حياة الماعز.. وتنميط صورة الخليجي
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
شتاء 2017م.. زرت بعض الأصدقاء في المملكة العربية السعودية، في لقاء جميل لتبادل المحبة مع أناس كرام، الجود سجيتهم، والخُلُق الرفيع طبعهم، والعلم فيض عقولهم. وقد تحدثنا في لقاءات جمعتني بنخبة من مفكريهم عن العديد من قضايا الفكر الإسلامي، وكان الرأي.. أنه لابد من تبادل الزيارات؛ لنتحدث في مستجدات الفكر وإشكالاته.
خالد العضاض.. يكتب في الفكر ومهتم بتحليل خطاب الإسلام السياسي وتمدده في الخليج والسعودية. بتاريخ 25 أغسطس 2024م نشر مقالًا بعنوان «أيام الماعز الهندي Blessy» في جريدة «الوطن» السعودية، تحدث فيه عن سيرة الفيلم، ورأيه فيه بكونه كاتبًا سعوديًا، وما قاله يقوله أي محب لوطنه. وبحسب معرفتي بالمجتمع السعودي.. لو أنني كنت محله لقلت ما قاله -وربما أكثر منه- نقدًا للفيلم.
«حياة الماعز».. يصوّر «الكفيل الخليجي» بأنه ذو قلب قُدَّ من حجر، في الصحراء العربية القاحلة من الماء والخضرة والألوان والأخلاق، متناقضًا مع طبيعة أصحاب الماعز الذين تفيض قلوبهم رحمةً وأيديهم سخاءً، في مقابل «البطل» الطيب؛ القادم من أرض الأنهار والخصب والجمال. ومتناقضًا كذلك مع طبيعة صاحب الإبل الكريم الشهم كما ألفناه في مجتمعنا الخليجي، مهشّمًا بذلك صورة إنسان الجزيرة العربية؛ بوصفه شخصًا حضاريًا استأنس الجمل قبل آلاف السنين؛ فأهدى شعوب الأرض أول مركبة برية لتناقل الحضارة فيما بينهم. وهو ما أدركته من قبل السينما الغربية كهوليود، لتصنع من الجمل نمطًا ذهنيًا سلبيًا عن العربي، مضيفةً إليه عنصر النفط بكونه ثروة خليجية، بصورة ساخرة أو محتقرة، وهذا غرض للسياسة الغربية، لنهب خيرات المنطقة، وتحطيم مكوناتها الثقافية، وتشويه عمقها الحضاري.
يكفي هنا أن أورد مقدمة مقال خالد العضاض لتكشف عن الروح الإنساني الذي يتمتع به السعودي والخليجي؛ صاحب الماعز والإبل، حيث يقول: (كثيرًا ما شاركنا أكلنا وشربنا الراعي الهندي أو الباكستاني وغيرهما؛ الركبة حذو الركبة، والأكف تصتك بالأكف في صحن الطعام الواحد، ناهيك عن زملائنا أو أصدقائنا أو جيراننا من هذه الجنسيات الطيبة. وكثيرًا ما يصطف «الملياردير» بجانب رعاة «منقيته» من الإبل في الصلاة، ويصلون على الرمال النظيفة النقية بعيدًا عن مراح الإبل وأعطانها، وكثيرًا ما رأينا بكاءً مريرًا لهؤلاء الرعاة حينما يدفع إلى أحدهم خبر وفاة كفيله).
وبعد؛ فإن مقالي لا يعيد الحديث عن الفيلم من حيث؛ حبكته الروائية، وتقنيته الدرامية، ولا يحكم على فنية الإخراج وأداء الممثلين، فهذا دار الحديث عنه كثيرًا بين مادح وقادح. وإنما حديثي عن الأثر الذي يمكن أن يتركه «حياة الماعز» الذي حظي بمشاهدات ضخمة عالميًا؛ ونجح أن يرسم مشهدًا من التنميط الذهني عن الخليجي.
إن هجرة الشعوب من أرض إلى أخرى ظاهرة إنسانية، تحدث منذ أزل الإنسان وستبقى حتى انقراضه، وبكل اتجاهات الأرض.. بل الإنسان الحديث يتعاطى النفاذ من أقطار السموات الشاسعة، في مغامرة مجهولة المصير؛ مدفوعًا بجِبلّة تسكن أعماقه. إن الهجرة أضخم ظاهرة يمارسها الإنسان كل لحظة، وهذا يجعل جميع الحالات يمكن أن تحدث فيها؛ من أوج الخير إلى حضيض الشر، يمارسها كلٌ من المهاجِر والمهاجَر إليه تجاه الآخر. لكن أن يُصوِّر «حياة الماعز» المجتمع السعودي كله تقريبًا؛ وليس فردًا أو مجموعةً منه، بهذه الصورة، فهو يستقصده.. بل يستقصد المجتمع الخليجي الذي يشكل المهاجرون فيه حوالي نصف عدده و17% من الهجرة العالمية.
«حياة الماعز».. بغض النظر عن تقييمه الفني مؤثر إلى حدِّ الإبهار وجريان الدموع؛ وهذا من وظائف السينما، وهو سر انتشارها ونجاحها، وعمدة فوزها بالجوائز الدولية، وعبره تعرج الأفلام إلى سماء النجومية. وهنا مكمن الخطر في الفيلم، فمخرجه مهما كان مقصده؛ هدفه النجاح وتحقيق العالمية، وجمع المال الوفير، وحصد المراكز الأولى في مهرجانات السينما؛ بيد أنه كذلك يسهم في رسم صورة ذهنية عن الخليجي. الفيلم.. يضعنا أمام هذه الحقيقة، التي كُشِف عنها في بعض الأفلام بعد أن أدت أدوارها، وهذا ليس كلام من يسكنه «وهم المؤامرة»؛ كما يحلو للبعض ترديده، فما يصدق قولي.. تلك الصور النمطية التي رسمتها هوليود في الذهن العالمي؛ مثل: العربي المتخلّف، والإفريقي العبد، والغربي المتقدم، والأمريكي السوبرمان، واليهودي المظلوم، والمسيحي الفيلسوف، والمسلم الإرهابي، والدين اللاعقلاني، والجنس المكبوت، والأسرة المتزمتة، وكثير من الصور التي رسمتها السينما الغربية؛ تسويقاً للرأسمالية، وتسويغًا لليبرالية، وتبريراً للأخلاقية. مع الإقرار بأن هوليود وغيرها قدمت أعمالًا إنسانية راقية ذات حس جمالي آسر وغرض نبيل.
«حياة الماعز».. من نافلة القول؛ إنه لا يمثل وجهة نظر الشعب الهندي، ولا مجتمع مَن شارك فيه، فلربما كل كادر الفيلم لا يدركون أبعاد نتائجه، وإنما هم يبحثون عن الثروة والشهرة، ولكنهم يدورون في فلك الصراع الكوني وما يشعرون. إن الفيلم بدراميته التي أُخرِج بها يحمل توجهًا سياسيًا، ينبغي لنا التفطن إليه في ظل الصراع على المنطقة ومقدراتها، إن من التبسيط المخل أن ننظر إلى الفيلم بأنه يحكي حالة فردية، وأنه مجرد نقد لـ«ظاهرة الكفيل» في الخليج، هذه الظاهرة.. إن كان قد مارسها البعض بتصرف سيء؛ فإنها كذلك مورست بإحسان جميل، كما أنها حفظت التوازن في انتقال المجتمع الخليجي من مرحلة لأخرى، وعبرها جرى تجاوز صدمة الهجرة الهائلة من أعراق وأديان وثقافات متنوعة إلى مجتمع ناشئ؛ تنقصه حينها البُنى الأساسية على المستوى العمراني، والبُنية التحتية على المستوى المعرفي، فهي ظاهرة أدت دورها في زمنها، وينبغي تقديم حلول بآليات جديدة قادرة على معالجة المشكلات؛ الراهنة والآتية.
من حسنات «حياة الماعز» أنه دق ناقوس الخطر من حيث لا يشعر طاقمه، لينبهنا نحن الخليجيين، بأننا أمام مرحلة جديدة من الصراع على الوجود، فدولنا ترزح تحت أقدام ملايين المهاجرين؛ الذين يهيمنون على مفاصل الهرم الاقتصادي؛ من قاعدته إلى قمته، مما ينذر بمخاض سياسي عسير في المنطقة، حذّر منه بعض مفكرينا كالإماراتي حسين غباش (ت:2020م) والكويتي عبدالله النفيسي، الذي قد يتطور الوضع إلى بتر أجزاء من بلداننا، محدثًا مرحلةً من الصراع العنيف التي لا يقدّر مداه ولا يعرف منتهاه. لقد بدأ رسمُ الصورة الذهنية عن الخليجي، بأنه متخلف، متوحش، ثري، انتهازي، بالإضافة إلى الصورة النمطية بأنه إرهابي ومتحجر دينيًا بكونه مسلمًا. إنني هنا لستُ مدافعًا عن الخليجي، فـ(لا تخلو حلة من علة)، إلا أن نجاحه في تنشئة نفسه إنسانيًا، وبناء دوله سياسيًا، وازدهار مجتمعه وتآلفه، واضح للعيان، في حين أخفت مجتمعات وتدمرت دول من حوله.
وما أخشاه من الفيلم كذلك أنه بعدما نجح الغرب في زرع الفتن المذهبية والتعصب الطائفي في بلاد المسلمين في الفترة الماضية؛ أن يكون «حياة الماعز» حلقة من مسلسل إثارة الأحقاد بين أبناء الخليج؛ وقد لاحظنا انجرار بعضنا إلى تبادل الشتائم على لوحة التواصل الاجتماعي.
ختامًا.. إن ما قيل عن الفيلم بأنه يصوّر قضية إنسانية واقعة، ويعالج ظاهرة اجتماعية منتشرة، قد يكون صحيحًا، لكن لا يبرئه من خدمة أهداف السياسة الدولية في منطقتنا، فالسياسة.. عادة؛ لا تخترع الأوضاع وإنما تستغل ما هو موجود منها.
خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حیاة الماعز عن الخلیجی
إقرأ أيضاً:
تحول تاريخي في قيادة حزب العدالة والتنمية بإسطنبول
أعلن رئيس فرع حزب العدالة والتنمية في إسطنبول، عثمان نوري كاباك تبه، عن انسحابه من الترشح لرئاسة الفرع خلال المؤتمر الثامن العادي للحزب، معلنًا عن اسم خليفته، عبد الله أوزدمير، عبر بيان نشره على حسابه الرسمي في وسائل التواصل الاجتماعي.
إعلان رسمي
قال كاباك تبه في بيانه: “يسعدني أن أشارككم بكل فخر واعتزاز أن مرشحنا لرئاسة فرع إسطنبول في مؤتمرنا الثامن العادي هو الأخ عبد الله أوزدمير. نؤمن بأنه سيقود هذه الأمانة بخطى ثابتة نحو مستقبل مشرق لإسطنبول ولحزبنا”.
تعزيز التغيير في الحزب
يأتي هذا الإعلان في سياق موجة التغيير التي يشهدها حزب العدالة والتنمية، استجابة لدعوة الرئيس رجب طيب أردوغان لإجراء تغييرات واسعة استعدادًا للانتخابات المحلية المرتقبة في 31 مارس 2024. وأكد كاباك تبه أن الحزب يواصل مسيرته كحركة شاملة تستمد قوتها من خدمة الشعب وتعزيز القيم الوطنية.
وصف كاباك تبه٬ عبد الله أوزدمير بأنه “شاب ديناميكي وذو رؤية مستقبلية”، مشيرًا إلى أنه سيعمل على تعزيز مكانة الحزب في إسطنبول ومواصلة النجاح الذي حققه الحزب في المدينة خلال السنوات الماضية.
اقرأ أيضاوزير العمل التركي يعلن موعد الاجتماع الأخير لتحديد الحد…