المقاربات الجائرة بين الثورة المهدية…..و مليشيا الجنجويد الدموية !
تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT
عدنان زاهر
1
يتفق الكثيرون على أن هنالك ضرورة قصوى لإعادة الكتابة التوثيقية لتاريخ السودان الحديث، زاد الأمر الحاحا الآن بعد فقدان كثير من الوثائق المهمة في الحرب الدائرة اليوم نتيجة لاعتداء الجنجويد و تدميرهم لمؤسسات المعرفة بما فيها دار الوثائق السودانية. و زاد الامر اهمية ظهور كتابات في وسائل التواصل الاجتماعي تحاول التشكيك في ثورية ووطنية الثورة المهدية وتصوير الصراع و الحرب الدائرة اليوم بانها امتداد للصراع بين الأشراف و الخليفة عبدالله و أن الجنجويد هم الجهادية الجدد.
يتم ذلك من خلال سرد و ايراد بعض من وقائع تاريخ المهدية بطريقة مشوهة، و أيضا من خلال استدعاء وقائع مبتورة من تاريخ المهدية بطريقة ترقى الى درجة التزوير و من ثم اسقاطه بطريقة ميكانيكية على الواقع الماثل مستغلين في ذلك الغضب و المرارة التي يشعر بها المواطن تجاه المليشيا الدموية و أيضا شح المعلومات لمعرفة الحقيقة.
في هذه الورقة أحاول وضمن استعراض مختصر ايراد أمثلة من شاكلة المقالات التي تحاول الافتراء على تاريخ المهدية وأورد مثالين من شاكلة تلك المقالات ( أحدهما يتحدث عن سقوط الخرطوم عام 1985 و مقتل غردون و الفظائع التي تمت بعد فتح الخرطوم تجاه سكانها بعنوان ( المسكوت عنه في التاريخ ) و هو عنوان يقصد به الأثارة من جانب و يستغل التوجه السائد لإعادة كتابة التاريخ كسند و مرتكز لحديثه.
المثال الثاني هو ايراد مقتطفات من كتاب " حياتي " لرائد التعليم و المربى بابكر بدرى الذى شارك في فتح الخرطوم للاستدلال بها لتدعيم حجته ووجهة نظره بأن الجنجويد هم الجهادية الجدد؟
يلاحظ في الحالتين اغفال الكتاب لذكر أسمائهم !!!!
2
في تقديري عند كتابة التاريخ أو الاستدلال به يجب على الكاتب أن يورد حديثه أو مقاله مدعما بالظروف التي تمت فيها تلك الوقائع لأن التاريخ لا يعيد نفسه مرتين، و لأن الظروف الموضوعية هي التي تشكل الوقائع التي تتم فيها الأحداث.
عند الحديث عن تحرير الخرطوم من يد الاستعمار التركي المصري و مقتل غردون لا يمكن تقييم تلك الأحداث بمعزل عن تاريخ نظام الاستعمار التركي المصري و عن الفظائع التي قام بارتكابها تجاه مواطني السودان منذ استعمار السودان في العام 1921 ، و نحن نذكر بعض منها لتنشيط ذاكرة القارئ :
1- لا يمكن نسيان الإبادة الجماعية التي تمت بواسطة الدفتردار بعد مقتل إسماعيل باشا على يد المك نمر، و عرفت في التاريخ بحملة الدفتردار الانتقامية ، و الدماء التى سفكها السفاح الدفتر دار انتقاما لمقتل ( صهره ) و التي لا تتعارض فقط مع قوانين الحروب بل أيضا مع القوانين الإنسانية.
و قد ورد في ( مخطوطة كاتب الشونة ) أحمد بن الحاج على ( ان عدد القتلى يقدر 50 الف نفس. و قتل في مجزة المتمه وحدها 2000 قتيل و ثلاث ألف أسير قتلوا عن أخرهم. بعد ذلك فقد نكل بالحسانية، الشكرية و جل الهمج و أحرق شندي، توتي، الحفاية و العيلفون و قتل أهلها تقتيلا ).
2- الحملات اتى قام بها ذلك الاستعمار لاسترقاق السودانيين لاستخدامهم كجنود الهدف الأساسي من غزو السودان كان هو جلب ( الأرقاء و الذهب ). ممارسات جلب و اصطياد الرقيق قد تسببت في تفكك المجتمعات السودانية التي تم استرقاق البعض منها. كما ان سياسة الاسترقاق أدى الى اضعاف القوى البشرية، اما من جراء الأسر او الموت في المعارك أو النزوح و التشتت.
3- نهب و سرقة الذهب من كردفان و النيل الأزرق – فازغلى - خاصة بنى شنقول بشكل متعسف يشابه ما تقوم به القوى المتحاربة اليوم.
4- القسوة المفرطة و العنف الذى كان يمارسه الاستعمار التركي المصري في جمع الضرائب من المواطنين، و التفنن في تعذيب المواطنين لجمعها تجاه قوم هم في الأساس فقراء ، مما ولد مرارة يحكى عنها اليوم وبعد مرور أكثر من قرن و نيف. كثير من المجازر ارتكبت على يد أبوودان باشا و المنكلى باشا حتى لقب أبودان بالباشا الجزار.
5 – ذكر ونجت باشا مؤلف كتاب ( المهدية و السودان المصري ) و مدير مخابرات جيش كتشنر الغازي و من بعده حاكم عام السودان المستعمر،......حول الثورة المهدية ( بأنها كانت وليدة ظلم و قهر الادارة التركية ) كما ذكر أيضا ( بأن النظام التركي قد اتسم بالظلم ، الجور و القهر ).كما سار نعوم شقير على نفس النهج ذاكرا أن ظلم و عنف الادارة التركية المصرية كان من أسباب الثورة المهدية.
6 – يتجاهل الذين كتبوا عن المهدية و بقصد لعنف الاستعمار الإنجليزي المصري، فقد أغتال الجنرال الغازي " كتشنر في ظرف سته ساعات " عشرة ألف مقاتل سوداني في معركة كررى كما جرح 16 الف محارب و استباح أمدرمان.
7 – يجب الانتباه الى ان القوانين المنظمة للحروب كانت قليلة في أواخر القرن التاسع عشر، و أن معظم القوانين الإنسانية كتبت بعد الحرب العالمية الأولى و الثانية و تأسيس الأمم المتحدة
- لا أحد ينكر التجاوزات التي تمت بعد فتح الخرطوم رغما من أمر المهدى بألا يقتل غردون لأنه كان ينوى فداء عرابي مصر بغردون باشا و أن لا يقتل المواطنين، كما لا ينكر العنف الذى مارسه الخليفة، و لكن رغم ذلك يجب أن ينظر الي تلك التجاوزات و القتل، وفقا للمعطيات التي ذكرتها، و بالطبع لا يعنى ذلك الأعفاء من المسئولية. ام العنف الذى مورس تجاه فقهاء السلطة من السودانيين الذين كانوا يهاجمون المهدى و يظاهرون غردون فهو يقيم أيضا وفق ما ذكرته أعلاه.
الكاتب لمقال ( المسكوت عنه في التاريخ )، يعتمد على كتاب إبراهيم فوزى باشا سكرتير غردون الذى تم أسره بعد سقوط الخرطوم و تم تحريره على يد كتشنر بعد معركة كررى. هذا الكاتب لا يمكن الوثوق في كتابته أطلاقا فهنالك رواية تقول بانه كان مشاركا لغردون في انتشار الجدري في امدرمان و حصده لألاف الأرواح بعد قصف أمدرمان بقنابل تحمل فيروسات الجدرى. فلذلك يجب أخذ شهادته بحذر شديد،فقد كان حاقدا على المهدية كصنوه سلاطين باشا و قد تمت معظم الكتابات عن المهدية في تلك الفترة تحت رعاية الميجر " ونجت باشا " مدير المخابرات في ذلك الوقت و مؤلف كتاب ( المهدية و السودان المصرى ).
تعليقي عن كتابات فتح الخرطوم تنطبق على المقتطفات التي انتزعها الكاتب قسرا عن كتاب حياتي لبابكر بدرى
2
الغرض من مثل هذه الكتابات أو مرامي هذا الخطاب
1- مثل هذه تلك الكتابات خفيفة الوزن لاعتمادها عن مصادر ممعنه في تزوير التاريخ ، تعمل على تغبيش الوعى لدى المواطن، خاصة بعد حكم الانقاذ الذى منع و حذف مادة التاريخ طيلة ثلاثين عاما من المناهج المدرسية و جعلت المتخرج من تلك المدارس لا يعرف أبسط الأشياء عن تاريخ وطنه.
2- تستهدف مثل تلك الكتابات و تحت دعاوى إعادة كتابة التاريخ ، الحط من تاريخ المهدية كثورة قامت ضد المستعمر الأجنبي ووحدت ملايين السودانيين للكفاح من أجل الاستقلال، كما ان هؤلاء الكتاب يعملون بانتقائية على التقاط السلبى من تاريخ المهدية و تجاهل لكل الإيجابيات. الثورات في العالم ليس كالرسالات الدينية مبررة من الخطأ خاصة انها انفجار يحدث بعد غبن و اضطهاد طويل للمواطنين.
3- تهدف مثل تلك الكتابات الى اثارة النعرات العرقية بإشارات مستبطنة، و ذلك بان من قام بتلك التجاوزات هي القبائل التي استظل بها المهدى في ثورته في البداية و هي قبائل الغرب. و هي محاولة لأحياء الصراع القديم بين أولد البلد و أولاد البحر الذى جسمه معسكر الخليفة عبدالله و معسكر الأشراف.
في تقديري تلك المقاربات التي يحاولون ايرادها ساذجة فلا الجنجويد هم الجهادية و له المواطن السوداني هم الأشراف. لقد تم انشاء مليشيا الجنجويد في العام 2003 على يد الحركة الإسلامية الحاكمة و الجيش السوداني و كانت تتبع لجهاز الأمن و المخابرات السوداني. و قد تم استخدامها لمحاربة الحركات المسلحة، و قد ارتكبت أسوأ أنواع الجرائم في دارفور و قد بلغ عدد القتلى في دارفور في ذلك الوقت أربعمائة الف قتيل ام عدد ضحايا تلك الحرب فقد بلغ اربع مليون شخص.
و صنفت تلك الجرائم كجرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية كما جاء في تقرير القاضي " أنتوني كاسيس " الذى قدم الى السكرتير العام للأمم المتحدة في العام 2005 . قام مجلس الأمن بناء على تقرير كاسيس بإحالة تلك القضايا الى محكمة الجنايات الدولية، التي قامت بدورها بتوجيه تهمة الإبادة الجماعية الى كل من عمر البشير، عبدالرحيم محمد حسين أحمد هارون، على كوشيب، عبدالله باندا ،بحر أبو قردة و صالح جربو.
حملت مليشيا الجنجويد عدة أسماء في كل مرحلة فقد سميت قوات حرس الحدود في العام 2007 و بعد إعادة هيكلتها سميت قوات الدعم السريع في العام 2013 و سن قانون خاص بها من برلمان الحركة الإسلامي في العام 2017 الذى عدل في العام 2019 و صارت بذلك التعديل تتبع مباشرة الى القائد العام عمر البشير.
4- مثل تلك الكتابات تحاول البعد عن ذكر السبب الحقيقي عن الحرب لتمييع و حرف الصراع، فالصراع الأساسي بين قوى الرأسمالية الطفيلية حول السلطة و موارد البلد و تحديد الذهب و المواد الأخرى.
5 - أيضا تعمل تلك الكتابات على إخفاء و ابعاد الدور الإقليمي و الدولي في صراع السودان خاصة الإماراتي، السعودي، المصري و الأمريكي و محاولة ارجاعه لعامل تاريخي.
مثل هذه الكتابات تلعب على الدوام دورا سلبيا في الصراع الدائر اليوم ، لذلك يجب فضحها من خلال وقائع التاريخ نفسه الذى يحاول الكاتب الاستناد اليه. ثورة المهدى كانت ثورة عظيمة و حقيقة تأثرت بها بعض الدول الأفريقية و الدول الآسيوية، و أرعبت العالم الرأسمالي في ذلك الوقت خوفا من الاقتداء بها.
عدنان زاهر
أغسطس 2024
مراجع
القدال ( تاريخ السودان الحديث 1820 1955 ).
سيرجى سمرنوف ( دولة المهدية من وجهة نظر مؤرخ سوفييتي ) ترجمة هنرى رياض
أحمد أبراهيم أبو شوك ( مذكرات يوسف ميخائيل التركية و المهدية و الحكم الثنائي في السودان )
محمد عبدالخالق بكرى ( سيرة الإعدام السياسي في السودان 1821 – 1898 ).
ونجت باشا ( المهدية و السودان المصري ).
د سلمان محمد أحمد سلمان – قوات الدعم السريع – النشأة والتمدد والطريق الى حرب أبريل 2013
elsadati2008@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فتح الخرطوم التی تمت فی العام التی تم على ید فی ذلک
إقرأ أيضاً:
إبرة البرهان .. آلة التفكيك المدمرة لأبنية الجنجويد
من المعلوم في دائرة النقد الأدبي ،
أن الناقد الفيلسوف جاك دريدا ،
صاحب النظرية ” التفكيكية ” ، قد واجه نقدا غليظا منقطع النظير لمنهج نظريته التفكيكية المدمرة التي أعلنها وكرسها نهايات القرن العشرين .
فالتفكيك هو تدمير للأبنية الشائهة وإزالتها ، ومن ثم إعادة بناء أو تأسيس أبنية أخرى تتوهج بإشراق جديد للإنسانية ، بلا أكاذيب وأوهام .
قاسى دريدا من غلظة الناقدين لنظريته التفكيكية ،
إلا أنه ثابر ،
فبقدراته وافكاره النقدية ،
ومهاراته الذكية ،
مضى عابرا بسلام في نشر نظريته ،
وتسويقها من خلال التطبيقات التي أجراها بنفسه كاشفا عن نظريته الجديدة ، بوصفها الأكثر تناسبا مع وقائع العصر ومطلوباته .
استدعيت ذلك النموذج في التفكير المغاير للسائد والمألوف ..
وأنا أتأمل وقائع حرب الكرامة ، التي اتبع فيها الفريق أول عبدالفتاح البرهان – قائد الجيش – منهجا غير مألوف في مواجهة مليشيات الجنجويد .
ولعمري ما عرف التاريخ ، قائدا للجيش واجه نقدا غليظا مثلما وجهه البرهان ، ضدا
للمنهج الذي الذي أطلق عليه ” الحفر بالإبره ”
وبدا وقتئذ لدى أغلب الجمهور أن البرهان ليس إلا كتلة منتجة للتناقضات المريعة .
غير أنه وبمرور الوقت ، رغم المآسي والآلام ، تتجلى حقيقة أخرى .
أن الفريق أول عبدالفتاح البرهان سعى بذهن مبدع خلاق متجاوزا الذهنيات التقليدية ، بحثا عن منهج قتالي يتناسب مع الواقع المشاهد والمحسوس والملموس لديه على أرض الواقع والموضوعي .
فافترع منهجه الحربي التفكيكي المدمر الجديد ” الحفر بالإبرة ” .
استطاع بالمهلة والتمهل وبمهارة فائقة أن يفكك الأبنية الحربية الدولية التى امتطت ظهور .
” الإبرة ” برعت في عمليات الحفر وتفكيك الجنجويد لا عسكريا فحسب ، بل شعبيا ودبلوماسيا .
نتائج إجتماع مجلس الأمن الدولي ، والفيتو الروسي الذي انتصر للإرادة السودانية ، ما ذلك إلا دال من دوال نجاح ” إبرة البرهان ” .حفرا وخلخلة وتفكيكا ودمارا شاملا للجنجويد بإذن الله .
من اجل ان نعيد بناء السودان من جديد ، وإزالة كل أنساق أبنية الوهم والاكاذيب .
الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
فضل الله أحمد عبدالله إنضم لقناة النيلين على واتساب