قطوف من الإبداعات الشبابية (3): حديث العطر لخالد العلوي بين دلالات اللقاء وآهات الفراق
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
يُعد الشاعر خالد العلوي واحدًا من أبرز الشعراء الذين أخرجتهم مسابقات الملتقى الأدبي التي تنظمها وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وجاءت مشاركات العلوي متزامنة مع الألفية الجديدة مقدّمًا نفسه واحدًا من الأصوات الشعرية الشابة في الشعر الشعبي في عُمان، وقد حقق معها مراكز متقدمة في مسابقات الملتقى الأدبي.
ولعل قصيدة (حديث العطر) من النصوص الشعرية التي قدّمها خالد العلوي في مسيرته الشعرية، وفاز بها بالمركز الأول في الملتقى الأدبي بصلالة عام 2002م في فرع المسابقة في الشعر الشعبي ونشرها لاحقًا في مجموعته الشعرية (مسافة ظل) الصادرة عن بيت الغشام للنشر والترجمة عام 2017م.
تقوم القصيدة على أحد عشر بيتًا شعريًا محمّلًا بدلالات اللقاء العذب والغياب الحزين، اعتمد فيها خالد العلوي على اشتغالات اللغة الرومانسية الحالمة المتدفّقة من ينابيع الذاكرة. تقودنا اللغة الشعرية في القصيدة إلى عوالم الشعر البديعة؛ فقد قدّم الشاعر في قصيدته الجماليات اللفظية التي ترتفع بالقصيدة جماليًا ودلاليًا مقدّمة النص الشعبي وهو منفتح على تأويلات الخيال العاطفي.
هنا يمكن للقارئ أن يلمح النسق التصاعدي للغة في نص شعري شعبي؛ حيث خرج الشاعر بقصيدته من قاموسها اللفظي البسيط المعتاد والمكرّر إلى ما يشبه الثورة اللغوية؛ إننا أمام نص يستعير من اللغة الفصحى دلالاته ولغته وتأويلاته الشعرية، وهذا بحد ذاته ينم عن تمكن شعري ومخزون كبير للشاعر كما في قوله: (صار الرصيف لدمعتي منديل، وصار للشارع وجوه وذاكرة وأحلام، وهنا أسرجت للتوبة خيول المغفرة من عام) وهي على بساطتها فإنها تمد جسر التشبيهات والخيال والعاطفة المبتكرة بالدلالة المقصودة داخل النص.
ينفتح النص الشعري -رغم قصره- على ثلاثة مستويات قدّمت بنائيته التركيبية؛ ففي المقام الأول نجد النص يفتتح دلالاته بالاسترجاع وإشعال الذاكرة، فللذاكرة مساحة مهمة في بناء النص كما سيأتي، وأنْ يفتتح الشاعر نصه باستدعاء الذاكرة فذلك لأنّ الحدث الذي يتشكّل منه النص مهم وقابع في الذاكرة الشعورية، إننا أمام افتتاحية يعود معها بالقارئ إلى الماضي، يقول:
على آخر شارع كانت تتوق لوصله الأقدام
ذكرتك لين ما صار الرصيف لدمعتي منديل
ذكرتك صار للشارع وجوه وذاكرة وأحلام
هنا مروا... نسوا فيني أماني وذكريات وليل
وذاك الركن.. يتنفس بقايا أمسنا المنظام
حديث العطر للردهة... شجون الريح للإكليل
هنا أسرجت للتوبة خيول المغفرة من عام
نسيت وما نسى ذنبك... عتم ما غازله قنديل
للقارئ أنْ يستشف من هذا المطلع دلالات الفعل الماضي التي تعود بنا إلى ذاكرة سابقة، وللقارئ أيضا أنْ يستشف دلالات الجذر الثلاثي لكلمة (ذكر) المتشكّل في المطلع والمعبّر عن الغياب والفراق الطويل، نجدها في لفظ: (ذكرتك، وذاكرة، وذكريات) المترابطة مع ألفاظ تشحن النص بدلالات تعلق بالذاكرة من مثل: (نسوا، أمسنا، من عام).
يبدأ الشاعر مطلع قصيدته باسترجاع مكاني متمثلٍ في الشارع، وشخصيةٍ يشتغل عليها موضوع الاسترجاع، فتتسع قيمة المكان/ الشارع ويلعب دورًا محوريًا في النص، فمن خلاله تتم الاستعادة واشتغال الذاكرة وحتى الاشتياق والرغبة في اللقاء.
أما المستوى الثاني الذي تقوم عليه تركيبة النص هو امتزاج الذاكرة باللقاء، ولعلنا نلمح ذلك في الأبيات من (5-8) إذ يقول:
هنا في غفلة اللحظة سألتك خطوتين هيام
توضأ أمسك وصلى بلا خشوع وبلا ترتيل
سألتك لين ما صار الحكي في شفتيني خيام
وصار العشب يتهجى السحاب وخانه التأويل
سألتك إن غدا حملي فراغ وهالخطاوي زحام
يجوز الكذب في شرعك... مثل ما حلله أبريل؟؟
سألتك والمدى لوني.. وتعابيري أسى وأوهام
وداعٍ يشبهك يكرم تفاصيلي دلال وهيل
هنا تمتزج الذاكرة بدلالات اللقاء ويستحضر الشاعر غياب من يحب معيدًا مع الذاكرة أسئلة قائمة في اللقاء، وهنا يتضاد اللقاء مع المستوى السابق للذاكرة والاستعادة، وهذا في حد ذاته يحيل على مثول الحبيبة لدى الشاعر في كل لحظات الحياة في الماضي والحاضر، وفي الفراق وفي اللقاء، في الذاكرة وفي الشعر، وهنا يوظف الشاعر اللغة توظيفًا جيدًا بتعابير متخيلة وبديعة من مثل: (توضأ أمسك وصلى بلا خشوع وبلا ترتيل، وصار العشب يتهجى السحاب وخانه التأويل، ويجوز الكذب في شرعك مثل ما حلّله أبريل).
ويستغل الشاعر اللقاء لتكثر الأسئلة المحيّرة الموزعة بين اللقاء والفراق، فيتكرّر الفعل (سألتك) أربع مرات في أربعة أشطر شعرية، وللسؤال هنا بالطبع قيمة دلالية يعبّر عنها الشاعر في إثبات قيمة الوجود والغياب، والعشق والتعلق بالآخر.
لكن الشاعر يختم قصيدته بالمستوى الثالث وهو العودة مجددًا للذاكرة وامتزاجها بالفراق، وهنا يتجه النص إلى الدلالات الشاحبة الحزينة المرتبطة بـ(المنافي، والاحتضار والنهايات):
أنا المنفي على ضفافك ظما يستجدي الأيام
وقفت فآخر الضي... احتضار وتمتمات بخيل
تمر اليوم بأهدابك شوارع تعشقك بهيام
ويمر الأمس بأهدابي غريب وباكرك تضليل
وأذكر وإحنا في الشارع قبل يمكن حوالي عام
بكى ذاك الرصيف وما لقينا لدمعته منديل
إنّ طول مسافة الغياب شكّلت لدى الشاعر هاجسًا حقيقيًا يعيشه في الحياة، لكنه عبّر عنه تعبيرًا مختصرًا في الشعر، مستخدمًا اللغة الإبداعية فسرعان ما عاد بعد استخدامه لدلالات اللقاء إلى الذاكرة التي صارت تشدّه شدًّا إلى عوالمها وذاكرتها، فنجده يمزج اللقاء في المستوى السابق بالفراق كما يمتزج الحب بالموت، وفي نقلة سريعة نجد النص يتحول إلى ختامية أقرب إلى الحزن والرحيل والاحتضار.
في أبيات قصيرة عبّر خالد العلوي عن مكنونات النفس الداخلية وتعابير الألم والفراق وتحولات اللقاء بلغة بديعة خلابة، واستطاع أن يقرأ ملامح هذا الصراع بين عالمين مختلفين، عالم اللقاء وعالم الفراق، وأن يجسّد صورة الغياب في هيئة إنسان يحاوره ويطرح أسئلته الكونية عليه.
إنّ نص (حديث العطر) من النصوص المهمة في تجربة الشاعر خالد العلوي، ولا أبالغ إن قلت إنه من أجمل نصوصه دلالة وحسًّا رومانسيًا وصورًا معبرةً ودهشةً رسمتها مخيلة شاعر. ولعل المتابع يدرك التطور الحاصل في تجربة العلوي في نصوصه اللاحقة لا سيما النصوص التي يركّز فيها على جماليات اللغة، وعمق الفكرة والتي يوجه من خلالها رسائل شعرية بديعة تستحق التأمل والدراسة والبحث.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الشعر
إقرأ أيضاً:
هيام عباس: السينما أداة قوية للتعبير عن الهوية والتراث والفن يُحافظ على الذاكرة الجماعية
(عمان): مسيرة فنية استثنائية تجسدها الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيّام عباس، التي انطلقت من قرية دير حنا في الجليل لتصل إلى أرقى المنصات الفنية العالمية في هوليوود. وخلال مشاركتها في فعاليات مهرجان أجيال السينمائي 2024، استعرضت عباس تجربتها الفنية الممتدة على مدار أربعين عاماً، مؤكدة أهمية السرد القصصي الجماعي في نقل الهوية والتراث.
وفي حديثها عن دور السينما في التعبير عن الهوية، شددت "عباس" على أهمية استخدام الفن كمنصة للتعبير عن الذات والوجود بشكل أصيل، بعيداً عن الصور النمطية التي يفرضها الآخرون. وأكدت على العلاقة الوثيقة بين التجارب الشخصية والذاكرة الجماعية، داعية إلى أهمية الحفاظ على الهوية الجماعية وتعزيزها.
وكشفت الفنانة المخضرمة عن مشاريعها المستقبلية، حيث تستعد للتعاون مع المخرج دانييل عربيد، كما ستشارك في فيلم للمخرجة آن ماري جاسر يتناول قصة نضالية فلسطينية تمتد عبر أجيال متعددة. وتفتخر عباس بمسيرتها المهنية الثرية التي جمعتها مع نخبة من أهم المخرجين في العالم، من بينهم المخرج العالمي ستيفن سبيلبرغ، وجيم جارموش، ودينيس فيلنوف، وتيرينس ماليك، وريدلي سكوت، إضافة إلى مخرجين عرب بارزين مثل يسري نصر الله وهاني أبو أسعد.
وتصف هيام عباس تجربتها في عالم التمثيل بأنها رحلة معرفية عميقة ساعدتها في اكتشاف ذاتها وفهم الطبيعة البشرية بشكل أعمق. وقد توج هذا المسار المهني مؤخراً بمشاركتها في الفيلم الوثائقي "باي باي طبريا" الذي أخرجته ابنتها لينا سويلم، وحظي بدعم مؤسسة الدوحة للأفلام. وعلى الرغم من ترددها الأولي في كشف جوانب شخصية من حياتها، إلا أن النتيجة النهائية للفيلم أثبتت نجاح هذه التجربة الفنية المميزة.
وفي سياق حديثها عن السينما الفلسطينية، أشارت إلى تجاربها المتنوعة في السينما العربية، خاصة في دول شمال إفريقيا، مؤكدة على العلاقة الخاصة التي تربطها بالسينما النسائية في هذه المنطقة. كما نوهت إلى التحديات التي تواجه صناعة السينما الفلسطينية، وأبرزها نقص التمويل الذي يعيق تطور هذه الصناعة رغم وفرة الأفكار والمواهب.
وأثبتت الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيّام عباس تنوع موهبتها من خلال تجربتها في الإخراج، حيث قامت بإخراج حلقة من المسلسل الشهير "رامي"، كما أخرجت الفيلم القصير "لي دوني ديلا فوتشيرا" ضمن سلسلة روايات برادا المخصصة للنساء، مما يؤكد قدرتها على التنقل بين مختلف المجالات الفنية بنجاح.