لجريدة عمان:
2024-11-07@07:27:20 GMT

سلطنة عُمان.. ترويض الحَواس والمحبة قوة

تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT

يوظف أهلي في السودان مثلا شعبيا هو من بلاغتهم الدينية للدلالة على جوهر حياة الإنسان، حياته الاجتماعية التي لا يملكها وحده بل هي تميمة بليغة تحكي كيف للإنسان أن يعيش بالناس وفيهم، يقولون: «الماعندو محبة ما عندو الحبة» و«الحبة» لدلالة على القِلَّة، أي أن من لا يَسَع قلبه محبة الآخرين القريبين والبعيدين، المغايرين لنمط وعيه الثقافي، من لا يملك لهم هذه المحبة الصافية في القلب دون كُلفة فإنه إنسان ضعيف، ورقيق الحال، فالأقوياء هم الوحيدون القادرون على المحبة، أما من يستسلمون لذواتهم فإنهم يسمحون لها أن تصنع فيهم الكراهية أنانية تعميهم عن إبصار الحياة في الذَّر، أو كما يقول شاعرنا الكبير محمد المهدي المجذوب (توفي 1982م) باحثا عن سر الحياة «أيكون الخيرُ في الشرِ انطوى والقوى خرجت من ذرةٍ هي حبلى بالعدم».

.

والسر وراء هذه المقدمة يعود إلى رحلتي إلى مطار مسقط الدولي مستقلا سيارة أجرة، وقد كان يوما ضجرا، اشتعلت فيه ذاكرتي بمآسي وأحزان أُجهد نفسي لإخفائها، ولذا تمرد عليَّ مزاجي وأقحمني في صراعٍ مُر.. صعدت إلى المركبة وألقيت السلام على الرجل كمن يلقي حقيبته المتعبة عند مدخل البيت، ليقابلني الرجل ببشاشة، ويمنحني تذكارا عُمانيا خاصا هو الطريقة العمانية في إلقاء التحية، ودودة ومشبعة بالرقة، وكأن الرجل استشعر أن في عيني كلام مخنوق بدواعي الالتزام والخصوصية، ثم بدأ يسحبني برفق إلى الحديث، سأل: كيف حالك؟ - الحمد لله - من السودان؟ - نعم، أليس من الواضح، ثم تنبهت إلى غباء سؤالي وأنا المشتغل على قضية التنوع في المجتمعات، ومنها مجتمعي، فالرجل من بلد يعيش حالة من كونية الهوية، فليس في اللسان أو الشكل أو الصوت أو حتى الزي دلالة قاهرة على انتماء مرتب، فهذه بلاد تتقن الحنين إلى الوجود؛ الوجود مطلقا، ولذا التأمت على معنى إنساني جعل من أهلها نغمة مستقرة في لحن عظيم خالد..

وأحاديث الرجل سيطرت على تفكيري بصورة جعلتني استرجع بعض ما قرأت عن طبيعة الشخصية الاجتماعية، وعن مكوناتها، وكيف تتشكل؟ وعلى ماذا تتغذى في سلوكها؟ ووجدت في الكلام العادي في الشخصية العمانية مدخلا لـ«فك رموز» الهوية، الشخصية، والذات الاجتماعية»، وكما يقال إن هناك شخصية فطرية تقوم على قاعدة من بداهات مطلقة تكتسبها من البيئة التي تعيش فيها، وإن هذه الشخصية تملك قدرة عالية على الانسجام مع الآخرين، إذ لا يحدها فضاء من قيم ومعارف وأشكال سلوكية متمترسة في ذاتها بل حتى في لا وعيها، ولذا فإنها شخصية تتسم بقدر عال من التسامح، وهي تعبير حي عن بيئتها، ومصداق للدراسات التي تهتم بفهم «الشخصية» انطلاقا من عامل البيئة ثم إلى الأفراد الذين يعيشون فيها، إنهم مجموعة تفسر بشكل كبير كيف يمكن للمجتمعات المتسامحة أن تصبح تمثيلا مفهوميا لبيئتها التي صنعت فيها هذا النوع من القبول، ومفهوم الشخص في العلوم الاجتماعية يعود إلى دوركايم والذي اشتغل بصورة منهجية لاعتماد تصور علمي للفرد، لكن لم يعد هذا المفهوم (=الشخص) يعني الفرد فقط، بل «الذات والأنا، والذات والذات...» وكل هذه العناصر هي التي تشكل مفهوم الشخص والذي هو نتيجة وعيه بوجوده، إذ هو كائن أخلاقي واجتماعي، ومصادر أخلاقيته تعتمد على البيئة التي نشأ فيها والتي تمده بأسباب اندماجه بالصورة التي عليها صديقي قائد المركبة.

وقد وصلت الاختراقات البحثية في علم الاجتماع الحديث إلى تحديد إطار عام وكلي لشخصية كل شعب، والحقيقة أن الأمر قديم، ففي الأربعينيات والخمسينيات كان الحديث يجرى عن مفهوم «الرجل الكامل» والذي كان تعبيرا عن رؤية رومانسية في العلوم الاجتماعية وهي بعد تتشكل، رؤية تبشر بوحدة الفرد تحت ظل معنى قومي، لكنه يبقى معنى جمالي أكثر منه علمي، وقد نجد هذا الأمر عند عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل موس (توفي 1950م) صاحب الكتاب الشهير «مقالة في الهِبة»، وموس كان قد ألقى في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي محاضرة بعنوان: «مفهوم الشخص، فكرة الـ«أنا»، ومن آثاره المهمة مقارنته بين أنواع ثلاثة من «التمثيل الاجتماعي» للشخص، وفيها دَرَس مجتمعات مثل: الأمريكية والهندية والرومانية القديمة، ومن خلاصاته المهمة في ذلك: إن الشخصية الجماعية تهيمن على الفرد، مثل هيمنة العشيرة على أفرادها الذين يجسدون حضورها المعنوي والمادي وإن بأشكال مختلفة، ويسميها موس «الأقنعة» وهي بمثابة تمثيل جماعي لأفراد شعب ما، كلٌ بمكانته الاجتماعية ومواقفه وقِيمه، ولكل فرد في هذه الجماعة دور يصفه مُوْس بالتزامني، وهو دور تحكمه التقاليد ويتركب فيه السلوك على الميراث المتخيل والمنتقل من جيل إلى آخر، وعبر هذه العملية المركبة من التعايش والتجاور في السلوك والتمثيل يحدث الاستقرار في المجموعة.

وبالعودة إلى صديقي رفيق الرحلة إلى المطار فقد ملأ عليّ وقتي بالحديث عن المنطقة التي أعيش فيها، وكيف أن اسمها في السابق هو نقيضها اليوم، وأن عبقرية هي من حقائق السلطان قابوس -رحمه الله- أن اختار لها اسما يتحدى به طبيعتها، ويعلن أنه ليس من المستحيل أن تصنع الأوطان بسواعد بنيها، وأن تتوفر على أيديهم تنمية ناطقة متى صح العزم.

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عودة ترامبية.. من الباب الكبير

عاد الرجل المثير الكبير، عاد عودةً ظافرة باهرة، بفوز صريح مريح له ولحزبه، بكل مواقع القرار الجوهري في الولايات المتحدة الأميركية، هكذا تكون العودة المثيرة في حلبة السياسة.

عودة تشبه دونالد ترامب؛ رجل المال والأعمال... ورجل الميديا والسوشيال ميديا، والآن رجل السياسة المختلفة، المقبل من خارج نخبة واشنطن، ومن خارج علب التقاليد الحزبية والبيروقراطية.
فاز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بمقعد القيادة في البيت الأبيض، وفاز حزبه معه في الكونغرس، لنكون بمواجهة 4 سنين حافلة وجديدة، لنطوِيَ صفحة بايدن - هاريس، ومِن خلفهما أوباما والأوبامية، الـ4 سنين السالفة شهدنا تغييراً في بعض السياسات بالعالم ومنطقتنا بسبب الإدارة الديمقراطية، وشهدنا حرباً خطيرة، وما زلنا، مع روسيا في أوكرانيا، وشهدنا حرباً مدمرة في لبنان وغزة، وشبه حرب بين إسرائيل وإيران، وشهدنا من الميليشيات الحوثية تهديداً خطيراً للملاحة في البحر الاحمر
وشهدنا غير ذلك، فهل سيختلف شيءٌ من هذا في السنوات الـ4 المقبلة!؟
هذا هو الاختبار الفعلي فيما يخصّنا من ترامب وحزبه وأميركا.
ماذا سيفعل مع روسيا وبوتين؟ وهل سيُنهي الحرب أو الحروب المشتعلة في العالم كما وعد أكثر من مرة في خطبه الانتخابية بوقت سريع!؟
ماذا سيفعل مع الصين؛ الخطر الأكبر على أميركا في العالم؟
تَباهى ترامب بروابطه الوطيدة بالرئيس شي جينبينغ، معتدّاً بمقاربته للعلاقات الدولية «القائمة على الصفقات»، وأعربت الصين عن أملها في «تعايش سلمي» مع الولايات المتحدة بعد إعلان ترمب عن فوزه.
الرجل يرفع شعار «أميركا أوّلاً» خصوصاً في مجال التجارة... فهل سيقبل الصينيون والروس ويسار أميركا اللاتينية ذلك؟ وهل سيتصالح رعاة الإسلام السياسي؛ «الإخوان» و«الخمينية» مع ذلك، أم سيزيد ذلك من شراستهم؟! أم ستجد أميركا ترمب طريقة للتفاهم معهم، أو ردعهم أو إهمالهم؟!
لا شك أننا أمام مرحلة مثيرة وجديدة، وسنراقب أحداثاً كبيرة وتحولات لافتة، سيحاول بعض «الحذَقة» التموضع الجديد مع المرحلة، كما فعلوا من قبل، ولبس ثوب جديد؛ ثوب على «ديزاين» المرحلة... لكن أظنه سيكون ثوباً شفيفاً غير ساتر وغير ضافٍ.
وعدَ الرجل كثيراً، وحان وقت الوفاء؛ لجمهوره، وللعالم، على الأقل بجوهر هذه الوعود، وليس حرفيتها، ومن ذلك إنهاء الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، ليس بغمضة عين أو مكالمة تليفون، كما قال، لكن على الأقل، بجهد واضح متتابع للوصول إلى هذه المحطة.
مرة أخرى، إنها رحلة سياسية مثيرة وكبيرة لهذا الرجل المختلف في كل شيء.

مقالات مشابهة

  • وظائف شاغرة و مدعوون للمقابلة الشخصية
  • عودة ترامبية.. من الباب الكبير
  • الانتخابات الأمريكية 2024.. أبرز الولايات التي يتفوق فيها ترامب على هاريس
  • انتخابات الرئاسة الأمريكية.. تعرف على أبرز الولايات التي يتفوق فيها ترامب على هاريس
  • استاندر تقرير//// الحكمة والمحبة والحوار... منهج البابا تواضروس الثاني في التعامل مع الأزمات
  • ناشطات في أربيل يرفضن تعديل الأحوال الشخصية: ضد حقوق المرأة والطفل
  • صراع مقلق حول تعديل قانون الأحوال الشخصية
  • الحمار الذى سقط فى البئر
  • حوار مع صديقي الChat GPT الحلقة (34)
  • المقاومة الفلسطينية تستهدف آليات العدو الإسرائيلي التي تحاول اقتحام مدخل بلدة قباطية بمدينة جنين بزخات كثيفة من الرصاص وتحقق فيها إصابات مؤكدة