في ذكرى كرري (2 سبتمبر 1898)
بابكر بدري وأمه: أحيّ يا رقيدتن في ضل القبة (قبة المهدي)
عبد الله علي ابراهيم
سنفسد سيرة بابكر بدري وأشواقه لنهضة النساء المسلمات متى قلنا إن مأثرة بابكر هي من أثر احتكاكنا بالحداثة الاستعمارية. وقصراً للحديث أقول إنه متى تواضعنا على هذا الزعم الفاسد جردنا الشيخ من مؤثرات ربما كانت أشد خطراً على صنيع الرجل.
والدة الشيخ امرأة باسلة. وأخذت حيزاً في سيرة الشيخ لا تناله الأمهات في السير الذاتية. فأنظر كيف تلقى محرري الصحافة التهاني لمجرد أنهم ذكروا أسماء أمهاتهم بمناسبة عيد الأم لعام ما. فالوالدة أنصارية على السكين. ووصفها بابكر بأنها صماء العقيدة. ولم تعتقد في المهدي اعتقاد سماع بل سعت إليه في ضواحي أم درمان بصحبة بابكر خلال حصار الخرطوم في 1884 لتبايعه على نصرة الدين، و"على زهد الدنيا واختيار الآخرة". ولبست الجبة الأنصارية وأخلصا معاً للمهدية. لقد دخلت الحاجة الثقافة من أوسع أبوابها وهو باب تغيير ما بنا لا مجرد تفسيره. وهذا من قول ماركس.
ليس من مشهد ذكر فيه الشيخ الوالدة إلا كان مشهداً تربوياً قاطعاً ذا عواقب. فقد غضبت يوماً لأن عم بابكر ضربه بغير رحمة لسبب بسيط. فأدخلت كتبه في شنطة من قماش وقالت له اذهب إلى مدني وتلقى العلم على عمك الفكي الإزيرق. ومضى بابكر من موطنه رفاعة إلى سوق المسلمية ومن هناك تعلق بأحدهم وسار خلف حماره يطلب بلدة مدني. فسأله الرجل عن مقصده. فقال بابكر إنه يطلب العلم عند الإزيرق. فسأله إن كان يحفظ القرآن. قال نعم. فطلب منه أن يقرأ من سورة حددها. ففعل. فأستردفه على الحمار قائلاً: "يا ولدي الحكيم قال لولده احفظ القرآن فإنه لا يرميك وإذا رماك يرميك في برش. وتعلم العلم فإنه لا يرميك وإذا رماك يرميك على سرير". وهذا الأدب التربوي من فوق حمار مما لا يستسيغه المحدثون ويظنونه من ترهات العامة.
وعقيدة الوالدة الصماء في المهدية منثورة في كل الجزء الأول من "تاريخ حياتي". وقد "جبدت" بابكر بشدة المراس في النبل. وكثيراً ما استعجب لعقيدته الصماء هو نفسه خلال تذكره لأيام المهدية. فلم يخطر له مثلاً ولو للحظة أن جيش المهدية ربما جاء خائباً من مصر. وكانت الوالدة خلاف الوالد المرائي. فقد عزم الوالد ألا يصحب حملة ود النجومي إلى مصر. ولكن زوجه هجمت عليه وقبضت على خده وقالت له "هوي يا دا الراجل الكافر صد براك من الله. نحن ما صادين شي". فضحك والده. وكان الوالد ينتقد النجومي لسفره للحرب بغير مؤونة. فكانت الوالدة تزجره: "لا تتكلم في ولد النجومي رابع الخلفاء".
ولعل من أكثر المواقع درامية في سيرة الشيخ تذكره بأس أمه (وكانت قد توفيت) وعباراتها في زجر زوجها خلال حملة النجومي حين اقتربت حملة كتشنر من أم درمان. فقد ظل والد بابكر على نقده للمهدية. فكان يقارن بين جيش كتشنر وجيش الخليفة، ويتصور نطحهما في كرري، وينتهي إلى أن الأنصار انهزموا وتجاروا نحو أم درمان. وكان يقلد صوت تراجعهم القهقري إلى البقعة أدد أدد (صوت الجري). وربما ساء بابكر هذا النذير وذكر أمه المتوفاة وكيف كانت بحياتها "تجضم" الوالد وتقول له: "هوي يا دا الراجل الكافر اسكت لا تتمنى للأنصار الهزيمة". ولكن حدث ما تراءى للوالد.
ولم تكن عقيدتها مجانية. فقد صحبت بابكر وأخوته وبناتها في مسيرة ود النجومي المأسوية إلى مصر. وعرفت فقد جنى الحشا من أجل العقيدة. فقد ضربت شظية موسى ولدها بعد تقهقرهم عن قرية إرقين في 1889 فاستشهد. فما زادت عن حمل حربة صغيرة فهزتها قائلة: "وليدي وهبته لله تعالى".
وكانت صحبة بابكر وأمه صحبة مناضلين اتحد قلباهما على أكثر من الرحم. ففي رحلة مصر الشقية كانت تتعثر لضعف بصرها. فتعثرت مرة على حجارة فكانت تتلافى السقوط بقولها: "في شان الله والرسول". وفَرّق بينهما أسر بابكر في مصر وبقائها في السودان ثم اجتمعا بعد نحو سنتين. وعاد بها إلى أم درمان في رحلة شقية أخرى فكانت تقول له: "أنا اتعبتك الله يقتلني ويريحك مني". فكان يذكرها بتعبه يوم حملته ووضعته وربته صغيراً. وكان يحبها ويحتال إلى مودتها. فقد جاء مرة بعد احترافه التجارة في أم درمان المهدية من رحلة لسواكن فوجدها نائمة. وقال إن من عادتها أن تصحو سحراً تصلي وتقرأ الراتب مع بناتها ثم تنام. فرمي عليها البطانية الهدية التي جاء بها عليها. فلما أيقظتها بناتها وشعرت بثقل ما عليها قالت: "بابكر جاء؟" فقلن لها طلباً للمعاكسة والشغب: "لا". فقالت إنها عرفته من البطانية التي دثرها بها. ثم حضنته وبكت حتى اعتذرت له أخته قائلة لأمها إنها شرقت بدموعها أذن بابكر. فدعت له: "تديه التيمان والرزق الكيمان". فولدت له زوجته حفصة عام 1895 توأمين بنتاً وولداً. وقال بابكر هذا من دعاء أمي.
وماتت الوالدة في 1895 وبابكر في قافلة تجارية. وقيل له إنها ما أفاقت من سكرة الموت إلا قالت "أنا عافية منك يا بابكر محللة لك حمل بطني ولبن ضرعي وحمل حكري". وكانت ترفض أن تدعو لأخيه الذي رعاها في أيامها الأخيرة في نفس العبارة بطلب بناتها المحرجات قائلة: " لا، بابكر رفيق بلانا لا أقرن به أحداً في عفوي" بل تُجمل الآخرين بقولها بصورة عمومية " عافية منكم يا أولادي ذكوراً وإناثاً". فقد كان بابكر "رفيقاً" لا مجرد ابن. كان زميلاً أنصارياً شهدا الوغى وسقاها وأطعمها بين فكيّ راجمات العدو.
واستمرت الوالدة مؤمنة بالمهدية إلى أن توفيت. وكانت تقول دائماً: "أحي يارِقيدة في ضل القبة".
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: أم درمان
إقرأ أيضاً:
مجزرة الصالحة صدمة سودانية جديدة واتهامات للدعم السريع بارتكابها
تصدر وسم "مجزرة_الصالحة" منصات التواصل الاجتماعي السودانية، بعد انتشار مقاطع فيديو تُظهر ما قيل إنها جرائم ارتكبها مقاتلون ينتمون إلى قوات الدعم السريع بحق مدنيين من أهالي منطقة الصالحة، جنوبي مدينة أم درمان.
فقد أظهرت مقاطع الفيديو اعتقال مجموعة من المدنيين في منطقة الصالحة من قبل عناصر مسلحة، بزعم أنهم يتعاونون مع الجيش ويرسلون إحداثيات له.
وأوضحت المقاطع مشاهد مروعة، حيث أُعدم عدد من المعتقلين أثناء احتجازهم، بينما أُجبر آخرون على السير عُراة ومعصوبي الأعين في طوابير، حيث جرى استعراضهم في شوارع الصالحة بهدف إرهاب السكان.
⛔⛔⛔
قامت مليشيا الجنجويد نهار اليوم الأحد بتصفية مواطنين عزل إقتادتهم من منازلهم بمنطقة الصالحة جنوب أم درمان، بحسب شبكة أطباء السودان بلغ عدد المواطنين المغدور بهم 31 مواطن من بينهم أطفال.
تواصل المليشيا إستهدافها الممنهج ضد المدنيين دون أي جرم إغترفوه. pic.twitter.com/YnL7CwoUCj
— أخبار شرق كردفان (@EastKordofan) April 27, 2025
كما أظهرت مشاهد أخرى قيام المسلحين بحرق بعض الجثث، وهي صور تمتنع الجزيرة نت عن نشرها نظرا لبشاعتها الشديدة.
وأشارت شبكة أطباء السودان إلى أن قوات الدعم السريع قتلت 31 شخصا، بينهم أطفال، في منطقة الصالحة جنوبي أم درمان، ووصفت الحادثة بأنها واحدة من أبشع المجازر التي شهدتها البلاد مؤخرا.
شبكة أطباء السودان: الدعم السريع ينفذ مجزرة بمدينة "الصالحة" بأمدرمان ويصفي 31 شخصا بينهم أطفال قصر.
ارتكبت قوى من الدعم السريع مجزرة جماعية بتنفيذها عملية تصفية ميدانية لعدد 31 شخصا من أبناء منطقة صالحة بينهم أطفال قصر في أكبر جريمة قتل جماعي موثقة تشهدها منطقة صالحة بتهمة… pic.twitter.com/9A8z5zQKVi
— Sudan Doctors Network – شبكة أطباء السودان (@SDN154) April 27, 2025
إعلانولاقى التسجيل المصور، الذي يوثق الجريمة، صدمة عميقة في الأوساط السودانية. وعلّق مغردون ومستخدمو وسائل التواصل على المشهد المروع، معتبرين أن هذه الجرائم تجسد الانحدار البشري الخطير الذي تعيشه البلاد مع استمرار الحرب.
مقاطع الفيديو حول المجزرة التي ارتكبتها المليشيا الإجرامية بالصالحة مؤلمة وصادمة.
جريمة إبادة جماعية ضد مواطنين عزل.
ينبغي على الجهات العملية ملاحقة هؤلاء القتلة!#جنجويد_قحاطة #قحاطة_ياكوم_الرماد pic.twitter.com/QpJgQVFlkI
— ماهر احمد المبارك (@mahir0912411) April 27, 2025
وكتب أحد المغردين: "التسجيل الذي يظهر عناصر من قوات الدعم السريع وهم ينفذون تصفيات بدم بارد بحق أشخاص عزل، ويقفزون فوق جثثهم، يجسد الانحدار البشع الذي تجر إليه بلادنا يوما بعد يوم".
وأشار آخرون إلى أن هذه الجرائم لا ينبغي لها أن تصبح مشهدا عاديا نعتاد وجوده. يجب محاسبة مرتكبيها دون تهاون.
واعترف مصطفى محمد إبراهيم مستشار قائد قوات الدعم السريع على الهواء بالعملية التي وصفها بالنوعية.
اعتراف على الهواء مباشرة من مستشار مليشيا #الدعم_السريع الإرهابية :
الجنجويدي مصطفى محمد ابراهيم يعترف على الهواء مباشرة بتصفية المواطنيين في منطقة الصالحة في أمدرمان صباح اليوم وأوضح أنهم لا يريدون اي عبء إداري بمعنى( سنقتل الجميع اسرى او مدنيين مختطفين لدينا ) وأوضح انهم بصدد… pic.twitter.com/MMRZuVwUwe
— Mahmoud Hassan (@AL_70o0T_) April 27, 2025
وتعيش منطقة الصالحة أوضاعا إنسانية مأساوية، حيث فرضت مليشيا قوات الدعم السريع حصارا خانقا على السكان الذين أصبحوا محرومين من أبسط مقومات الحياة. وأفادت مصادر محلية بأن مليشيات الدعم السريع حولت الأحياء السكنية إلى مواقع عسكرية ومخازن للأسلحة، واستخدمت المدنيين دروعا بشرية، وأضاف السكان أن عدد المعتقلين بلغ 154 شخصا، بينهم نساء وأطفال، وسط تفاقم الجرائم الممنهجة من قتل، ونهب، وابتزاز.
إعلانوأصدرت قوات الدعم السريع بيانا تنفي فيه أي صلة لها بالعناصر التي ظهرت في مقاطع الفيديو.
ودعا بعض المغردين لجان المقاومة في المنطقة المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية إلى التدخل العاجل لإنقاذ المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم المروعة.
وعبروا عن خوفهم من أن تصبح مثل هذه المشاهد جزءا من الحياة اليومية، في ظل الصمت الرسمي والتخاذل الدولي.
الإرهابي المدعو " جار النبي" وهو أحد القادة الميدانيين لمليشيا الدعم السريع في قطاع جنوب أم درمان، والذي أشرف بالأمس على تصفية عدد من المواطنيين العزل في غرب أم درمان بدم بارد.#السودان #جرائم_الدعم_السريع #مجزرة_صالحة pic.twitter.com/9nlgSf5eNj
— Sudan News (@Sudan_tweet) April 28, 2025