هذه هي المؤامرة الخفية على وحدة السودان
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
رشا عوض
في سياق أكبر جريمة تضليل وتجهيل وتزييف وعي تتم ضد الشعب السوداني، تتواطأ أبواق الدعاية الحربية الكيزانية على أن أدوات المؤامرة المزعومة ضد السودان هي القوى المدنية الديمقراطية، فهؤلاء هم الخونة والعملاء، ولأن الخطاب غوغائي، فإنه لا يهتم بشرح الأسباب المنطقية لهذا الزعم، إذ لا تجد فيه إجابة عن السؤال: ما هي المؤامرة أساسا؟ ما هي أهدافها؟ ومن هي الجهات القادرة فعليا على إنفاذها؟ وهل من مؤامرة على السودان وأهله في هذه اللحظة التاريخية أكبر من رفض الحل السلمي التفاوضي والمطالبة باستمرار الحرب ولو إلى مائة عام؟!
إذا كانت المؤامرة المقصودة هي تقسيم السودان إلى عدة دويلات ضعيفة وطي صفحة جمهورية السودان بحدود 1956، فإن الكيزان هم رأس الرمح في هذه المؤامرة وأجهزتهم الأمنية العسكرية المخترقة مخابراتيا، وعلى أعلى المستويات هي أهم أداة تقسيم تتحكم فيها دوائر في المجتمع الدولي راغبة في تقسيم السودان،
الجيش المُسيطر عليه كيزانيا هو أداة تقسيم لا أداة وحدة! ولن يكون أداة وحدة إلا إذا انعتق تماما من سيطرة الكيزان، وأعيد بناؤه على أسس وطنية.
أيام حرب الجنوب اشتغلت الأجهزة الأمنية والاستخبارات العسكرية على تقوية التيار الانفصالي في الحركة الشعبية ضد د. جون قرنق الوحدوي، كما رعت هذه الأجهزة تيارا انفصاليا شماليا هو ما يسمى بمنبر السلام العادل الذي قوامه ضباط جيش واستخبارات كان يقودهم كوز عنصري، والآن ذات العناصر الآمنة عسكرية أنشأت تيار ما يسمى بدولة النهر والبحر (دولة بدون دارفور وكردفان) وطبعا مثل هذه الدولة يسهل ابتلاعها مصريا، وخلال هذه الحرب ظهرت “طنطنة” عن اندماج ولايات الوسط والشمال في مصر، وعموما فقدان السودان لدارفور وكردفان نتيجته المنطقية ذوبان الشمال والوسط في مصر طوعا أو كرها، لأن دولة النهر والبحر في الغالب سوف تفقد البحر، بمعنى لن يكون شرق السودان جزءاً منها حسب معطيات الجيوبولتيك في الإقليم وحتى حسب ميزان القوى الداخلي والتعقيدات السياسية.
العقلية “الأمنوعسكركيزانية” التي تدير هذه الحرب تدفع في اتجاه تقسيم جديد للبلاد عبر خطاب الكراهية والعنصرية ضد الحواضن الاجتماعية للدعم السريع، وعبر التجنيد للحرب على أسس عرقية من خلال اللعب على التناقضات الإثنية في إقليمي دارفور وكردفان، المخطط المقبل الذي نسأل الله أن يحدث أي متغير داخلياً أو خارجي لإفشاله، هو تكثيف القصف الجوي على كل أماكن سيطرة الدعم السريع في الخرطوم والجزيرة وسنجة وإجباره على التراجع إلى دارفور وكردفان، حتى لو اقتضى الأمر تسوية الخرطوم ومدني وسنار بالأرض عبر الاستعانة بالخبرة الروسية والإيرانية لو فعلا قررت الدولتان مساندة سلطة الأمر الواقع في بورتسودان، وراهنت عليها وهذا أمر غير مؤكد، ولكن العصابة الكيزانية عاقدة العزم على التصعيد العسكري في مقبل الأيام، رغم استحالة النصر بمعطيات الواقع الميداني، ورغم الكوارث الطبيعية ممثلة في السيول والفيضانات، ورغم أن الحرب حتى هذه اللحظة قتلت أكثر من مائة وخمسين الف سوداني وسودانية، ورغم الدمار الاقتصادي والعمراني، ورغم أن استمرار الحرب وإطالة أمدها لن يقود إلا إلى تقسيم جديد للبلاد، فهل من متآمر على البلاد وخائن للوطن وعميل لأعدائه أكثر من المطالبين باستمرار الحرب؟
أما الادعاء بأن العامل الوحيد في كارثة السودان الحالية هو الدعم السريع، فهو ادعاء لا يستوي على ساقين، ولا يصلح مطلقا لتبرئة الكيزان، لأن الدعم السريع هو إحدى المؤسسات التي أنتجها نظام حكمهم، وفتح له أبواب التمكين الاقتصادي والعلاقات الخارجية، وسبب تكريس استقلالية الدعم السريع عن الجيش هو صراعات السلطة داخل حوش المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، إذ كانت مجموعة معتبرة من الكيزان راغبة في الانقلاب على البشير بواسطة كيزان الجيش، فاحتمى البشير بالدعم السريع من الجيش، والكيزان جميعهم سواء الموالون للبشير أو المعارضين له لم يكن لديهم موقف عدائي أو موقف مبدئي ضد وجود الدعم السريع؛ لأنهم ببساطة اعتمدوا عليه في الدفاع عن بقاء سلطتهم عبر خوض الحروب ضد الحركات المسلحة في دارفور، وظنوا أن هذا المارد العسكري الموازي للجيش سيظل أبد الدهر محبوسا في خانة الحارس الأمين لسلطتهم والدرع الواقي لهم من هجمات التمرد المسلح.
وكل ذلك دليل قاطع إما على انعدام الكفاءة السياسية والعسكرية في حماية الوطن لدى النظام الكيزاني الذي صنع ومع سبق الإصرار والترصد وضعية تعدد الجيوش وهي وضعية خطيرة لا يمكن أن تقود إلا إلى الاحتراب الأهلي وتمزيق الوطن ولمن يفكر بعقل وضمير وطني مؤكد سيكون فقدان السلطة بانقلاب عسكري أخف ضررا بما لا يقاس من فقدان الوطن نفسه بالحرب الأهلية، وإما اعتبار كل ما حدث دليلا على عمالة وخيانة الأجهزة الأمنية والعسكرية الكيزانية وعبثها بالأمن القومي لصالح مؤامرة خارجية.
هل معنى ذلك أن معضلة السودان الوحيدة هي الكيزان؟
بالطبع لا، السودان مطوق بمعضلات من العيار الثقيل، وهناك عيوب واختلالات عميقة في النخبة السياسية السودانية من نتائجها أننا فشلنا في بناء نظام قوي للمناعة الوطنية يحول دون تمكين هذا الورم الخبيث من بلادنا واستيطانه في مفاصل دولتنا لثلاثين عاما، وفي الصف المدني الديمقراطي مؤكداً هناك مظاهر ضعف فني وأخلاقي، وهناك اختراقات الأجهزة الأمنية الكيزانية المخترقة هي نفسها من الخارج، ولكن بقراءة موضوعية للواقع، واستنادا إلى المعلومات حول الجهة المهيمنة على البلاد سياسيا واقتصاديا أمنيا وعسكريا على مدى ثلاثة وثلاثين عاما هي نصف عمر الاستقلال تقريبا (ثلاثون عاما الإنقاذ مضافا إليها فترة انقلاب 25 أكتوبر، ثم فترة الحرب)، بقراءة هذه الحقائق لا شك في أن أكبر وأخطر كارثة، فتكت بالسودان هي هذا النظام الكيزاني، وخصوصا منظومته الأمنية العسكرية التي لم تجلب للسودان سوى الخراب والدمار.
هل يعقل بعد كل ذلك أن يكون الكيزان هم الجهة المانحة لصكوك الوطنية والمصدرة لأحكام الخيانة الوطنية والعمالة؟ هل يعقل أن يكونوا في مقام الأستاذية في هذا المجال بدلا من أن يكونوا في قفص الاتهام؟
وهل يليق بمثقف محترم أن يصطف خلف هذه العصابة، ويستهلك نفسه في تبرير أن الوطنية والحرص على بقاء الدولة هو التماهي مع سردية الكيزان والجيش حول طبيعة هذه الحرب وأسبابها؟ هل يليق بمثقف محترم أن يساهم في تكريس الغوغائية والخطاب الشعبوي القائم على أساس أن هناك جنجويد هبطوا على السودان من السماء في 15 أبريل 2023، يجب أن نصطف خلف الجيش الوطني لإبادتهم عن بكرة أبيهم؛ وبهذا سنحافظ على الدولة الوطنية!! في حين أن الجيش حتى خلال هذه الحرب أثبت أنه بطبيعته البنيوية لن ينتج سوى مزيد من الجنجويد، حتى لو حصل أي اختراق عسكري بموجبه اختفى الدعم السريع تماما من الوجود، إلى أين ستذهب قوات مناوي وجبريل وعقار ومليشيات البراء ابن مالك وهيئة العمليات والدفاع الشعبي؟ هل يندمجون في جيش واحد في ظل خطاب الفرز العرقي والقبلي والجهوي الذي كان المرجعية العليا في هذه الحرب؟ أم سيحتفظون بقواتهم كجيوش موازية في حالة استمرار السودان دولة واحدة ومنذ الآن طالبوا عمليا بإشراكهم في التفاوض وعضوا بالنواجذ على مواقعهم في السلطة؛ مما يدل على أن البلاد موعودة بجنجويد آخرين؟ ألم تبرز إرهاصات التمييز العنصري ضد هذه القوات نفسها في بعض الولايات، رغم أنها تقاتل مع الجيش؟ ألم يتم تحميلها مسؤولية الهزائم ألم ترفض بعض المدن وجود ارتكازات لها؟ ألم تكن الدعاية ضد حركتي مناوي وجبريل أيام تمردهم على حكومة الكيزان تتمحور حول أنهم مرتزقة وخونة يهدفون لإقامة دولة الزغاوة الكبرى؟
من كل ذلك لا يمكن أن يستنتج عاقل أن جذر مشكلة السودان هو قوات الدعم السريع، لأن المشكلة ببساطة هي عجز مركب في الدولة السودانية نتج عنه عجز بنيوي في الجيش افرز جنجويد موسى هلال، ثم افرز قوات الدعم السريع، وبعد أن فقد هذا الجيش سند الدعم السريع اتكأ على بندقية مناوي وجبريل وعقار ومليشيات الكيزان، وكل هؤلاء هم جنجويد المستقبل. والقسط الأكبر من المسؤولية عن هذا العجز المركب في الدولة السودانية يتحمله من انفردوا بحكمها أكثر من نصف عمر استقلالها، ويتملصون الآن من تحمل أدنى مسؤولية عن الخراب الحاصل، وبكل بجاحة يحاضرون الناس في الوطنية.
الاصطفاف الوطني العقلاني الآن لا يمكن أن يكون خلف الجيش والكيزان، ولا خلف الدعم السريع لتنصيبه وريثا لحكم الجيش والكيزان، بل هو خلف إيقاف الحرب حفاظا على أرواح المواطنين وكرامتهم، وعلى وحدة التراب الوطني، وعلى أساس عملية تأسيسية للدولة السودانية تخاطب جذور الأزمة الوطنية العميقة لا أعراضها السطحية.
الوسومرشا عوضالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: رشا عوض دارفور وکردفان الدعم السریع هذه الحرب أن یکون
إقرأ أيضاً:
تحديات السودان مع مطلع 2025
في نهاية 2024 يبدو المشهد في السودان مختلفاً تماماً عما كان عليه في الأيام الأخيرة من العام الماضي. آنذاك واجه الجيش خسارة كبيرة عندما اجتاحت «قوات الدعم السريع» مدني، عاصمة ولاية الجزيرة و«صرة السودان»، بعد انسحاب قيادة الفرقة الأولى مشاة من دون معارك تذكر. تبع ذلك موجة من التساؤلات بشأن مسار الحرب، وحملات من التشكيك بعد أن خسر الجيش مواقع عديدة ومدناً حيوية، وتمددت «قوات الدعم السريع» في مساحات شاسعة، ومعها اتسعت دائرة النزوح القسري للمواطنين، ودورة الانتهاكات الفظيعة والتدمير الممنهج لقدرات البلاد.
اليوم تظهر الصورة مختلفة بشكل كبير بعد الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش السوداني والقوات المشتركة وكتائب الإسناد من المستنفرين، متمثلة في استرداد مناطق استراتيجية، واستهداف خطوط الإمداد بما في ذلك تدمير قاعدة الزرق في شمال دارفور التي تعد أهم قواعد «قوات الدعم السريع» وشريان الإمداد بالوقود وشحنات الأسلحة القادمة من الخارج. في غضون ذلك واصل الجيش وحلفاؤه التقدم نحو مدني، واستعادوا السيطرة على معظم أنحاء مدينة بحري وتقدموا للالتقاء مع القوات التي كانت معزولة في سلاح الإشارة، ليبدأ من هناك الزحف لاستكمال استعادة الخرطوم.
ينظر كثيرون إلى هذه التطورات المتسارعة كمؤشر على نقلة نوعية في مسار الحرب توحي بأن مطلع العام الجديد سيشهد تحولات ميدانية ستكون لها انعكاساتها على مجمل الأوضاع، مع تغير موازين القوى بشكل كبير وواضح. ومع ذلك، فإن مستقبل الوضع في السودان يعتمد على جملة من العوامل العسكرية، والسياسية، والإنسانية، والاقتصادية، والخارجية أيضاً.
الانتصارات العسكرية التي تحققت للجيش وحلفائه تمثل فرصة حقيقية لتعزيز الجهود نحو إنهاء الحرب، لكنها ليست حلاً نهائياً بحد ذاتها. فالوضع أعقد من ذلك بكثير، والمعالجات تحتاج إلى نظرة متعمقة في كيفية معالجة آثار هذه الحرب التي هزت السودان بشكل غير مسبوق، وأحدثت فيه جروحاً غائرة واستقطاباً حاداً، بما يستدعي تضافر الجهود، ورؤية حكيمة لكيفية عبور هذا المنعطف بسلام وبالطريقة التي تحافظ على وحدة السودان، وتصد عنه المكايد والمؤامرات التي غذت هذه الحرب.
خلال العام الجديد يمكن أن يشهد السودان نقلة مهمة إذا تم البناء على التحولات العسكرية الأخيرة بطريقة استراتيجية وشاملة تعالج الأزمة بمختلف أبعادها. فتحقيق السلام يتطلب أكثر من الانتصار في المعارك؛ إنه يتطلب رؤية للمعالجة السياسية تتجاوز دعوات الإقصائيين، وتفتح الباب أمام الحوار الشامل، الذي من دونه لن يكون هناك حل حقيقي، أو استقرار يحقق للبلد الوقوف على قدميه لمواجهة حرب أخرى أصعب هي إعادة البناء والإعمار، وجذب المساعدات والاستثمارات الضرورية في المرحلة المقبلة.
التحديات كثيرة، والطريق لن يكون سهلاً. بداية هناك التحدي المتعلق بكيفية معالجة الوضع الإنساني المتفاقم، والمعاناة التي تشتد كلما طال أمد الحرب. فالسيطرة على الأرض لا تعني انفراجاً إذا لم يتبعها توفير الظروف الأمنية، والخدمات الأساسية التي تتيح عودة النازحين والمهجرين إلى ديارهم، وتضمن تقديم الإغاثة العاجلة التي يحتاجونها. فالسودان اليوم يواجه واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية المركبة نتيجة التهجير القسري، والتدمير الممنهج للبنى التحتية والمنشآت الخدمية، وتعطل وسائل الإنتاج، وشل الحياة الطبيعية بما في ذلك العمل والتعليم.
تحدٍّ آخر سيتمثل في الطريقة التي سترد بها «قوات الدعم السريع»، والأطراف الخارجية الداعمة لها، وهل ستمضي في الحرب بما يعني إطالة أمدها. فالواضح الآن وفقاً للتحولات في الميدان، وفي موازين القوى، أن محاولة فرض السيطرة على السودان تبددت، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث هو فرض واقع تقسيمي في غرب البلاد إلى حين، أو حدوث تحول في موقف الجيش الأخير وقبوله العودة إلى منبر جدة، للتفاوض هذه المرة على شكل انتهاء الحرب انطلاقاً من مفهوم أن الحروب تنتهي عادة بترتيبات عبر التفاوض حتى ولو كان هناك نصر ميداني.
في هذا الإطار فإن هناك عدة أسئلة شائكة مثل: هل بعد كل الانتهاكات التي حدثت، يمكن أن يكون هناك دور لـ«الدعم السريع» في أي مشهد مستقبلي؟ وهل يمكن استيعابها في الجيش الوطني «المهني» الواحد الذي يفترض أن يكون من بين أهداف وخطط مرحلة ما بعد الحرب التي ستشمل أيضاً الفصائل والحركات المسلحة الأخرى؟ وهل أن منحها أي دور مستقبلي سيعني نهاية الحروب في السودان، أم أنه سيشجع آخرين على تكرار تجربتها بكل مرارتها؟
يبقى بعد ذلك التحدي المتمثل في الإرادة السياسية للحل، وما إذا كانت الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش وحلفاؤه ستفتح مجالاً للبدء في خطوات نحو إطلاق حوار وطني سياسي شامل حول مستقبل السودان، وكيف يُحكم بما يحقق له الاستقرار، ويفتح طريق التنمية المتوازنة والمستدامة، ويعالج القضايا الجوهرية المتجذرة بما ينهي دوامة الحروب المستمرة منذ ما قبل الاستقلال والتي كبلت البلد وكلفته أثماناً باهظة.