عربي21:
2025-01-22@10:51:15 GMT

لماذا تتباين القراءة: هامش عن رد حزب الله

تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT

* هناك مفارقة في حروب هذا الزمن: أنها الأكثر علنية وانكشافا وتداولا، وتجري تحت تغطية إعلامية تبلغ حدود الإسفاف في التصاقها بالحدث وهوسها بالتفاصيل وتتبع الشوارد. تلفزات ومنصات وجموع صحفية من إعلاميين صار عدّهم تحديا إحصائيا، ووسط هؤلاء كتّاب ومحللون من كل اتجاه وبزخم وازدحام لا شبيه له. حتى هذا المكتوب هنا لا يخرج عن هذا الإطار.

وفوق هؤلاء وهؤلاء، لدينا اليوم بدعة جديدة (وعظيمة) تُدعى المصادر المفتوحة، وهي تشمل مسحا مصورا بالأقمار الصناعية وسجلات لحظية لحركة الطائرات والسفن ومعلومات من كل حدب وصوب، وأكثرها متاح للجميع وبالمجان أيضا.

* في ذات الوقت، هذه الحروب هي الأكثر غموضا والتباسا، ليس لأن فكرة السرية طرأت فجأة على فلسفة القتال، ولا لأن أدوات التضليل والتشفير -على صعيد تقني- وصلت ذروة غير مسبوقة. الواقع أن كثيرا من الغموض ينبع تحديدا من علنيتها؛ من فرط الإعلان المدَّعَى وتزاحم الدعاية بالحقيقة، وانفتاح المدى والأثير كي يُسهم الجميع بوصف ما يجري واستبصار الآتي وتفكيك ما فات، وما يبدو غنى في البداية، يتكشف لاحقا عن فوضى عارمة وتشتتٍ للمعنى.

* بين حد العلنية وحدّ الغموض تجد آراء كثيرة في تقييم عملية "يوم الأربعين" التي رد عبرها حزب الله على اغتيال القيادي الكبير فؤاد شُكر (السيد محسن). لا أتحدث عن التشهير المتنكر في هيئة التحليل (وهو الصنف الأعمّ)، ولا عمّن يعيد تأويل الواقع خدمة لتمترس ثابت وموقف لا يتغير، أتحدث عن المحاولة الصادقة في فهم ما يجري. ومن الواضح أن صدق النية وتطابق المعطيات لا تضمن تشابه التقييم، فالاستنتاج يتفاوت كثيرا بين قراءة وأخرى.

* 300 صاروخ متزامن ضد قواعد إسرائيل الشمالية، تواكبها أسراب من طائرات مفخخة تشق طريقها صوب أهم مركز استخباري بعمق الكيان، ويسبق هذا كله هجوم استباقي إسرائيلي بمائة طائرة لم تتمكن -رغم عاصفتها النارية- من كبح الهجوم. نحن أمة يرتبط فيها مسمى "الضربة الاستباقية" بمشهد إبادة قوة مصر الجوية صبيحة الخامس من حزيران/ يونيو 1967؛ العملية التي سمّاها الصهاينة في وقتها "عملية مُوكد" واستَخدموا فيها قرابة 200 طائرة هجومية، وانتهت بالفاجعة التي يعرفها الجميع والتي نعيش آثارها المدمرة حتى اليوم. عندما تنتبه للأمر، يصعب عليك أن تتجنب المقارنة. 100 طائرة إسرائيلية شاركت في الضربة الاستباقية صبيحة الخامس والعشرين من آب/ أغسطس ضد حزب الله. ساحة المواجهة أصغر بكثير هذه المرة، ومقدّرات تجسس العدو تفوق أشواطا ما كان متاحا له في حرب حزيران، ورغم ذلك فالهجوم الإسرائيلي هذه المرة لم يفلح بمثل ما كان يفلح في الأيام الخوالي. والسؤال هنا ينطق عن نفسه دون طلب: أين استباقيات إسرائيل اليوم من استباقياتها الكاسحة القديمة؟

* عندما يغدو مشهد عسكري بهذه الأبعاد محل أخذ وردّ وتباين في التقييم، فالمؤكد الوحيد هو أن مسار المقاومة ضد إسرائيل قطع شوطا طويلا منذ نشأته. صخب التباينات لا يحجب هذا المؤكد بل يزيده وضوحا؛ لأنه يُظهر أيَّ سقف من التوقعات صار مرتبطا بالقوى المناهضة لإسرائيل وأيَّ قوة صارت تُعوَّل عليها. لكن طرحا كهذا -سواء قبِله المرء أم رفضه- لا يحلّ السؤال الأول: لماذا يأخذ ردّ الحزب هذا الطيف من الرؤى والأحكام عند تقييمه؟

* هناك ملاحظة أولى تستحق الانتباه وإن لم تكن جوهرية بالضرورة، وهي دور الجغرافيا في تفاوت القراءات. تخمين الانتساب المناطقي من الطرح الفكري أمر ممكن جدا في أيام كهذه (وربما حتى من قبلها). إذا جَمَعت 10 نصوص تحليلية عن "يوم الأربعين" لكتّاب من فلسطين ولبنان يتشابهون في توجههم السياسي، ثم طَمَست أسماء كتّابها فإن استنتاج هويتهم من التحليل نفسه لن يكون صعبا على الأغلب. هذه تجربة ذهنية لا تبدو نتيجتُها مريحة تماما، خصوصا لمَن يُجلّ التحليل الموضوعي ويؤمن بإمكانيته. صحيح أن وطأة المكان على تفكير البشر مسألة بَدَهية ولا تخص حدثا دون سواه، لكن التنبه لها يضيء جانبا من السؤال الذي يشغلنا هنا. وعموما، ليس الأمر سيئا بالضرورة، فالجغرافيا أكثر من مجرد صخور وجرود وخرائط، هناك حمولة فكرية للمكان تطبع وعي ساكنه وتمنحه جزءا من عُدّته لفهم العالم. ليس أي من هذا محاولة لفلسفة الموضوع، بل على العكس: هذا تذكير باعتبار أوّلي جدا -ومادي جدا- في فهم التباين وتعدد القراءات.

* تبقى حكاية الجغرافيا جزءا من المشهد، الجزء الأكبر يتعلق بشيء آخر. كيفما قلّبت التعقيد الذي يرافق هذه الحرب وبحثت عن أصله.. كيفما نقّبت عن جذر التعدد في قراءة المواجهة ومنبع التباين في تقييم أحداثها، ستجد نفسك غالبا تعود لذات المكان: فارق القوة الهائل مع العدو. هذا ليس ضلعا من أضلاع المسألة، هذا بنية المسألة وهيكلها. أكثر الاختلافات تعود في ركائزها وأساساتها لفارق القوة هذا، ولأن الفارق ليس فارقا عاديا، فما يولّده من رؤى وفهم واجتهادات محكوم بأن يكون واسعا في تبايناته، وأحيانا شديدا في توتراته.

* في سياق حروب طويلة كهذه، يأخذ فارق القوة سمة وبائية، فتجده منتشرا في ثنايا المعركة ليصبح فارقا في كل شيء؛ في أسلوب القتال ونوع السلاح وسُلّم التصعيد وأدبيات المواجهة وتقييم الردود وحتى في تعريف النصر والهزيمة. لا يبقى للتوازي موضعٌ ولا معنى وسط كل هذا. في الحروب الطبيعية (وما أبشع هذا التعبير) لا تحتاج أكثر من ميزان بكفّتين حتى تقيس ما يجري وتحكم على سير المعارك؛ لو كان الأمر يخص أطرافا متكافئة، فالردّ على اغتيال قائد كبير لا يحتاج خيالا كبيرا: الاغتيال بالاغتيال، لكن ماذا لو أن فارق القوة لا يسمح بتناظر أنيق كهذا، عليك حينها أن تجد مكافئا موضوعيا لقائدك الكبير من داخل ممكنك العسكري. ينفتح الأفق حينها لاحتمالات كثيرة قاسمها المشترك أن تقييمها ليس ممكنا بالمقارنة العينية المباشرة والمقابلة بين الشيء ونظيرهالحُكم مضبوطٌ من داخل المواجهة بمرآة تضعها بين الطرفين، لكنّ حربا ضد غول استعماري كإسرائيل لا تصلح فيها الموازين ولا المرايا، وهناك غموض مزمن ومحتوم في قراءة أحداثها لأن القياس المباشر لا يعود ممكنا.

* اغتيال القيادي فؤاد شُكر (والرد عليه) يحكي الكثير في قصة التوازي وغيابه. لو كان الأمر يخص أطرافا متكافئة، فالردّ على اغتيال قائد كبير لا يحتاج خيالا كبيرا: الاغتيال بالاغتيال، لكن ماذا لو أن فارق القوة لا يسمح بتناظر أنيق كهذا، عليك حينها أن تجد مكافئا موضوعيا لقائدك الكبير من داخل ممكنك العسكري. ينفتح الأفق حينها لاحتمالات كثيرة قاسمها المشترك أن تقييمها ليس ممكنا بالمقارنة العينية المباشرة والمقابلة بين الشيء ونظيره. ليس للفعل هنا رد فعل "مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه"، أمام إسرائيل تحتاج فيزياء من نوع آخر، ليس فيها تناظر بسيط تأنس به النفوس؛ فيزياء لم تستقر قواعدُها حتى اليوم، ومختبرها ساحة حرب مفتوحة منذ عقود وطريقها معبّد بالضحايا ولا إجماع حول سبيلها الأجدى حتى الساعة.

* إن من يكتب من موقع القناعة بخط المقاومة، تحليلا ومداورة للأفكار، يخوض تحديا عسيرا. الكتابة هنا محاولة لعقلنة المواجهة بين الدم والسيف، وسعيٌ لرسم فضاءٍ مفهومٍ لهذه المنازلة، المختلة في ميزان قوتها ومقدّراتها. الكلام الوجداني في حتمية انتصار العين على المخرز ليس صعبا، أدبياتنا في هذا المجال غنية جدا وعمرُها بالقرون، الصعب الحقيقي هو عقلنة معركة العين واستبصار أفق ممكن لها في مواجهة المخرز. ليس الأمر مستحيلا، لكنه سيأتي حاملا معه اجتهادات شتى وتباينات لا مناص منها، وهي حمولة ينبغي التصالح معها -بل واحتضانها ما أمكن- لأنها من طبيعة المعركة وظرفِها القائم وقدرنا المكتوب.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه حزب الله اغتيال إسرائيل المقاومة إسرائيل اغتيال حزب الله المقاومة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

القراءة تفتح أبواب الحضارة.. شعار معرض الكتاب «اقرأ... في البدء كان الكلمة»

 

«اقرأ... في البدء كان الكلمة» شعار رفعته وزارة الثقافة بقيادة الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، عبر الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور أحمد بهى الدين، لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والخمسين، المقرر أن تنطلق في الفترة من 23 يناير الجاري إلى 5 فبراير المقبل بمركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس، يحمل في طياته رسالة عميقة تلخص أهمية القراءة ودورها المحوري في حياة الإنسان وتطور المجتمعات، ويجمع هذا الشعار بين العمق الديني والقيمة الثقافية للمعرفة، ما يجعله رمزًا خالدًا للدعوة إلى العلم والتعلم.

فالقراءة هي البوابة التي فتحت أمام الإنسان أبواب الحضارة والتقدم، فمنذ أن تعلم الإنسان تدوين أفكاره ونقل معارفه، بدأت مسيرة التطور العلمي والفكري، والشعار يبدأ بكلمة «اقرأ»، وهو ما حضت عليه الرسالات السماوية، وهذه الكلمة البسيطة تعكس مسؤولية كل فرد نحو ذاته ومجتمعه في السعي للعلم.

 الشق الثاني من الشعار «في البدء كان الكلمة» يعود إلى كتابات دينية فلسفية تُظهر أن الكلمة كانت البداية لكل شيء، والكلمة هنا ليست مجرد لفظ، بل رمز للإبداع والتواصل بين البشر، فالكلمة شكلت الأفكار، وبنت الجسور بين الثقافات المختلفة، وجعلت الحوار ممكنًا.

نظرة شمولية

 

الشعار يعكس نظرة شمولية تجمع بين العلم والمعرفة، حيث إن الدعوة إلى القراءة والاهتمام بالكلمة ليست مقصورة على جانب معين فحسب، بل تمتد لتشمل مختلف جوانب الحياة، خاصة أن القراءة هي الوسيلة التي تمكن الإنسان من فهم نفسه، وفهم العالم من حوله، وهي التي تمنحه القدرة على الابتكار والإبداع.

«اقرأ... في البدء كان الكلمة» دعوة عملية لكل فرد كي يجعل القراءة جزءًا من حياته اليومية، فالقراءة لا تغذي العقل فقط، بل تفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة، وتمكنه من أن يكون جزءًا فاعلًا في بناء مجتمع المعرفة، إنها دعوة للعودة إلى الجذور، حيث كانت الكلمة في البدء أساس كل شيء، وإلى المستقبل، حيث تظل القراءة مفتاحًا لكل تقدم.

شعار معرض الكتاب 2025 يلخص فلسفة إنسانية عميقة تعكس أهمية الكلمة المكتوبة، ودورها في تشكيل عوالمنا الفكرية والروحية، مما يجعلها حجر الأساس لأي نهضة ثقافية أو حضارية.

 

 معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025 يشارك به 80 دولة و1300 دار نشر، و6 آلاف عارض، وتحل سلطنة عمان ضيف شرف هذه الدورة، وتم اختيار اسم الدكتور الراحل أحمد مستجير، شخصية المعرض، والكاتبة فاطمة المعدول، شخصية معرض كتاب الطفل.

 

مقالات مشابهة

  • القراءة تفتح أبواب الحضارة.. شعار معرض الكتاب «اقرأ... في البدء كان الكلمة»
  • إيجابية الإلكتروني
  • لماذا اختار الله شهر رجب الذي تصب فيه الرحمات لفرض الصلاة؟ علي جمعة يوضح
  • سامح فايز يكتب: وهْم القراءة العشوائية
  • لماذا اختير الماء للعماد؟
  • السيد عبدالملك الحوثي: هذه الجولة من المواجهة علامة فارقة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي
  • لواء المكوك -النصر للعمدة عبد الباسط عبد الله
  • لماذا أوصى النبي بقراءة أذكار النوم كل ليلة؟.. لـ13 سببا الشياطين بينها
  • لماذا سمي رجب شهر الله؟.. اغتنم الأيام المتبقية منه لـ6 أسباب
  • نهضة مصر تطلق "صغار ديزني" لتشجيع القراءة للأطفال تحت سن 3 سنوات