالعجز ” كنت محض كائن بجناح واحد”  ويتواصل نزف الاعترافات المبطنة بالتأملات الوجودية وطرح قضايا إنسانية وحضارية عميقة كعدم التأكد من مصداقية الأشياء ” الاسم ” مثلا ويولي اسمه وقفة لشرحه وتبريره بل يبدي بعض الانزعاج منه ” حتى اسمي أجده غريبا ومضحكا”. ثم ينخرط في سرد محطات حياته ك كانتقاله إلى بغداد للالتحاق “بكلية الآداب لدراسة اللغة الانجليزية” حتى يتوقف جريان نهر التذكر عند أول مأساة “تحكي قصة ولم تتحقق” الحدث الجلل الذي سمم حياته وجرّعها كأس العلقم الأول  رغبة لم تكتمل

 

إنه رحيل الأبوين في حادث سير بعد أن ورثاه كل  ما يملكتان. ” وهاهو ينال الذي هو أنا ثروة مغمسة بدم أمه وأبيه

 

“لماذا يعذّب السجين أو المخطوف؟” يعود السارد إلى مزج السرد والاعترافات بالتساؤل وطرح القضايا، إلى التأمل والنظر الفكري العميق. ولعله سؤال ستظل الأجيال تطرحه دون إجابة قطعية ومقنعة.   يفاجئنا الكاتب بتسلل غير مقصود ربما ليطل من وراء “ينال” فيصرح بحقيقة تختمر في أغلب العقول على أيامنا إذ يقول : ” إنه صراع من نوع آخر صراع بين الدولة واللا دولة” وأبطال اللادولة يستخدمون إمكانيات الدولة في صراعهم لتقويض الدولة” وهذا لا يحدث إلا في بلداننا العربية  عموما.

 

وبنوع من الهروب من مرارة الواقع يلجأ اللاشعور إلى تذكير ينال ببداية التعارف بينه وبين ” منال” الطالبة الجميلة التي تشاركه في جذر اسمه. ولعل تعدد استخدامات جذر اسم ينال كان مقصودا من الكاتب ليلح على أن ينال ليس شخصا وإنما هو ظاهرة جديرة بالاستمرار والبقاء سواء باستمراريّة النسل أو بفلسفة التناسخ الروحي. ويغتنم الفرصة لطرح بعض القضايا الاجتماعية  ووجدانية مثل ما تعرضت إليه منال من أحداث بسبب ما حدث لوالدها.

 

ويتواصل صدى الاستجوابات والتعذيب وامتهان الكرامة في السجن يطرق ذاكرة ينال المتعبة حتى كان أحد الأيام.” في يوم ما وأغلب الظن أني كنت مريضا أو في حالة إغماء  ذلك أنني لا أذكر متى أو كيف تم نقلي لأجد نفسي مرميا في نهر صغير تجتمع فيه مياه الصرف الصحي” يا الله! إنها قمة في الإذلال والدوس على إنسانية الإنسان. حتى إطلاق سراحه كان مهينا ،الإلقاء به في نهر مياهه إسنة باعتباره جزءا من تلك النفايات .أي وجع وأي مرارة ولدا في النفس وسيكبران ويتعمقان جرحا غائرا في الروح .

 

” كيف يسفسد الإنسان؟”

 

سؤال حفر بمدية حامية في الروح .ومن يجد له جوابا شافيا؟

 

وهل هناك من حلّ. .لا يتوقف الكاتب عن تطعيم السرد بالاعترافات وبالتأملات  ليجعل من القص مساءلة للواقع لا مجرد حكْي تسجيلي للأحداث  يقصد به تغذية الذوق وإمتاعه وإنما زبعد من ذلك و أنضج عندما يحوله الأديب إلى أسلوب عرض لما يشغل الإنسان من قضايا حارقة  ومحاولة النفاذ إلى بواطن الشخصيات لاستنطاقها وجعلها تبوح بمشاغلها وتطلعاتها فينقل الحقيقة دون وقوع في التسجيل التقريري الركيك وذلك بتغليفها بالترميز والتخييل.

 

يظل ينال مرجلا يغلي .رافضا الاختطاف والاضطهاد رافضا  فقدان التوازن الفكري أو التأكد من حقائق الأشياء أو الأمل في  تحقيقها

 

” لست واثقا من شيء

 

لست آملا في شيء”

 

قمة الإحساس بالضياع وربما الخوف من التلاشي. هكذا جاء القرار بالرحيل كنتيجة طبيعية لكل ما حدث : ”  لذا لم يكن أمامي سوى الهرب” وهل من حقه الدفاع عن الذات أو الانتقام ممن أهانوه لا كشخص بل كإنسان.

 

وتبدأ مرحلة الهروب الأولى رذ تنتهي الورقات بما ابتزأت به كما أشرت آنفا.

 

” أميل إلى النساء.وأذوب في لمسات الحنانوينابيع الجمال  التي يفجّرنها. ليقف في النهاية عند قناعة الرضا بالواقع.

 

” عش حياتك

 

هذا ما يتوفر أمامك

 

وسأكون كاذبا لو قلت غير ذلك”…..

 

 

 

يمكننا الخروج مع الحكاية المضمنة بالقول إنها تشابكت زمانيا ومكانيا مع القصة  الإطار  تشابكا يهدف إلى جانب الإثراء والتوسع والشويق إلى مساءلة الحاضر للماضي وربما تعريته ومحاكمته.وذلك بتوسل لغة ذات قدرة على تحمل رسالة موجهة وربما أوسع من ذلك الاضطلاع بمشروع..

 

فلغة السارد الأساسي ستختلف كثيرا عن لغة الراوي الثاني رغم كونهما في نظري كيان واحد  فأمجد توفيق جرّد من نفسه صوتا سرديا ثانيا على سبيل أسلوب الالتفات في الشعر ” قفا نبكِ؛ على سبيل الذكر لا الحصر  وبنى بينه وبينها علاقة فاصلة / واصلة ففي الظاهر هما إثنان ولكن في الحقيقة هما واحد،كل لا يتجزّأ.

 

فأمجد توفيق اتّكأ على شخصيّة “ينال” لكشف إضاءات كثيرة حدثت خارج إطار القصة الأم هذا إلى جانب تحميله القصة المضمنة كما هائلا من الوظائف كالتشويق  وتكثيف الأحداث للتعريف بالإطارين وبالشخصيات فتتوالد الأحداث وتتناسل لتصب في بوتقة واحدة .” الاكتمال” تكامل الحكايتيْن لسد النقص.

 

ويسكت ينال عن البوح ليغلق نافذة اعترافاته ومذكراته في القصة المضمنة ليفسح المجال إلى الراوي الرئيسي في القصة الإطارية.

 

يستلم السارد الأول ــ يستعيد ــ مشعل السرد وزمامه اللذين تنازل عنهما مؤقتا وبمحض إرادته للراوي الثاني الذي صنعه بنفسه  و أناله شرف الارتقاء  من مجرد شخصية يتحدث عنها في الرواية إلى سدج الحمْي فجعله راويا مشاركا في الأحداي / راويا شخصية تضطلع بتقديم قصتها بنفسها وهنا تكمن الطرافة .

 

يعود السارد الرئيسي إلى مسرح الأحداث باستعمال الكاتب خاصية رياضية تتمثل في ما يسمى بالتناوب : ( أ/ ب أ/ ب…وهكذا ).

 

يستهل الراوي الرئيسي عودته بالتعبير عن الحيرة في تجنيس ماجاء في ورقات ينال. أهو اعترافات أم مذكرات أم رواية تفتقر إلى بعض الدقة في بعض المكونات ؟  .

 

وأثناء طرح قضيّة التجنيس يغتنم الراوي الفرصة لإضافة بعض المعلومات عن ” ينال” فهو  متمكن من اللغة الاجليزية وهو مترجم. كما أنه طرح قضية “الصدق ” في الرواية لإن الروائي ليس مؤرخا وأن الرواية ليست أحداثا تسجيلية تخلو من التخييل و ومجانبة الواقع بالاحتماء بالرمز والإيماء والتخفي وراء الأساليب الفنية والجمالية الأخرى. إلى أن يضطر السارد إلى مصارحة ينال بأنّ أوراقه ” غير مكتملة” وهذا يعني أنها تستوجب الاكتمال ويبدو أن هذا التصريح هو دعوة إلى المضي في الكتابة لتكتمل الحكاية ويتضح جنسها الأدبي.

 

ومن خلال الحوار الذي كان بين السارد والشخصية الرئيسية تطفو أسباب الخطف من جديد  لتتلخص في أمرين : الأول تأديبي لينال كي يكون عبرة لكل من يقارف ” ذنب قول الحقيقة” والثاني  لا شيء غيرالطمع.

 

 

 

ويستمر مقود السرد بين يديْ الراوي الرئيسي الذي يوجهه حيث يريد وبكل اقتدار فتارة يتحول به إلى الحوار وطورا يعود إلى السرد لمزيد سبر أغوار نفسية ينال والأحداث التي عاشها لتتضح ملامح شخصيته أكثر فأكثر.وتتوطد العلاقة بين الراوي والشخصية حتى يصبح أحدهما يقرأ الآخر ويستنطقه عبر الحوار والمساءلة وأحيانا عبر الصمت المثقل بتراكمات كثيرة.

 

ينقطع حبل السرد المخصص لينال ليحل محله الاعتناء بأحاث تمت بالصلة للراوي الأديب صاحب رواية واحدة ذلك الذي جاء ليستجم مع زوجته ردهة من الزمن عند ابنه..وتتنوع الءحداث التي رواها فمنها المضحك ومنها الغريب والمشوق  الذي أتقن مزجه بالوصف والحوار كما أتقن الانتقال فيه من موضوع فرجوي إلى آخر فيه تسلية وتثقيف وهكذا يؤكد الراوي أن العمل الإبداعي الروائي هو عبارة على جولة بين  ثنايا حياة مختصرة تتمازج فيها نسيجة الواقع بالتخييلي الفني الجميل، ربما للتخفيف من حدة الواقع وقسوته.

 

وينغلق هذا القوس من الرواية الإطارية بقول الراوي :” …ومن الواضح أنه كان صادقا في قوله بأنه أمضى لياليه  بالفندق .فحجم الأوراق يسوّغ زمنها ، فقررت استكمالا لقراءتي الأولى”

 

لتكون العودة إلى القصة المضمنة بقوة وجدّية أكثر.

 

والملاحظ ؤنّ الجملة السابقة التي ختم بها الراوي الأول الجزء الثاني من الرواية الإطارية هي في الحقيقة من المؤشرات الركحية التي تؤدي وظائف كثيرة  كالتعليق على الأحداث أو التعريف ببعض ملامح الشخصية أو الربط المفصلي بين أجزرء العمل أو فصوله ولوحاته إذا فهى فصلت بين الرواية الإطار وما سيأتي من الرواية المضمنة وفي الآن نفسه أكدت على ترابطهما وتواصلهما. وهذه المؤشرات الركحية من شأنها أن توطد التواشج في المضمرن والبناء ، بين الحكايتيْن من ناحية وبين تبويب الفصول من ناحية أخرى

 

إذا يعود السارد الرئيسي إلى استلام رسالة السرد ليواطل رحلة  قراءة “ينال الشخصية”

 

وما إن يستلم يناال؟ الراوي مقود السرد حتى يوجه سفينته إلى الزمن الماضى لتبدأ رحلة التذكّر و العودة إلى الوراء بواسطة خاصية الفلاش باك.

 

وأول ذكرى يضوع عبيرها من ماضي ينال هي قصة تعارفه مع ” ليلى ” التي صارت زوجته فيما بعد وأم ابنته الوحيدة “تنال” ، ورغم أهميتها في مسار حياته  ـــ فهي المرأة / المنعرج ــــ  فهو لم يسلط عليها الضوء وأبعدها عن الأحداث شأنه شأن أي رجل شرقي تحتم عليه رجولته التعتيم قدر المستطاع على حياته الشخصية مع أهل بيته. ليلى ابنة وزير تونسي سابق وهو الذي فتح الطريق لينال  وعبدها كي يقتحم عالم تجارة الأسلحة  وليلى الجميلة و المتعلمة والثرية ولكن صورتها في الرواية مجرد ظل للوحة جميلة وثمينة.فهي شبه ملغاة من حياة ينال فلا جلسة رومانسية ولا شجارا ولا نقاشا أو تشاورا في موضع ما ،كانت مجرد تحفة فنية يزيّن بها صالون حياته.

 

ويمضي السارد في عرض الأحداث وتنويعها .

 

ينسى ينال قصته مع ليلى ويمضي في كشف ” المستور” من خلال تكليفه بجلب حصة السيد الوزير من ” السيد مالرو” ومن هنا تنطلق  رحلة المهمات الصعبة التي  سيخوضها ينال بثبات ونجاح وستر عليه أرباحا خيالية .

 

ويغلب على سرد ينال الحوار المنقول أو السرد  وهذا لا يعني غياب الحوار المباشر تماما. في حين أن الراوي الرئيسي  يورد السرد متمازجا مع الحوار المباشر الذي يكسبه ديناميكية توهم بالواقع وتجعله أكثر قربا من المتلقي.

 

لكنّ حكاية ينال لا تخلو من المغامرة والتشويق كتعرض العصابات الخطيرة له وقطع الطريق عليه وملاحقته.

 

ورب ” ضارة نافعة” إذ تلك المطاردة كانت مناسبة ثمينة تعرف فيها على الشابة الطالبة الفنلندية   ” سانا” التي سيعيش معها مغامرة من مغامراته النسائية ولعلها تركت فيه أثرا طيبا أو حركت فيه الضمير والإنسانية إذ سيخصعا بمبلغ هام فيما بعد.

 

” هي ضعيفة وأنا قوي،وأزعم أن الأخلاق أو ما أفهمه منها تلزمني بالدفاع عنها  وحمايتهاوهذا ما قررته مع نفسي في أعقاب ليلة كالحلم منحتني خلالها أجمل الطيور في غابات لم يرها أحد” وفعلا كان عند وعده .

 

وتتعدد حلقات سلسلة علاقاته النسائية التي يتوقف عند تفاصيلها دون حرج أو تأنيب للضمير ك فهاهي روكسانة المقاتلة  التي يحول علاقته بها إلى حلبة  قتال فيها الهزيمة والنصر وهاهي زوجة الصديق  التي يرسمها كمتسولة رغبة  ومتملقة رخيصة  قضى معها وطرا ثم لفظها كعقب سيجارة  وتلك أخرى وأخرى وهكذا يمنض نهر التذكر في الانسياب والهدير  .

 

ولم ينسَ الصديقة “منال ؛ التي ربما هي شقيقة روحه الحقيقية ورمز الحب الطاهر الذي انتهى قبل أن يبدأ وهي التي شاركته في الاسم فهما من جذر واحد بإضافة  ابنها ينال / الطفل  نلمس من خلال هذا التلاقي براعة الكاتب في التلاعب على الجذر الذي كوّن منه أسرة كانت ستكون رمزا للسعادة لو تأسست ومع ذلك لم ينقطع خيط التواصل : “أسعدتني صورة وصلتني من اسطنبول على الواتس آب ، الصورة أرسلتها منال  وتضم ابنها ينال يستلم جاذزة التفوق من مدرسته” هذه السعادة كانت عبارة على بهرة ضوء تسللت إلى روح ينال / السارد والشخصية ، سعادة كان في حاجة إليها رغم ركضه وراء المادة وبحثه عن السعادة الحقيقية.

 

وينهي ينال هذا الفاصل من الرواية المضمنة بفلسفته في العلاقات النسائية. تتمثل في الاشتراك في مغامرة مع بعضهنّ وينتهي الأمر بانتهائها وهذا من خلال حديثه عنها: ” هي جميلة ورائعة ولا اعتراض عليها لكني ال أحتمل التزاما يفرض على. لا أحتمل أن أكون مضطرا للقاء  أو فعل  لم أقرره. ذلك هو ذنبي ومحنتي  في أن أطير بجناح واحد” .

 

يحاول ينال تبرير تعدد علاقاته بكونه يرفض الالتزام ويسعى إلى التحرر من كل ارتباط مفروض.

 

ينتهي الجزء الثاني من الحكاية المضمنة ليعود السارد الرئيسي من جديد لاستلام قيادة الأحداث ويستهل مهمته الجديدة بمؤشر ركحي جديد بين من خلاله أن قراءة “ينال / الكاتب  متعبة وأكد على ذلك باستخدام التكرار .فنلمس من هذه الافتتاحية أنه مازال لم يستقر على رأي هل ما كتبه ينال مذكرات أم رواية ” أتعبني ينال، أتعبني السهر مع مذكراته أو روايته” .ص134 من رواية ينال.

 

ويسمح لنفسه (الراوي الأساسي) ولأول مرة في سيرورة السرد أن يبدي الراوي رأيه في “ينال” الشخصية  الرئيسية في روايته  سواء على لسانه كراوٍ أو بضمير المتكلم على لسان الشخصية نفسها كسارد آخر .

 

فيعبر عن تعبه من قراءة ورقاته الزئبقية المليئة بالإدهاش والتساؤلات والغرابة  كما يسمح لنفسه التشكك في مدى صدقه  لكنه لا ينكر ذكاءه بل وجمعه بين سياسة التدمير ومنهج البناء فهو تاجر الموت من ناحية والمثقف وفاعل الخير من ناحية أخرى .ولعل ذلك من باب “التطهر” المنشود.

 

وتنغلق نافذة القصة / الجنين. القصة المضمنة لتنفتح نافذة العودة إلى القصة / الأم ،القصة الإطارية فيأخذنا الراوي في جولة استطلاعية يرحل فيها مع بطل الرواية ينال في المكان والزمان والفكر والثقافة فيقدمه إلينا كعارف بأسرار الطبيعة ومشاتل الزهور وتاريخ المكان حتى نجده عاشقا للجمال والثقافة ولعل ذلك يعود إلى أنّ مابين ينال الشخصية والراوي نوعا من الألفة والصداقة تولّد عنهما نقل التعاطف إلى القارئ ليرى في ينال الضحية لا الجلاد.

 

في أواخر القصة المضمنة يعترف الراوي أن ينال كتب رواية وليست مجرد مذكرات ولعل آخر ما ورد في الوصيّة تكليف السارد الصديق بنشر رواية ينال .

 

“ينال” الذي تحوّل من شخصية ابتكرها السارد إلى سارد هو بدوره بل أكثر من ذلك ارتدى ثوب “العرّاف” فاستعمل أسلوب الاستباق ولمّح إلى ماسيحدث دون التصريح به.

 

أورد فكرة ” الموت” في أكثر من موطن بل أشار إلى أنه ” لا يرى موته إلا منتحرا”. دون أن يتسرب إليه الضعف أو اليأس. وزع ثروته بالشكل الذي رآه صالحا وحافظ على نزعته التأملية التي لا تخلو من الاعتداد بالنفس ” أنا لستُ مستسلما .ولن أكون كذلك، فإن كنت لا أستطيع وقف الشعور القاتل بالنقصان والبعد الحقيقي عن الاكتمال في كل الشيء،فثمة طريقة هي إلقاء سوال ناري المفردات والحرارة والوضوح،وعليه أن يجيب، على النقصان  أن يتعرّى وأن يجمع مياه تجربته لإطفاء جمرة السؤال.

 

قد لا تتسع هذه الكلمات للغوص في تفاصيل السؤال لكنه من الشدة والوضوح وما يشق طريقه إلى القلب عبر فعل ليس لأحد حق نكرانه”

 

هنا يسكت ينال عن القول لكنه ينطلق إلى الفعل.

 

يغيب ينال. ويصبح غيابه ثقبا أسودلا تفسير له وصمته نذيرا بالنهاية  ومن هنا يبدأ التمهيد للخطب الجلل كتلة ثقيلة  تتدحرج بشكل مرعب تماما كصخرة سيزيف بعد أن سربه “ينال” قطرة..قطرة.” ضاعف ابني فيصل أوار الأزمة، فقد اتصل بي لينقل خبرا أليما جارحا هو أ٫ّ ينال انتحر” ص 163.

 

هذه الشخصية التي ترى أن” الحياة وجدت لنعيشها” والتي ترفض أن يكون موتها مجانيا “بطلقة طائشة” هذه الشخصية التي تعترف بالتحرر فتقول: ” أنا رجل حر لا يردعني فكر أو منهج معروف وتجربتي حيّة تنضح بالدماد والمشاعر والسعادة والبكاء.فأنا من يصنعها” ص148 هي نفسها التي تعانق بطل  الكاتب التونسي محمود المسعدي ،أبا هريرة في الإيمان بأن التحليق لا يكون بجناح واحد و أن التحرر الحقيقي هو الخلاص من ثقل الطين / الجسد. لأن الجسد في نظرهما هو العائق عن التحرر والانعتاق ولا تحرر إلا بكسر قيوده و”الخلاص” من سجنه..فكلاهما فهم الحرية أنها الانعتاق الإرادي فالانتحار والانعتاق من سجن الجسد/ الحياة وهو بالنسبة إليهما “ينال” و” أبي هريرة” بعثٌ آخر لا موتا وفناء. وهو ما تؤمن به الفلسفة الوجودية.

 

 

 

الخاتمة..

 

يلاحظ القارئ أن رواية “ينال” لأمجد التوفيق هي رواية متوسطة الطول إن لم نقل رواية قصيرة ومع ذلك حصدت اهتماما منقطع النظير فحقق بذلك المقولة الحكيمة “أن العبرة بالكيف وليس بالكم”.فنجده قد قال في سبعة فصول مالم يقله كثيرون في عشرات الفصول وهذا يبين أن أمجد توفيق متمكن من تقنية الانتقاء والتكثيف والتشذيب ويعمل بقاعدة ” ماخفّ وزنه وغلا ثمنه”.

ونراه على مستوى الأسلوب أيضا زاوج  بين السرد والحوار بنوعيه فأكسب الرواية مصداقية وواقعية تقربانها من المتلقي وتجعلانه عنصرا فاعلا منتجا وليس مجرد مستهلك.فجمعه بين التخييل والواقع من خلال دقة الوصف والحوار المباشر تحديدا يجعل السرد يتنفس ويكاد يحلق.

ولعل فكرة تبادل الأدوار بين الراوي والشخصية فيها من الطرافة والجدة مافيها.فبعدما كان الراوي ـــ وهو المتفق عليه ــ هو الطرف الذي يملك المعلومة عن كل العمل وينسق بين كل عناصره، نجده يتنازل عن طواعية لشخصيته الرئيسية “ينال” ليستلم تلك المقاليد فيخبرنا عن نفسه بضمير المتكلم ويبوح بكل أريحية عن خباياه.

انتقل  بين البوح والاعتراف اقتداء  بالكاتب الفرنسي  جان جاك روسو في ” اعترافاته”  وبين التوجع والألم الساكن في وجدانه والمحفور بالذاكرة تيمنا ب” آلام الشاب وورثر ” للكاتب الألماني غوته. دون أن ننسى تأملات  التوحيدي ومقابساته  وذلك بتلك التساؤلات شبه الفلسفية في الموت والحياة والسعادة والحزن والجسد والروح وغير ذلك ، ويرد كل ذلك في سرد متين النسيجة غنيّ بالحوار متجذر في تربة التراث الأصيل مثل ألف ليلة وليلة وبخلاء الجاحظ أو كليلة ودمنة. غرس هذا السرد في تربة تراثية أصيلة لكنه مدّ فروعة ليتفيد من كل جديد

كما أننا نلاحظ أن أمجد توفيق ألف بين القديم والحديث. بين التراث وبين الحداثة فجذر روايته  في تربة سردية أصيلة وفتح أجنحتها  على كل جديد يستطاب نفحه توسعا و إثراء.

وربما يجوز لنا القول أنّ رواية ينال وردت استجابة لرغبة “ينال” الشخصية ،ينال /الراوي في أن تخرج قصته من الظلمات إلى النور على يد الراوي / الصديق فتكون عبارة على تنفيذ لوصيّة.

وهكذا يخالف أمجد توفيق المألوف في نسبة الرواية إليه كمبدع وإنما يعتبر نفسه  وسيطا ورسولا حمّل أمانة فأداها بكل صدق وأمانة. وبهذا حقق أمجد توفيق تميزا وسبقا في كتابة الرواية بأسلوب جديد.

مقالات مشابهة

  • عضو بـ«النواب»: احتشاد الملايين أمام معبر رفح يؤكد رفضهم تصفية القضية الفلسطينية
  • قراءة في رواية ” ينال” للأديب العراقي أمجد توفيق
  • نواف شكرالله ينتقد أداء الحكم في مباراة النصر والرائد.. فيديو
  • برلماني: الابتزاز الإعلامي الإسرائيلي لن يغير موقف مصر ضد تصفية القضية الفلسطينية
  • النائب أيمن محسب: إعلان الرئيس السيسى رفض تهجير الفلسطينيين يعكس موقف مصر الراسخ من دعم القضية الفلسطينية
  • “ميتا ” ستدفع مبلغ 25 مليون دولار أمريكي لترمب تعويضا عن إغلاق حساباته
  • إعلامي أمريكي بالرياض: المملكة ليست التي كنا نقرأ عنها بالأخبار إنها مختلفة تمامًا .. فيديو
  • النائب أيمن محسب: إعلان السيسي رفض تهجير الفلسطينيين تعكس موقف مصر الراسخ من دعم القضية الفلسطينية
  • تيسير مطر: الرئيس تحدث باسم 100 مليون بشأن موقف مصر تجاه القضية الفلسطينية
  • الحميدي: الهلال يطالب بكشف تفاصيل ما دار بين الحكم والـ”VAR” في مباراة القادسية.. فيديو