نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية تحليلا حول الدمار الكبير الذي تسبب به رئيس الانقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي، لاقتصاد بلده.

وجاء في التحليل الذي كتبه ستيفين كوك، أن السيسي لطالما قدم الوعود للمصريين بالعيش برخاء طيلة السنوات العشر الماضية، بيد أن واقع الحال هو أن مصر باتت في حالة إفلاس غير معلن.

وتاليا ترجمة التحليل كاملا:

طوال جل صيف عام 2013، كانت مصر في قبضة ما يمكن أن يوصف بالهوس بالسيسي.

فالأغاني والشطائر والمقاطع الموسيقية المصورة والقصائد وحتى ملابس النوم كانت كلها تشيد بعبد الفتاح السيسي، ضابط الجيش الذي أطاح لتوه بالرئيس محمد مرسي.

كان المشهد من الخارج غاية في الغرابة، حيث راح ملايين المصريين يعبرون عن بهجتهم بالتدخل العسكري الحازم والوحشي ضد عضو جماعة الإخوان المسلمين الذي أصبح رئيساً قبل عام فقط، في يونيو (حزيران) 2012. حتى إن من يسمون بالثوار، ومن طالما عارضوا النظام السياسي السلطوي في مصر، بدوا كما لو أنهم يعشقون بصدق ذلك الزعيم العسكري، صغير الحجم، الذي وعدهم ببداية جديدة بعد مرور ثمانية عشر شهراً من الهيجان والصخب بدأت بالانتفاض على زعيم البلاد منذ زمن طويل حسني مبارك في أواخر شهر يناير (كانون الثاني) 2011.

بعد تغييب مرسي وراء القضبان، والتسبب في موت أو سجن أو تشريد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وعد السيسي المصريين بأيام قادمة أفضل، وإن كان قد حذر مواطنيه بأن عليهم أن يتحلوا بالصبر. وكان ذلك من الحكمة، فمشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالغة التعقيد لم تزدد إلا تفاقماً حين ظلت مصر تترنح من أزمة إلى أخرى طوال فترة التحول الديمقراطي المشحونة وقصيرة المدى. ولكن، وبعد مرور عقد من الزمن، لم يكافئ السيسي المصريين على صبرهم، بل على العكس تماماً من ذلك: ها هو الرجل الذي من المفروض أن يكون قد أنقذ مصر يُعمل فيها معاوله تحطيماً وتدميراً.

وعد السيسي المصريين بالرخاء، إلا أن مصر في حالة من الإفلاس التام. أرقام الإحصائيات مذهلة. نسبة التضخم بلغت 37 بالمائة والدولار الأمريكي يساوي ثلاثين جنيهاً مصرياً. (كان يساوي حوالي 7 جنيهات عندما وصل السيسي إلى السلطة). وصل الدين الخارجي للبلاد إلى ما يقرب من 163 مليار دولار، ويتوقع أن يصل الدين الإجمالي إلى ما يقرب من 93 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 2023. لم يجد المسؤولون في الحكومة مفراً من إدارة الشؤون المالية لمصر مثل لعبة الصدفة، فينقلون المال من جهة إلى أخرى في محاولة يائسة للتستر على الأحوال الاقتصادية المتزعزعة في البلد.

يسعى السيسي إلى إثبات أن التقلبات الاقتصادية في البلاد ناجمة عن أمور فوق سيطرته، وخاصة جائحة كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا. ما من شك في أن هذه الأزمات أوجدت تحديات اقتصادية كبيرة واجهت بلدان العالم – بما في ذلك الولايات المتحدة – صعوبة فائقة في إدارتها. إلا أن من الواضح أن ما يتحجج به السيسي مجرد استراتيجية يقصد بها التهرب من مسؤوليته عن إفقار مصر.

لقد أسرف الرئيس في الإنفاق من أموال الديون على مشاريع عملاقة لا يوجد لها مبررات اقتصادية. أضخم وأشنع هذه المشاريع على الإطلاق هو العاصمة الإدارية الجديدة، والتي هي الآن في المرحلة الأولى من إنشائها، وكلفت حتى الآن 45 مليار دولار. عندما انسحبت الإمارات العربية المتحدة والصين من المشروع، اضطر المصريون إلى دفع الفاتورة من خلال إضافة كميات ضخمة من الدين إلى موازنة الدولة.


بالإضافة إلى بناء العاصمة بقضها وقضيضها في وسط الصحراء، يشرف السيسي على سرب من المشاريع الضخمة الأخرى. ومن أبرز هذه المشاريع "عاصمة صيفية" جديدة على الساحل الشمالي، ومفاعل للطاقة النووية (في بلد يتوفر لديه فائض من الكهرباء) ومدينة مستدامة في دلتا النيل، إضافة إلى بعث الروح في مشروع ضخم فاشل من حقبة مبارك في صعيد مصر اسمه توشكا. يأتي ذلك بعد فتح توسعة في قناة السويس – يطلق عليها اسم "قناة السويس الجديدة" – في عام 2015.

معظم هذه المشاريع ذات قيمة اقتصادية مبهمة، وإن كانت، فيما سبق، ذات أهمية سياسية. فقد كانت الغاية منها توفير دليل ملموس على ولادة جديدة لمصر تحت سطوة ضابط الجيش الذي غدا رئيسها الجديد هو وزملاؤه في وزارة الدفاع. ولعل الرسالة المطلوب توجيهها هي أن مصر ما زالت تستطيع القيام بأعمال عظيمة. إلا أن هذه المشاريع الضخمة غدت أعباء اقتصادية لا قبل للبلد بالاستمرار فيها.

يشير المسؤولون إلى أن كثيراً من المصريين كانوا يعملون في بناء هذه المشاريع. هذا صحيح، ولكن بأي ثمن؟ تناط بالحكومات مسؤولية إنشاء البنية التحتية، ولكن شريطة أن تفوق المكاسب على المدى البعيد التكاليف على المدى القصير. الجسور الجديدة، الطرق، التقاطعات، تحديث المطارات، والأنفاق كلها تستحق أن ينفق عليها – وقد قامت مصر ببعض من ذلك –بسبب مردود هذه المشاريع من حيث النشاط الاقتصادي الأعظم والأعلى كفاءة. ربما يدخل ضمن هذا الصنف توسعة قناة السويس، ولكن العاصمة الصيفية والعاصمة الإدارية الجديدة عبارة عن حفر ضخمة تبلع المال، ولا قبل لمصر بتحمل ذلك.

يصعب فهم أنه خلال عقد من الزمن تحولت مصر من بلد فقير إلى بلد أفقر بفعل السيسي رغم أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة سارعتا نحو إعادة تعويم الاقتصاد المصري من خلال التحويلات النقدية المباشرة، ورغم أنه ضمن الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي بشروط ميسرة، ورغم أنه يحظى برضى الحكومات الغربية عنه.

في آخر اتفاق لها مع صندوق النقد الدولي، وافقت الحكومة المصرية على بيع ممتلكات الدولة، بما في ذلك تلك المملوكة من قبل الجيش. ولكن لا يوجد إقبال كبير من المشترين لأن هذه الممتلكات لا قيمة لها أو لأن أحداً لا يعرف كيف يحدد قيمتها أو لأن المشترين المحتملين يجلسون على الهوامش بانتظار حدوث تخفيض آخر في قيمة الجنيه المصري (والذي سيكون التخفيض الرابع لقيمته منذ شهر مارس من عام 2022) حتى يتمكنوا من الحصول على المؤسسات هناك أياً كانت قيمتها بأسعار زهيدة. وقد أعلنت الحكومة مؤخراً عن بيع ممتلكات للدولة بقيمة 1.9 مليار دولار، وهو أمر إيجابي وإن كان لا يجدي نفعاً كثيراً في التخفيف من المعاناة الاقتصادية المستشرية. وكان المصريون قد انتفضوا في عام 2011 لأنهم أرادوا الكرامة، وشتان بين الكرامة وبيع ممتلكات الدولة.


بدلاً من الاستمرار في انتظار الرفاه الذي وعدهم به زعماؤهم، يغادر المصريون بلادهم بأعداد متزايدة. سقط من التقارير التي تحدثت عن غرق قارب الصيد المحمل بأعداد كبيرة من المهاجرين قبالة الساحل اليوناني في شهر يونيو (حزيران) حقيقة أن ما بين 300 و 350 ممن كانوا على متن القارب مصريون. وعلى الرغم من أن أعداد المصريين الذين يهاجرون إلى أوروبا عبر القوارب قد زاد بعد انتفاضة يناير (كانون الثاني) 2011، إلا أن الأعداد زادت أكثر في السنوات الأخيرة. وحاول أكثر من 6000 مصري الهجرة إلى إيطاليا بحراً في مطلع 2023. وهم يشكلون ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين الذين يأملون في الوصول إلى الشواطئ الإيطالية. في عام 2022، نشد أكثر من 22000 مصري حياة أفضل عبر المتوسط. وبالطبع، فإن من المنطقي أن تسعى أعداد أكبر من المصريين إلى المغادرة إذا ما أخذنا بالاعتبار الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجههم.

تعزز المصاعب الاقتصادية التي تواجهها مصر فكرة أن البلد منهك تماماً. في سبعينيات القرن العشرين، روى الرئيس أنور السادات في حديث مع وزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر حكاية حول كيف أن مصر لاعب مؤثر يمكن أن يساعد في ضمان السلام في المنطقة وأن يكون مسمار العجلة في نظام إقليمي معاد للسوفيات. كان السادات (انسجاماً مع طبيعته واحترافه السياسي) يبالغ. مصر شريك مهم للولايات المتحدة. ولكن باستثناءات حالات قليلة – مثل عملية عاصفة درع الصحراء/ عاصفة الصحراء – لم تحظ يوماً بالموارد التي تمكنها من لعب الدور الذي كان صناع القرار في الولايات المتحدة يأملونه منها عندما أعادت القاهرة تموضعها وعدلت من سياستها الخارجية باتجاه الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن السيسي يتواجد داخل الحجرة للمشاركة في اجتماعات هامة مثل القمة الروسية الأفريقية التي اختتمت مؤخراً في سانت بطرسبيرغ أو مثل القمة الماضية لدول مجلس التعاون الخليجي +3 مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، فيبدو أن حضور الزعيم المصري شكلي فقط. ويضفي التواجد داخل الغرفة قدراً معيناً من النفوذ، ولكن مصر في تلك اللقاءات هي مراقب أكثر منها لاعبا.

ولا أدل على تراجع مصر وانعدام نفوذها وتجوف سياستها الخارجية من الغياب شبه التام للقاهرة في الحرب الأهلية في السودان – الذي يعتبر بمثابة الحديقة الخلفية للبلد. ففي المرحلة الأولى من الصراع، احتجز الجنرال محمد حمدان دقلو زعيم قوات الدعم السريع ما يقرب من 200 جندي وطيار مصري – كانوا يتواجدون في السودان لإجراء تدريبات مع الجيش السوداني – واتخذ منهم رهائن. وسرعان ما تم إطلاق سراحهم فيما بعد بمساعدة من الدبلوماسيين الإماراتيين.

بعد هذه الحادثة المهينة، وقف المصريون على الهامش يراقبون السعوديين وهم يلعبون دوراً مهماً في إخلاء مواطني الدول الأجنبية من السودان. ثم تخلى السيسي بعد ذلك عن أي جهد للوساطة في السودان لصالح ولي العهد محمد بن سلمان (بمساعدة الأمريكيين). إلا أن البعض في القاهرة لا مفر من أن يشعروا بالخزي لأن السعودية هي التي تلعب الدور الحرج في الصراع بينما كان من المفروض – كما تقضي أساطيرها هي – أن تكون القاهرة هي الرائدة. وبالفعل، فإنه عندما استضافت القاهرة مؤتمراً لجيران السودان السبع في منتصف يوليو (تموز) لحث المتصارعين على الدخول في هدنة، لم يحالف التوفيق المؤتمر، ولم تتجاوز جلساته الأحاديث العابرة وفرصاً لالتقاط الصور التذكارية – بل ما كان من الرئيس الإثيوبي حينما خاطب المؤتمرين في اللقاء السري إلا أن شكر المملكة العربية السعودية على جهود الوساطة التي تبذلها.

مؤخراً؛ غردت محللة مختصة بالشأن المصري قائلة: "بإمكاني أن أقول بكل أمانة إنني لم أعد أرى طريقة للخروج من هذا". وبكلمة "هذا" أظنها تقصد الدمار الذي جلبه السيسي بيديه على مصر. بعد ما يقرب من العقد على انتفاضة الشعب المصري للمطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فإنه بات لا يتوفر لهم شيء من ذلك.

للاطلاع على النص الأصلي (هنا)


المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة مصر السيسي مصر رابعة الإنقلاب السيسي صحافة صحافة صحافة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذه المشاریع ما یقرب من إلا أن فی عام أن مصر

إقرأ أيضاً:

قالن.. الفيلسوف والموسيقار الذي قدم استشارات مهمة لهيئة تحرير الشام

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أطلقت قوات المعارضة السورية عملية عسكرية ضد نظام بشار الأسد، وتطورت بشكل سريع أربك العالم بأسره، لتتمكن خلال 11 يوما من الوصول إلى مركز دمشق.

سقط نظام عائلة الأسد الذي استمر 53 عاما في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024 وأصبح جزءا من التاريخ.

وبينما ارتبكت الدول الكبرى في تحديد موقفها إزاء هذا التطور السريع والاستثنائي، أدلى زعيم حركة هيئة تحرير الشام أحمد الشرع بتصريحات مفاجئة وبدت مدهشة للكثير من الساسة والمراقبين.

وخلال 4 أيام فقط، عادت الحياة في المدن إلى طبيعتها. لم تكن هناك فوضى، ولا مجازر، ولا أعمال انتقام، وتكيّف الشعب مع الوضع الجديد بسرعة لافتة.

التصريحات الدبلوماسية لأحمد الشرع وخطاباته المطمئنة لفتت انتباه الساسة ووسائل الإعلام.

وما إن استوعب الناس التغيرات المتسارعة، حتى بدؤوا يتساءلون عما إذا كانت هيئة تحرير الشام تلقت استشارات من رجل دولة يملك خبرة كبيرة في التخطيط والتنظيم.

وفي الحقيقة، فإن هيئة تحرير الشام والمجموعات المنضوية تحت لوائها شهدت تغييرات فكرية وتحديثات سياسية عميقة في السنوات الأخيرة.

قالن ظهر بشكل مفاجئ في الجامع الأموي بدمشق (مواقع التواصل الاجتماعي) الصورة تسرد الحكاية

وبينما كانت الدول تفكر في كيفية بناء علاقاتها أو تحديد مواقفها تجاه الإدارة الجديدة في سوريا، بدأت وسائل الإعلام في تداول خبر مفاجئ مفاده أن رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، قد وصل بالفعل إلى دمشق.

إعلان

جرت محاولات مكثفة للتحقق من الخبر عبر المصادر المتاحة، لكن تعذر الحصول على إجابة واضحة.

ولاحقا، تداول مواطنون سوريون مقطع فيديو التُقط في شوارع دمشق. أظهر الفيديو قالن وقائد سوريا الجديد أحمد الشرع، جالسين في مقدمة سيارة. كان الشرع هو الذي يقود السيارة، بينما كان قالن جالسا بجانبه.

مع ذلك، لم تكن اللقطات واضحة تماما، وبدأ الجميع يسعى للتحقق من صحة هذا المشهد المذهل.

لكن ما أنهى النقاشات حقا هو صورة نُشرت في 12 ديسمبر/ كانون الأول 2024 تُظهر رجل العوالم الخفية داخل الجامع الأموي في دمشق.

وهكذا تأكد للجميع وجود رئيس الاستخبارات التركي في دمشق، وأنه أجرى سلسلة من اللقاءات والزيارات.

منذ تلك اللحظة، بدأت الأوساط السياسية تتحدث عن تأثير تركيا في الثورة السورية.

وبإرسال رئيس استخباراتها إلى دمشق، كانت تركيا -عمليا- توجه رسالة واضحة إلى العالم: "وجودنا لا يقتصر على إدلب وإعزاز وجرابلس بل نحن في قلب دمشق ونقف إلى جانب الثوار السوريين".

❗️ Jolani is driving Turkey’s National Intelligence Organization chief, İbrahim Kalın, around Damascus. pic.twitter.com/mW1Jxg0NXO

— War Observation (@WarObservation) December 12, 2024

من إبراهيم قالن؟

الشخص الذي ظهر يبتسم في الجامع الأموي وفي شوارع دمشق لم يكن شخصا مجهولا، لقد كان أحد الوجوه التي تظهر بانتظام في وسائل الإعلام العالمية أثناء توليه منصب المتحدث باسم الرئيس رجب طيب أردوغان، وكانت تصريحاته تتصدر الأخبار في مختلف وسائل الإعلام، كما أن أعماله الفكرية تُقرأ في الأوساط الأكاديمية بأميركا وبريطانيا.

لكنه أصبح شخصا غير مرئي منذ أن دخل عالم الاستخبارات في منتصف عام 2023.

ولإبراهيم قالن ملف شخصي يزداد تعقيدا كلما تم الكشف عن جوانب مجهولة من شخصيته، مما يزيد من دهشة المراقبين.

إعلان

"في الواقع، لم يكن لدي أي خطة للعمل في السياسة أو المناصب الحكومية. منذ صغري، كنت أرى نفسي باحثا أكاديميا. وكان حلمي دائما أن أكون كذلك في المستقبل. والحمد لله، تحقق جزء من هذا الحلم، أي أن لدي حياة أكاديمية أيضا".

ففي مقابلة مع وسائل الإعلام، وصف إبراهيم قالن مسيرته المهنية التي خطط لها بنفسه بهذا الشكل. ولكن الحياة ربما أخذته إلى مكان لم يكن يفكر فيه أبدا.

عائلته من مدينة أرضروم الواقعة في أقصى شرق تركيا والمشهورة بشتائها البارد وجبالها الشاهقة وأغانيها الشعبية.

أما هو فقد وُلد في إسطنبول عام 1971، ودرس في معاهد مختلفة في مدن متنوعة. ثم عاد إلى مدينته الأم للدراسة الجامعية، حيث درس التاريخ في جامعة إسطنبول. وخلال دراسته، كان يتابع التطورات السياسية عن كثب، وقرر أن يتبع مسارا أكاديميا في ذلك الوقت.

في شبابه، كان يعرف بتصرفاته الودية والأخوية مع محيطه، حيث كان يُظهر طابعا حانيا ومساعدا مثل الأخ الأكبر.

وفي عام 1992، بعد تخرجه في الجامعة، سافر إلى ماليزيا للحصول على درجة الماجستير، حيث قام بأبحاث في مجالي الفلسفة والفكر الإسلامي.

أكمل الماجستير حول فلسفة "ملا صدرا" في عام 1994. ثم عاد إلى تركيا، وبعد عام واحد سافر إلى الولايات المتحدة.

هناك، درس أولا في جامعة "هولي كروس" ثم في جامعة جورج تاون في مجال العلوم الإنسانية المقارنة والفلسفة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في موضوع "نظرية المعرفة للملا صدرا وإمكانية الإبستمولوجيا غير الذاتية".

مفترق طرق

وفي عام 2002، حصل على درجة الدكتوراه من هذه الجامعة. وفي تلك الفترة، شعر أنه أمام مفترق طرق في مسيرته.

في العام الذي حصل فيه قالن على درجة الدكتوراه من جامعة جورج تاون، كانت تركيا تشهد تحولا سياسيا كبيرا. فقد حقق رجب طيب أردوغان فوزا كبيرا في الانتخابات.

إعلان

وبعد النجاح السياسي الذي حققه التيار الإسلامي، بدأ التحول الكبير في تركيا.

بدأ أردوغان إحاطة نفسه بمثقفين من التيار المحافظ وبالتكنوقراط والشباب الموهوبين. وكان إبراهيم قالن واحدا من هؤلاء الذين لفتوا الأنظار في الأوساط الفكرية بفضل مسيرته وخبراته.

عرض المسؤولون في حزب العدالة والتنمية على الدكتور إبراهيم قالن العودة إلى تركيا لتأسيس مؤسسة فكرية دولية والعمل على تقديم أفكار لتركيا.

ظل لفترة مترددا بين الاستمرار في مسيرته الأكاديمية في جامعة جورج تاون أو العودة إلى تركيا والدخول في غمار الحياة السياسية.

في النهاية، قبِل العرض وعاد إلى تركيا في عام 2005، وهو في الـ34 من عمره، حيث أسس مؤسسة "سيتا" (SETA) (مؤسسة دراسات السياسة والاقتصاد والمجتمع).

ومنذ ذلك الحين بدأ العمل عن كثب مع أردوغان الذي كان حينها رئيسا للوزراء، وأصبح لاحقا رئيسا للبلاد.

البيروقراطية والأكاديمية

استمر إبراهيم قالن في عملية القراءة والكتابة المنظمة التي بدأها خلال سنوات دراسته الجامعية، وكانت هذه العملية أكثر سهولة في فترة رئاسته لمؤسسة "سيتا".

ومع ذلك، عرض عليه مهمة جديدة ليقربه إليه أكثر. عندما أصبح أحمد داود أوغلو وزيرا للخارجية، تولى إبراهيم قالن مكانه ودخل فجأة في العمل السريع والمكثف في رئاسة الوزراء.

ومع ذلك، أصر على عدم ترك أعماله الأكاديمية، فنشر العديد من الكتب، وفي عام 2020 حصل على لقب بروفيسور.

يقول عن هذه اللحظة "لقد أصبحت بروفيسورا، لكنني لا أستخدم هذه الألقاب كثيرا. الألقاب هي إضافات تابعة للإنسان. الأهم هو الجوهر، أي الإنسان نفسه. الألقاب مهمة من حيث التقدير، لكن هذه الألقاب ذات طبيعة مهنية. أن تكون بروفيسورا ليس مهمة أكاديمية، بل إدارية. أما الألقاب، فبصراحة، هي أشياء تحجب هوية الإنسان الحقيقية ومعرفته".

بعد أن أصبح أردوغان رئيسا للجمهورية، صعد إبراهيم قالن مرة أخرى في مسيرته السياسية حيث حمل صفة سفير وتولى منصب المتحدث باسم الرئيس.

إعلان

ومنذ ذلك الحين، انخرط في عمل مكثف في مجالات الإعلام والسياسة والأكاديمية والدبلوماسية.

ومع ذلك، لم يهمل تأليف الكتب الفلسفية والفكرية، فقد نُشرت له كتب في الولايات المتحدة وبريطانيا وتُرجمت إلى العديد من اللغات.

"لدينا جدول زمني مكثف بسبب أعمالنا، ولكننا نحاول إدارة الوقت بشكل جيد. أرى فائدة الانضباط في القراءة والكتابة الذي اكتسبته من كوني أكاديميا. في عملنا، لا توجد مفاهيم مثل عطلة نهاية الأسبوع أو الليل والنهار. نحن مستعدون في أي لحظة حسب المهمة. وبالتالي، تم كتابة العديد من صفحات هذا الكتاب في الطائرات، وفي فنادق البلدان التي زرناها، صباحا باكرا يوم الأحد، أو بالبقاء حتى ساعات متأخرة من الليل. بعد أن بدأت العمل فعليا مع رئيس جمهوريتنا، حاولت تعلم بعض الأمور من قدرته على استخدام الوقت بشكل منظم لأنه شخص يستخدم وقته بشكل فعال للغاية".

ذلك مقتطف من كتاب أصدره قالن حديثا تحت عنوان "الإسلام، التنوير والمستقبل".

الموسيقار والمؤلف ورئيس المخابرات

في سنوات الدراسة الثانوية، بدأ قالن الاهتمام بالموسيقى التركية، وتعلم العزف على آلة الساز في تلك الفترة. كان معلمه في الموسيقى الأستاذ ميحات في مدينة ألانيا هو من علمه العزف على الساز وحبّب إليه الموسيقى.

لم يكتف قالن بتعلم العزف على آلة الساز بيده، بل قام أيضا بغناء الأغاني التركية.

في أميركا، أسس مع أصدقائه مجموعة موسيقية صغيرة، وأقاموا حفلات موسيقية. لم يقتصر الأمر على العزف على الساز فقط، بل عزف أيضا على آلة الناي، كما لحن أغاني تركية في تركيا، غناها فنانون مشهورون.

تأثر بكُتب الفيلسوف الشهير الفارابي حول نظرية الموسيقى. وشرح علاقته بالموسيقى قائلا: "علاقتي بالموسيقى والفن ليست مجرد هواية أو شيء أفعله لقضاء وقت فراغي. أنا أراها جزءا من تحقيق نفسي، ومن سعيي لفهم الوجود. لأنها أمور تغني روحي وتعطي المعنى لعملي. هي أمور أحاول القيام بها لأنها ذات قيمة وأهمية في حد ذاتها".

إعلان

ليس من المعتاد أن يصبح أستاذ الفلسفة رئيسا لجهاز الاستخبارات، ولكن مر العقدان الأخيران من حياة إبراهيم قالن في العمل المكثف في السياسة والدبلوماسية والأمن قرب الرئيس أردوغان.

لقد أصبح على دراية تامة بجميع الملفات الأمنية والدبلوماسية التي كانت تركيا طرفا فيها.

بعد أن أصبح رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان وزيرا للخارجية، تم تعيين إبراهيم قالن خلفا له في يونيو/حزيران 2023.

يقال إن هذا التعيين كان نتيجة لتأثير مسيرته البيروقراطية وكذلك الثقة الكبيرة التي نشأت بينه وبين أردوغان.

بعد أن أصبح إبراهيم قالن رئيسا لجهاز الاستخبارات، بدأ التعامل مع ملفات خطيرة. خاض معركة ضد حركات تصفها تركيا بالإرهابية مثل حزب العمال الكردستاني، وتنظيمي الدولة والقاعدة، إلى جانب منظمة "فيتو" التي يقال إنها تتبع لجماعة فتح الله غولن.

وكان له دور نشط في مساعي وقف إطلاق النار خلال الحرب الإسرائيلية الوحشية المستمرة في قطاع غزة.

في تلك الفترة، تمكن من تفكيك شبكة كبيرة من العملاء التابعين للموساد في تركيا.

في الأول من أغسطس/آب 2024، نظّم في أنقرة ما يقال إنها أكبر عملية تبادل رهائن في التاريخ الحديث، حيث تم إجراء عملية تبادل سجناء بين 7 دول، بينها الولايات المتحدة وروسيا وألمانيا.

بدأ إبراهيم قالن دمج جانبه الأكاديمي في آلية عمل جهاز الاستخبارات. كانت أولى خطواته هي تأسيس أكاديمية الاستخبارات، حيث تم إطلاق برامج دراسات أمنية واستخباراتية وجيوسياسية على مستوى الماجستير والدكتوراه، كما بدأت الأكاديمية نشر تقارير منتظمة حول قضايا الأزمات العالمية.

بهذه الطريقة، جمع قالن بين تكوينه الأكاديمي وعمله في الاستخبارات. ومع كل هذه الانشغالات، ألّف كتابا بعنوان "الإسلام، التنوير والمستقبل"، وهو أمر مفاجئ بالنظر إلى كثافة العمل الاستخباراتي.

إعلان

إشكالية الموازنة بين الأمن والحرية

تُعد قضية التوازن بين الأمن والحرية من أقدم المناقشات السياسية، وهي موضوع بالغ الأهمية لكل دولة.

وتركيا هي واحدة من الدول التي عانت من تجارب مريرة في هذين المجالين. فالدولة محاطة بالأزمات والإرهاب والهجرة، والحروب الأهلية تعصف بجيرانها.

وغالبا ما تؤدي هذه البيئة إلى تدفق كثيف للمهاجرين، وأعمال إرهابية، بل حتى لانقلابات العسكرية.

وفي ظل هذه التحديات، تزايدت حساسية تركيا تجاه الأمن وأصبحت مركزا لمناقشات حول تقييد الحريات.

وفي كتبه ومقالاته ومقابلاته، كان إبراهيم قالن دائما يبرز جانبه الديمقراطي، مشددا على التعايش المشترك، والعيش بسلام مع جميع الهياكل العرقية والدينية، والتأكيد على الديمقراطية.

والآن، أصبح وهو في رأس أهم مؤسسة في البيروقراطية الأمنية، الفاعل الرئيسي في هذه المناقشات.

ظهر قالن، رئيس جهاز المخابرات الوطني، مرة واحدة أمام الجمهور وألقى خطابا.

في الحفل الذي أقيم بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس جهاز المخابرات وإطلاق أكاديمية المخابرات، أعلن سياسته "بتوفير الأمن دون التنازل عن الحريات". وملخص هذا الموقف جاء في قوله: "الأمن من أجل الحرية".

ومن الصعب التنبؤ بمدى صعوبة تطبيق هذا الموقف في جغرافيا الشرق الأوسط التي أصبحت حلقة نارية، ولكن بدأنا نرى بعض التأثيرات في سوريا.

ومن المحتمل أن يظل إبراهيم قالن الفيلسوف والموسيقار والأكاديمي ورجل المخابرات محط اهتمام في المستقبل.

مقالات مشابهة

  • حلم بوتين الذي تحول إلى كابوس
  • قالن.. الفيلسوف والموسيقار الذي قدم استشارات مهمة لهيئة تحرير الشام
  • وسم السيسي يعتلي منصات التواصل الاجتماعي .. وهذه حقيقة المظاهرات التي تطالب برحيله
  • من هو كمال عدوان الذي سُمي مستشفى غزة باسمه؟
  • ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
  • أحمد زعيم.. صوت الإبداع الذي يحلّق في سماء الفن العربي
  • الإعلان عن الشهر الذي شهد أكبر عدد من الولادات في تركيا
  • من هو النبي الذي قتل جالوت؟.. تعرف على القصة كاملة
  • تفاصيل حوار الرئيس السيسي مع طلبة أكاديمية الشرطة (فيديو)
  • الرئيس السيسي يدعو الشعب للوقوف بجانب الدولة ويحذر من الشائعات