لجريدة عمان:
2025-01-05@11:38:33 GMT

سلطنة عُمان.. ترويض الحَواس والمحبة قوة

تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT

يوظف أهلي في السودان مثلا شعبيا هو من بلاغتهم الدينية للدلالة على جوهر حياة الإنسان، حياته الاجتماعية التي لا يملكها وحده بل هي تميمة بليغة تحكي كيف للإنسان أن يعيش بالناس وفيهم، يقولون: «الماعندو محبة ما عندو الحبة» و«الحبة» لدلالة على القِلَّة، أي أن من لا يَسَع قلبه محبة الآخرين القريبين والبعيدين، المغايرين لنمط وعيه الثقافي، من لا يملك لهم هذه المحبة الصافية في القلب دون كُلفة فإنه إنسان ضعيف، ورقيق الحال، فالأقوياء هم الوحيدون القادرون على المحبة، أما من يستسلمون لذواتهم فإنهم يسمحون لها أن تصنع فيهم الكراهية أنانية تعميهم عن إبصار الحياة في الذَّر، أو كما يقول شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب (توفي 1982م) باحثا عن سر الحياة «أيكون الخيرُ في الشرِ انطوى والقوى خرجت من ذرةٍ هي حبلى بالعدم».

.

والسر وراء هذه المقدمة يعود إلى رحلتي إلى مطار مسقط الدولي مستقلا سيارة أجرة، وقد كان يوما ضجرا، اشتعلت فيه ذاكرتي بمآسي وأحزان أُجهد نفسي لإخفائها، ولذا تمرد عليَّ مزاجي وأقحمني في صراعٍ مُر.. صعدت إلى المركبة وألقيت السلام على الرجل كمن يلقي حقيبته المتعبة عند مدخل البيت، ليقابلني الرجل ببشاشة، ويمنحني تذكارا عُمانيا خاصا هو الطريقة العمانية في إلقاء التحية، ودودة ومشبعة بالرقة، وكأن الرجل استشعر أن في عيني كلام مخنوق بدواعي الالتزام والخصوصية، ثم بدأ يسحبني برفق إلى الحديث، سأل: كيف حالك؟ - الحمد لله - من السودان؟ - نعم، أليس من الواضح، ثم تنبهت إلى غباء سؤالي وأنا المشتغل على قضية التنوع في المجتمعات، ومنها مجتمعي، فالرجل من بلد يعيش حالة من كونية الهوية، فليس في اللسان أو الشكل أو الصوت أو حتى الزي دلالة قاهرة على انتماء مرتب، فهذه بلاد تتقن الحنين إلى الوجود؛ الوجود مطلقا، ولذا التأمت على معنى إنساني جعل من أهلها نغمة مستقرة في لحن عظيم خالد..

وأحاديث الرجل سيطرت على تفكيري بصورة جعلتني استرجع بعض ما قرأت عن طبيعة الشخصية الاجتماعية، وعن مكوناتها، وكيف تتشكل؟ وعلى ماذا تتغذى في سلوكها؟ ووجدت في الكلام العادي في الشخصية العمانية مدخلا لـ«فك رموز» الهوية، الشخصية، والذات الاجتماعية»، وكما يقال إن هناك شخصية فطرية تقوم على قاعدة من بداهات مطلقة تكتسبها من البيئة التي تعيش فيها، وإن هذه الشخصية تملك قدرة عالية على الانسجام مع الآخرين، إذ لا يحدها فضاء من قيم ومعارف وأشكال سلوكية متمترسة في ذاتها بل حتى في لا وعيها، ولذا فإنها شخصية تتسم بقدر عال من التسامح، وهي تعبير حي عن بيئتها، ومصداق للدراسات التي تهتم بفهم «الشخصية» انطلاقا من عامل البيئة ثم إلى الأفراد الذين يعيشون فيها، إنهم مجموعة تفسر بشكل كبير كيف يمكن للمجتمعات المتسامحة أن تصبح تمثيلا مفهوميا لبيئتها التي صنعت فيها هذا النوع من القبول، ومفهوم الشخص في العلوم الاجتماعية يعود إلى دوركايم والذي اشتغل بصورة منهجية لاعتماد تصور علمي للفرد، لكن لم يعد هذا المفهوم (=الشخص) يعني الفرد فقط، بل «الذات والأنا، والذات والذات...» وكل هذه العناصر هي التي تشكل مفهوم الشخص والذي هو نتيجة وعيه بوجوده، إذ هو كائن أخلاقي واجتماعي، ومصادر أخلاقيته تعتمد على البيئة التي نشأ فيها والتي تمده بأسباب اندماجه بالصورة التي عليها صديقي قائد المركبة.

وقد وصلت الاختراقات البحثية في علم الاجتماع الحديث إلى تحديد إطار عام وكلي لشخصية كل شعب، والحقيقة أن الأمر قديم، ففي الأربعينيات والخمسينيات كان الحديث يجرى عن مفهوم «الرجل الكامل» والذي كان تعبيرا عن رؤية رومانسية في العلوم الاجتماعية وهي بعد تتشكل، رؤية تبشر بوحدة الفرد تحت ظل معنى قومي، لكنه يبقى معنى جمالي أكثر منه علمي، وقد نجد هذا الأمر عند عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس (توفي 1950م) صاحب الكتاب الشهير «مقالة في الهِبة»، وموس كان قد ألقى في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي محاضرة بعنوان: «مفهوم الشخص، فكرة الـ«أنا»، ومن آثاره المهمة مقارنته بين أنواع ثلاثة من «التمثيل الاجتماعي» للشخص، وفيها دَرَس مجتمعات مثل: الأمريكية والهندية والرومانية القديمة، ومن خلاصاته المهمة في ذلك: إن الشخصية الجماعية تهيمن على الفرد، مثل هيمنة العشيرة على أفرادها الذين يجسدون حضورها المعنوي والمادي وإن بأشكال مختلفة، ويسميها موس «الأقنعة» وهي بمثابة تمثيل جماعي لأفراد شعب ما، كلٌ بمكانته الاجتماعية ومواقفه وقِيمه، ولكل فرد في هذه الجماعة دور يصفه مُوْس بالتزامني، وهو دور تحكمه التقاليد ويتركب فيه السلوك على الميراث المتخيل والمنتقل من جيل إلى آخر، وعبر هذه العملية المركبة من التعايش والتجاور في السلوك والتمثيل يحدث الاستقرار في المجموعة.

وبالعودة إلى صديقي رفيق الرحلة إلى المطار فقد ملأ عليّ وقتي بالحديث عن المنطقة التي أعيش فيها، وكيف أن اسمها في السابق هو نقيضها اليوم، وأن عبقرية هي من حقائق السلطان قابوس -رحمه الله- أن اختار لها اسما يتحدى به طبيعتها، ويعلن أنه ليس من المستحيل أن تصنع الأوطان بسواعد بنيها، وأن تتوفر على أيديهم تنمية ناطقة متى صح العزم.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

قم للمعلم… وكفي

بقلم صلاح الباشا

لازالت الوسايط التي نشرنا فيها النعي الأليم لوفاة استاذنا الجليل واستاذ الأجيال بودمدني بابكر سربل الذي وافته المنية بالاسكندرية وما احدثه هذا الخبر الحزين في نفوس أبناء ودمدني في الدنيا كلها .. فقد ارسل لي صديقي ودفعتي المهندس هاشم عبدالسلام الحاج أحمد المقبول سليل أسرة السناهير بودمدني والمقيم بمنزله بالثورة ام درمان وقد هزه حدث صحفي عن معلم ما .. ومارافق ذلك من تداعيات إيجابية نسردها هنا بحذافيرها ومعها صورة مرفقة خاصة بذات الحدث.
والمقال كالتالي:
كبير إستشاري أمراض القلب في المستشفى الملكي بلندن .
الدكتور الشهير ضياء كمال الدين
دخل القاعة لحضور حفل تكريمه إثر زيارته للقاهرة بعد غياب دام اكثر من 15 عام .
وعند مدخل القاعة استوقفه منظر بائع جرائد كبير السن مفترشا جرائده على الرصيف .
اغلق الطبيب عينيه ثم سرعان مافتحهما .
تذكر ملامح هذا الرجل العجوز المحفورة في ذهنه .
جرجر نفسه ودخل القاعة ثم جلس بهدوء وهو لم يزل يفكر ببائع الجرائد
عندما نودي على الدكتور لتقليده وسام الابداع من الدرجة الاولى قام من مكانه ، لكنه لم يتوجه الى المنصة بل توجه الى خارج القاعة وسط ذهول وحيرة الجميع .
اقترب من بائع الصحف وتناول يده فسحبها
رد عليه البائع قائلاً :
ارجوك اتركني اتوسل اليك اني اعيل عائلة واعدك بأنني سأغادر المكان ولن أفترش هنا مرة اخرى .؟
رد عليه الدكتور بصوت مخنوق :
انت اصلآ لن تفترش لا هنا ولا بأي مكان مرة اخرى لكني أرجوك تعال معي لندخل القاعة ارجوك .
ظل البائع يقاوم والدكتور يمسك بيده وهو يقوده الى داخل القاعة ... تخلى البائع عن المقاومة وهو يرى عيون الدكتور تفيض بالدموع وقال له :
مابك يا بني ؟
لم يتكلم الدكتور وواصل طريقه الى المنصة وهو ممسك بيد بائع الجرائد والكل ينظر اليه في دهشة ثم انخرط في موجة بكاء حارة واخذ يعانق الرجل ويقبل راسه ويده ويقول :
مازلت لا تعرفني يا استاذ "خليل "؟
قال : لا والله يا ابني العتب على النظر .
فرد الدكتور وهو يكفكف دموعه :
انا تلميذك "ضياء كمال الدين" في الاعدادية المركزية .
هل تذكرتني . لقد كنت الاول دائمآ . وكنت انت من يشجعني ويتابعني سنه 1966 يا استاذي الفاضل .
نظر الرجل الى الدكتور واحتضنه
تناول الدكتور الوسام وقلده للاستاذ وقال للحضور :
هؤلاء هم من يستحقون التكريم ... والله ما ضعنا وتخلفنا وجهلنا إلا بعد إذلالنا لهم ... وإضاعة حقوقهم وعدم إحترامهم وتقديرهم بما يليق بمقامهم وبرسالتهم السامية .
انه الاستاذ خليل علي استاذ اللغة العربية في الاعدادية
قصة حقيقية
تصوير واقعي .
إنتهي ؛؛؛
وقد رددت علي الاخ المهندس هاشم عبدالسلام بعد ان إنفعلت بعمق مع قصة الدكتور واستاذه .. فكتبت له الرسالة التالية:
....
وانا ايضا كنت مدرس لخمس سنوات في بيت المال بأم درمان خلال دراستي بحامعة القاهرة. ولايزال العديد من تلاميذي وقد تلاحقت الكتوف متواصلين معي ويذكرونني بالخير الكثير ومعظمهم بروفيسورات واخصائيين ومهندسين ومحامين وقضاة ومحاسبين واداريين واستاذة جامعات ومهن اخري عديدة حتي التجار منهم.
وتحياتي
صلاح الباشا
القاهرة

abulbasha009@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • رئيس مجلس النواب يزور الكاتدرائية لتهنئة البابا تواضروس بعيد الميلاد المجيد
  • رئيس مجلس النواب يزور الكاتدرائية للتهنئة بعيد الميلاد المجيد
  • بالفيديو.. “مُثقف” سعودي يطرب أحد أصدقائه بأغنية سودانية نادرة ويحكي قصة صاحبتها الفنانة الحسناء التي ولدت في العام 1920 وتغزل فيها شاعر الحقيبة بأغنية شهيرة وينشر صورة لها
  • في عام 2025.. ما الدول الخمس التي يفضّل الأمريكيون الإقامة فيها؟
  • كيف تؤسس شركة في يوم واحد .. اعرف الخطوات
  • طرح كتاب ترويض الذكاء الاصطناعي في معرض القاهرة الدولي للكتاب
  • طرح كتاب “ترويض الذكاء الاصطناعي” في معرض القاهرة الدولي للكتاب
  • قم للمعلم… وكفي
  • مدير تعليم الإسكندرية: المصريين جميعًا يشكلون نسيجًا واحدًا يجمعهم تاريخ عريق
  • قهوة النواوي تناقش فكرة حرية الاختيار