سودانايل:
2024-11-23@17:24:26 GMT

السير هيوبرت هدلستون السودان (3 -3)

تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT

السير هيوبرت هدلستون السودان (3 -3)

Sir Hubert Huddleston of the Sudan (3-3)
W. Travis Hanes III وليام ترافس هانس الثالث

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الثالث والأخير من ترجمة لغالب ما ورد في مقال للمؤرخ الأمريكي وليام ترافس هانس الثالث W. Travis Hanes III ، الذي عمل أستاذاً في جامعة ساوثويسترن بولاية تكساس، ثم في كلية مجتمع في بالم اسبرنق بولاية كاليفورنيا.

وتجد هنا قائمة بأهم أعمال هذا الأستاذ (https://www.linkedin.com/in/travis-hanes-64b9176). نُشِرَ هذا المقال في العدد الثاني من المجلد العشرين من مجلة " The Journal of Imperial and Commonwealth History " الصادرة عام 1992م، في صفحات 248 – 273.
وسيرة حياة هدلستون (1880 - 1950 م)، ذلك الإمبريالي المتطرف، مبذولة في موسوعة الويكيبديا (https://shorturl.at/ucjvw) والموسوعة الحربية (https://shorturl.at/3a1tz) وفي كتب عديدة منها Shadows in the Grass لمؤلفه R.O. Collins، وكتاب Empire on the Nile لمؤلفه Martin Daly. وقد عمل الرجل قائداً لقوة دفاع السودان عام 1924م، وشغل منصب حاكم عام السودان (24 أكتوبر 1940- 8 أبريل 1947م).
ولا شك في أن كاتب هذا المقال يمالئ هدلستون كثيراً في غالب ما كتبه عنه ويظاهره في مواقفه التي اتخذها إبان عمله في السودان، بل ينسب له الفضل في قيام "حركة وطنية" بالسودان. ويبدو أن "التاريخ حمال أوجه" بالفعل، كما يقول بعضهم.
المترجم
************ *********** **********
عاد هدلستون إلى الخرطوم في الخامس من ديسمبر، وفي غضون اليومين التاليين أحاط المسؤولين البريطانيين والسودانيين علماً بما ورد في رسالة أتلي الأخيرة له. وأعلن هدلستون في يوم 7 ديسمبر للعامة أن بريطانيا تتعهد بأن يكون السودان حراً في تقرير مصيره بعد أن يبلغ مرحلة الحكم – الذاتي، وهذا يشمل الاستقلال التام من دولتي الحكم الثنائي، إن رغب في ذلك. وأحدث ذلك الإعلان تداعيات مدوية في الصحف المصرية، وكان له تأثير قوي على صدقي باشا (الذي كان قد وهن بفعل المرض وكبر السن، وبالضغوط التي توالت عليه من خصومه السياسيين، وبفقدانه لثقة الملك)، فآثر الاستقالة من رئاسة الوزارة، وتولاها من بعده النقراشي باشا الذي أثبت أنه أكثر حدةً في إدانته لهدلستون وللتفسير البريطاني لبروتوكول السودان. وأكد النقراشي في حديث له أمام حشد صاخب من أعضاء البرلمان المصري بأن وحدة مصر والسودان هي وحدة دائمة، وما من سبيل لفصم عراها. وبعد مرور أسبوعين أعاد هدلستون على مسامع السودانيين في مدينة الأبيض ما ذكره آنِفاً في الخرطوم عن تعهد حكومة أتلي. ومع إصرار حكومة السودان على عدم التزام الصمت أو حتى التحفظ حيال التفسير البريطاني لبروتكول صدقي – بيفن، بلغت العلاقات الإنجليزية – المصرية الدَّرَكَ الأسْفَلَ.
لقد سعى هدلستون والمسؤولون في "القسم السياسي" بحكومة السودان بأقصى ما عندهم لتقويض سياسة التهدئة والاسترضاء التي كان ينتهجها وزير الخارجية البريطانية تجاه مصر. ولم ينجح هدلستون والمسؤولون "القسم السياسي" في مسعاهم، غير أنهم أفلحوا في جعل الوزارة البريطانية تلتزم بتفسير دقيق ومحدد للبروتكول يحفظ للسودانيين الحق في تقرير مصيرهم. وفي ذات الوقت عزز هدلستون من موقف السودان باستخلاصه لتعهد كتابي من رئيس الوزارة البريطانية بأن بلاده لن تسمح لمصر بـ "التدخل" في إدارة الحكم الثنائي. ولم يكن هدلستون ولا من يعملون تحته يؤمنون بأن المصريين سوف يلتزمون بترك السودان وشأنه. وبعد أوبته من لندن شرع هدلستون (ومساعدوه) في حملة كان هدفها هو كشف نوايا مصر الحقيقة في التسلل لدولة الحكم الثنائي.
وفي يوم 13 ديسمبر من عام 1946م أبلغت حكومة السودان وزارة الخارجية البريطانية بأنها، وفقاً لسياسة "السودنة" التي تنتهجها، وبحسب اتفاقية عام 1936م، فإنها لن تجدد عقد عمل الشيخ حسن مأمون قاضي القضاة (الذي كان من المقرر أن ينتهي عقده في يناير 1947م)، وأن تعين قاضياً سودانيا مكانه. وبعد مرور أسبوع، أبلغت حكومة السودان الحكومة المصرية بقرارها هذا. وفي يوم 23 ديسمبر استدعى النقراشي باشا رئيس الوزارة المصرية السيد كامبل السفير البريطاني بالقاهرة لمناقشة ذلك الأمر، وعرض عليه بلباقة إمكانية "تعديل" قرار حاكم عام السودان، وذكر له أن تأثير ذلك القرار على الرأي العام المصري سيكون "كارثيا"، إذ أن وظيفة "قاضي القضاء" هي الوظيفة العالية الوحيدة التي يشغلها مصري في السودان، كما أنها وظيفة ذات أهمية دينية كبيرة. ورغماً عن إقرار النقراشي بسلطة هدلستون في اتخاذ مثل ذلك القرار، إلا أنه كان يرى بأن توقيته لم يكن مناسباً؛ ففي هذا المنعطف في العلاقات المصرية – البريطانية سيُفسر قرار هدلستون – لا محالة - بأنه دليل على أن سياسة بريطانيا تهدف لفصل السودان عن مصر. وقدم النقراشي مقترحاً بديلاً لقرار هدلستون وذلك بتعيين أحد القضاة السودانيين نائباً للشيح حسن مأمون، على أن يُعَيَّن أحد السودانيين في وظيفة "مفتي". (ذكر الكاتب في الحاشية أن السفير كامبل اشتكى أيضاً لوزارة الخارجية من قرار هدلستون. المترجم).
وتولى بيفن وزير الخارجية البريطانية بنفسه معالجة الأزمة التي نشأت بسبب عدم تجديد هدلستون لعقد عمل قاضي القضاة المصري، وأَمْلَى تعليماته على السفير كامبل عشية ليلة عيد الميلاد بما يفيد بأن ذلك القرار "يبدو غير مناسب في هذا الوضع الدقيق". وأصدر أيضا بعض الأوامر لهدلستون:
"سأكون سعيداً لو اِمتَنَعَ الحاكم العام عن إصدار أي بيانات حتى يمكن لي أخذ الوقت الكافي لدراسة الموضوع بدقة... ويبدو أنه من الأوفق الآن أن يدع ذلك القاضي يكمل عاماً آخر حتى ... تصبح العلاقات السودانية – المصرية في وضع أقل اِضْطِراماً".
وظل وزير الخارجية يسعى للوصول إلى معاهدة مقبولة للطرفين، ورأى في موضوع قاضي القضاة ورقةً للمساومة. ووجه الوزير في يوم 28 ديسمبر السفير كامبل بإخبار النقراشي بأننا "إن تمكنا من الوصول لنوع من التسوية حول المعاهدة، فإن حكومة جلالة الملك مستعدة للوصل إلى حل لمسألة ذلك القاضي".
لقد كانت جهود بيفن لاستخدام تعيين موظف سوداني في حكومة السودان كـ "جزرة" سياسية للمصريين تنتهك كل قواعد الوصاية (trusteeship) التي كان القسم السياسي بحكومة السودان يَعْرِفُ بها نفسه منذ عام 1924م. واستثارت خطوة بيفن غضب هدلستون، فهي بعيدة كل البعد عن وعود رئيس الوزراء التي شملت عدم التدخل في إدارة شؤون السودان، وبدا أن بيفن الآن على استعداد بكل سرور لتوزيع وظائف حكومة السودان بحسبانها رَشَاوَى سياسية هدفها كسب التعاون مع مصر. وكان ذلك نمطاً ونهجاً "كولونياليا" قديما كانت حكومة السودان (الحالية) ترى أن عهده قد ولى، بعد أن اِسْتَنْفَدَ أغراضه. وجاءت ردة فعل هدلستون سريعةً على ما رأه انتهاكاً لصلاحياته، ونقضاً للوعود التي قُطِعَتْ له في لندن؛ فأبرق رداً لا هوادة فيه على "تعليمات" بيفن جاء فيه:
"لقد اتخذت الإجراء الخاص بشأن استبدال قاضي القضاء المصري بموجب المادة الثانية (البند 2) من معاهدة عام 1936م، التي تمنحني سلطة كاملة وغير مشروطة، وأنا على علم بعدم وجود سابقة لتدخل حكومة صاحب الجلالة في تعيين موظفي حكومة السودان. وعلاوة على ذلك، وقبل سفري من إنجلترا، منحني السيد أتلي تأكيدات قوية بعدم التدخل في سلطاتي الدستورية لإدارة شؤون السودان؛ بل حثني على الدفع قُدماً بعملية السودنة، وبأعجل ما تيسر".
وذكر هدلستون بأن هناك سودانياً مؤهلاً يمكنه شغل تلك الوظيفة. وبموجب المعاهدة ينبغي أن يتم تعيينه في وظيفة قاضي القضاة التي ستشغر بمجرد انتهاء عقد عمل القاضي الحالي. وفوق هذا وذاك، سيدرك السودانيون سريعاً أن أي محاولة لاستغلال هذا المنصب وسيلةً للمساومة سوف تقوض سلطته. ورفض هدلستون، بكل صراحة ووضوح، السماح لبيفن بتسييس مسألة تعيين أحد الموظفين السودانيين، وذكر في برقيته أنه "لا يستطيع أن يذعن لاقتراح وزير الخارجية".
ولم يكن بيفن معتاداً على عصيان أحد مرؤوسيه لأوامره، فأثاره بشدة ذلك الرد الحاد من هدلستون. وفي محاولته التصرف تجاه السودان كما كان تخيل أن "وزير المستعمرات" يتصرف في شؤون المستعمرات، افترض بيفن أن القرار النهائي بشأن تعيين قاضي القضاة في السودان كان من صلب اختصاصه، ولم يقدر الفروق الدقيقة في علاقة هدلستون مع دولتي الحكم الثنائي. وسارع مسؤولوه الدائمون إلى شرح صعوبة الوضع: فمنصب الحاكم العام لم يكن مثل منصب الحاكم الكولونيالي العادي - فقد عُزِّزَ ذلك المنصب من خلال معاهدة دولية واتفاقية "الحكم الثنائي" الأصلية. وأثارت "توجيهات" بيفن مسألة دستورية ربما تترتب عليها تبعات كارثية. وهذا ما كان السير ايرك بكيت رئيس قسم المعاهدات بوزارة الخارجية قد حذر منه حين ذكر أن مسألة إن كان لأحد من الناس الحق (القانوني) في إعطاء أوامر للحاكم العام قد نُوقِشَتْ من قبل، وأن السير جون مافي Maffee (حاكم عام السودان بين عامي 1926 – 1933م) كان من المؤمنين بأن لا أحد يستطيع أن يعطيه أوامر من أي نوع، بل ليس بمقدور أحد أن يقدم على فصله عن منصبه إن لم يشأ هو بنفسه الاستقالة منه (ذكر كاتب المقال في الحاشية أن ايرك بكيت كان يرى أنه، من ناحية قانونية بحته، لا يحق لإحدى دولتي الحكم الثنائي منفردةً أن تعطي تعليمات إلى الحاكم العام، ولكن إذا وافقا معاً على تقديم نفس التوصية، فيجب اعتبار ذلك أمراً ملزماً. المترجم)
وعلي الرغم من أن هدلستون كان يرى بأن جون مافي كان قد "أبعد النُّجْعَة" وتطرف في موقفه، إلا أن تداعيات تلك المسألة أزعجت بيفن لحد بعيد، خاصة مع استمرار حاكم عام السودان في محاولة تقويض المفاوضات بين بريطانيا ومصر عن طريق مناداته بمنح السودانيين حق تقرير المصير. وبدأت مخاوف وزير الخارجية تتعمق أكثر فأكثر.
وفي أواخر شهر ديسمبر اشتكى النقراشي باشا مجدداً للسفير كامبل من أن تصريحات هدلستون تعمل على تخريب كل إنجاز مشترك لمصر وبريطانيا في سبيل تقريب وجهتي نظرهما، والتوقيع على المعاهدة. وفي الواقع كانت تصريحات وسياسات هدلستون تمثل تحديا مباشراً وعنيفاً ليس له من نظير سوى رفض شريف باشا إخلاء السودان عام 1884م، حتى اضطرت حكومة جلالة الملك لجعل الأرمني نوبار باشا يقبل بمطلبها. وكان النقراشي باشا يرى أن هدلستون، رغماً عن كل التطمينات والتأكيدات البريطانية، كان ينفذ عن عمد سياسته الخاصة القائمة على تشجيع السودانيين على الانفصال من مصر. وعلى الرغم من إنكار كامبل لتلك التهمة، إلا أن النقراشي كان قد توصل في الواقع لأسّ المشكلة. وكان كامبل نفسه يقر لمن يثق فيهم بأن التصريحات التي كان يطلقها هدلستون ومعه رجال "القسم السياسي" والسيد عبد الرحمن المهدي في كل يوم تقريباً قد زادت من صعوبة الموقف، وجعلته شبه عاجز عن فعل أي شيء حياله.
وبذل وزير الخارجية بيفن غاية جهده لإجبار الحاكم العام على الانصياع لأوامره. فبعد استلامه لشكوى النقراشي باشا في الثاني من يناير عام 1947م، أرسل بيفن برقية للسفارة البريطانية بالقاهرة (بصورة إلى الخرطوم) يذكر لهم فيها أن الوقت قد حان لـ "تخفيف حدة ما يحدث في السودان"، وأن تُترك أي مشكلة بعد ذلك لتتولى الحكومة البريطانية في لندن التعامل معها. وأضاف بيفن: "ولا بد لي أن أطلب من الحاكم العام ألا يطلق بعد الآن أي تصريحات مرتجلة حول هذا الأمر، ولكن عليه أن يتشاور معنا". ولم يقبل هدلستون بالطبع بذلك، فهو يأبى أن تُغل يداه في المستقبل، فرد بالتالي ذكره:
"بما أنه ليست هناك أي بيانات رسمية مباشرة ومعلنة من حكومة جلالة الملك حول تفسيرها لبروتكول السودان، فيجب علي أن أحتفظ بحق الرد على أي بيان أو تصريح تطلقه مصر يخالف ما أَجَاز لي السيد أتلي أن أخاطب به السودانيين .... ويتطلب الحفاظ على النظام العام في السودان أن تكون لي من الكياسة والتبصر ما يكفي لجلب الطمأنينة للسودانيين دون إبطاء عندما تدعوا الحاجة لذلك".
ومرة أخرى نصح كبار مسؤولي وزارة الخارجية بيفن بقبول تحفظات هدلستون "شريطة أن تبقى مذكراته وردوه التعقيبية ملتزمة تماماً بكل ما جاء في تطمينات رئيس الوزراء، وألا تصدر أي بيانات أو تصريحات من الخرطوم إلا في حالة حدوث أمر طارئ أو جلل". وتارةً أخرى أفلح الحاكم العام في الوقوف في وجه وزارة الخارجية البريطانية. ومع تدهور مفاوضات بيفن مع مصر أكثر فأكثر، بلغ أخيراً ضيق بيفن وخيبة أمله في الحاكم العام أقصى مداها (أورد كاتب المقال في الحاشية أن بيفن كان يرى أن العقبة الحقيقية في السودان هي تلك الغطرسة والغرور الكلولونيالي القديم في أوساط رجال القسم السياسي بحكومة السودان. المترجم).
وفي يناير من عام 1947م قدم بيفن عرضاً للنقراشي باشا يتضمن نسخاً متعددة لخيارين أساسيين: توقيع المعاهدة، مع قيام مؤتمر بريطاني – مصري حول السودان، عوضاً عن بروتكول صدقي – بيفن؛ أو القبول بالمعاهدة والبرتوكول، مع تفاهمات متفق عليها حول "حق السودان غير المشروط في نيل الحكم الذاتي، مع اتخاذ كل الإجراءات من أجل ضمان مصالح مصر الدائمة في السودان. ووعد بيفن أيضاً بـ "إصدار بيان أحادي – من جانب بريطانيا فقط – يفيد بأن حكومة جلالة الملك لن تقف حجر عثرة أمام السودانيين إن اختاروا في نهاية المطاف أن يبقوا متحدين مع مصر". ودعا بيفن النقراشي لزيارة لندن لمناقشة تلك المسألة وجها لوجه. ورفض المصريون مناقشة أي عرض يتضمن حقوق السودانيين في تقرير مصيرهم، أو أي اقتراح لا يعترف بالتاج المشترك بين مصر والسودان. ورغم ذلك لم ييأس بيفن، فأرسل في يوم 23 يناير برقية للنقراشي تتضمن بروتكولا آخر للسودان أشار فيه هذه المرة فقط إلى "حرية السودانيين في ممارسة اختيارهم بحسب ما تمليه عليهم طموحاتهم السياسية و ... المبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة الخاصة بالمناطق التي لا تتمتع بالحكم الذاتي". ولم يُفْضَ هذا الاقتراح إلا لإثارة المزيد من التحدي من الخرطوم.
وكما العهد به في الإصرار، حرص هدلستون بدقة على تتبع مسار البرقيات المتبادلة بين لندن والقاهرة. وفي تطور مثير للسخرية والتهكم، غدا هدلستون يحذر الآن من تغيير شروط بروتوكول صدقي - بيفن المكروه: "إن أي تغيير أو تعديل في البروتوكول، خاصةً فيما يتعلق بالوضع المستقبلي سوف يتضح جلياً للسودانيين على الفور.... وإن قبل النقراشي ذلك التعديل المقترح فسأضطر إلى إعادة نشر جميع الضمانات والوعود المتعلقة باختيارات السودانيين الواردة في خطاب السيد أتلي بتاريخ 30 نوفمبر 1946م، وفي البرقية رقم 2038 بتاريخ 30 نوفمبر التي بُعثت للقاهرة". ولم يكن هدلستون في حاجة للانشغال بكل هذا. فبينما كان السفير كامبل يوضح لهدلستون أن وزير الخارجية بيفن لن يتدخل في مسألة الاتفاقية بأكثر مما فعل، أعلن النقراشي باشا رسمياً في بداية فبراير 1947م أن مصر ستحيل كل ما دار حول تلك الاتفاقية إلى الأمم المتحدة. وبذا أُنْهِيَتْ المفاوضات بين الجانبين البريطاني والمصري.
ولم تثمر المجهودات الشاقة التي بذلها وزير الخارجية بيفن بعد مرور قرابة عام كامل عن شيء يذكر. وكان بيفن قد بذل أقصى ما يستطيع من أجل مراعاة (مصالح) مصر، ولكنه كان يقر لمن يثق فيهم بأن المصريين "لن يقبلوا أبداً بأي نظام معادٍ لهم في السودان". وكان وزير الخارجية يؤمل حتى اللحظة الأخيرة بأن تواصل الإدارة البريطانية محاولاتها في "التعاون الودي" مع مصر. وكان يؤمن أيضاً بأن حاكم عام السودان قد "سمم عقل مصر ضدنا"، وكان يلومه شخصياً على فشل المفاوضات بين الدولتين. وكتب بيفن صباح اليوم الأول من عام 1947م في مسودة ورقة للوزارة البريطانية أن "سلوك الحاكم العام ظل يتسم بالصعوبة المفرطة ... وهو يفترض أنه ديكتاتور وليس بمقدور أحد السيطرة عليه". ومع نهاية شهر فبراير، وعندما كانت سياسة مصر تجاه السودان في حالة تخبط وفوضى، قرر بيفن أن الوقت قد حان لإعادة المحاولة ثانيةً – هذه المرة عن طريق وضع سياسة للسودان تُدَارُ من لندن، وليس من الخرطوم. وكما هو متوقع، كان هدلستون هو أول ضحايا تلك السياسة.
قدم السير هيوبرت هدلستون "استقالته" من منصب الحاكم العام في مارس 1947م. ومُنح وساما رفيعاً نظير خدمته للإمبراطورية هو وسام القديس مايكل والقديس جورج (GCMG)، بتوصية من رئيس الوزراء أتلي ووزير خارجيته بيفن. وكانا قد دافعا عن هدلستون عندما أتهمته الحكومة المصرية بتعدي حدود سلطته. ووصفت صحيفة "أخبار اليوم" المصرية الصادرة يوم 15 مارس أن منح هدلستون ذلك التكريم هو بمثابة "إخفاء للجثة تحت الزهور، كما جرت عليه العادة البريطانية". وكان هدلستون قد عبر عن رغبته في أن يستمر في عمله حاكماً عاماً لسنة أخرى على الأقل حتى انتهاء مرحلة شكوى مصر للأمم المتحدة، غير أن تلك الرغبة لم تجد تعاطفاً عند رئيس الوزراء أو وزير خارجيته. وعلى الرغم من أن هدلستون قد استقال رسمياً من منصبه، إلا أنه في حقيقة الأمر كان قد أُقِيلَ. وكان بيفن قد اقترح أن يُمْنَحُ هدلستون لقب (بارون) على الأقل، حتى لا يبدو أنه قد جُرِدَ من منصبه لسبب غير مشرف، إلا أن رئيس الوزراء أتلي استكثر ذلك عليه ولم يوافق إلا على منحه وسام القديس مايكل والقديس جورج، رغما عن الحاح بيفن. ولم يشأ أتلي أيضاً أن يعلن عن منح هدلستون ذلك الوسام باكراً، بل جعل اسم هدلستون يأتي ضمن قائمة الشرف للمكرمين الآخرين ذلك العام.
وعلى الرغم من أن بيفن كان قد قبل "استقالة" هدلستون على أمل أن يقود غيابه عن المشهد السياسي بالسودان إلى "فتح صفحة جديدة في مفاوضات المعاهدة"، إلا أن رفض الحاكم العام المعلن للتغاضي عن الخلافات في تفسير بروتكول صدقي – بيفن قد عمل على شل الحكم الثنائي ووضعه في حالة استقطاب كامل وحاد، وفي مواقف مستحيلة. وعندما وضع بيفن في وقت لاحق الخطوط العريضة لسياسة تهدف لتحويل السودان إلى "ملكية مشتركة حقيقية" من خلال جلب المزيد من المصريين، اشتكى من معه من المسؤولين الدائمين من أنه بعد "تقاعد" هدلستون، فإن "سياسة" التنازلات هذه لن تُعد في مصر والدول العربية الأخرى إلا دليل ضعف شديد. وفي أبريل حذرت السفارة البريطانية في القاهرة (غالباً بسبب تصرفات هدلستون في السودان) من تزايد مشاركة مصر في شؤون الحكم الثنائي. وأختار وزير الخارجية – بعناية وبعد تدقيق شديد - من سيخلف هدلستون في منصب الحاكم العام، ووقع اختياره على السير روبرت هاو. غير أن هاو سار على نفس نهج سلفه بعد وصوله الخرطوم مباشرة. وبعد أسابيع قليلة عقب رحيل هدلستون أفلح السير جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري لحكومة السودان في إقامة شبكة خاصة من البرلمانيين والصحفيين البريطانيين المؤثرين المؤيدين للقسم السياسي مهمتها هي معارضة بروتكول صدقي – بيفن و"سياسة التهدئة والاسترضاء التي تنتهجها وزارة الخارجية البريطانية". وفي ظل مثل ذلك الضغط أثبت مجلس الوزراء البريطاني أنه أشد تمسكاً واصراراً من وزارة الخارجية في التصميم على تجنب تقديم أي تنازلات إضافية (لمصر).
وبحلول أشهر الصيف لم تعد مبادرات بيفن تلقى رواجاً، وعُلِقَتْ مؤقتاً في انتظار قرار من الأمم المتحدة. لذا رأت وزارة الخارجية أن تواصل في سياستها الرامية للمحافظة على ما هو مكتوب في المعاهدة الموجودة، وعلى مبدأ نيل السودانيين حق تقرير المصير. وفي أثناء مناقشة البرلمان لسياسة البلاد الخارجية في 16 مايو 1947م، دافع بيفن عن سياسته تجاه السودان ومصر وقال في معرض حديثه عن مفاوضات المعاهدة: "لقد قدمت تسويةً عادلةً، بيد أني لم أحاول شرائها قط "، ووعد بأنه لن يقدم أي نوع من التنازلات علي حساب الشعب السوداني. والتزمت وزارة الخارجية بذلك الوعد للخمس سنوات القادمة. وعلى الرغم من أنه جرت محاولات عديدة لإحياء المفاوضات بين بريطانيا ومصر (خاصة في عامي 1948 و1951م)، إلا أنها أخفقت جميعاً نسبة للخلاف المبدئي بين الدولتين في مسألة حق السودانيين في تقرير مصيرهم (وهي ذات المسألة التي كان أثارها هدلستون وكبار العاملين بالقسم السياسي لحكومة السودان بين عامي 1946 – 1947م). وبقي الوضع كما كان عليه إلى أن قامت ثورة في مصر عام 1952م، وظهر قائد مصري ونصف – سوداني (1)، اسمه محمد نجيب، أفلح في حل تلك المشكلة المستعصية (في الأصل "عقدة غورديوس Gordian knot") بالتخلي تماماً عن فكرة السيادة على السودان.
لقد كان بروتكول صدقي – بيفن نقطة تحول في تاريخ السودان. وكان حاكم عام السودان هدلستون، بتحديه العلني لتفسير دولتي الحكم الثنائي لذلك البروتكول، قد ضمن للسودانيين الحق في تقرير مصيرهم، الذي أفضى في نهاية المطاف لاستقلال السودان التام. وفي ذات الوقت، كان السودانيون المنادون بالاستقلال يرون في ذلك البروتكول خيانةً من الحكومة البريطانية لهم. وبالإضافة لذلك، ورغماً عن دفاع هدلستون عن حقوق السودانيين، إلا أن عدم قدرته على منع بريطانيا من الاعتراف بالسيادة المصرية على السودان أقنعت فصيل السودانيين المنادين بالاستقلال بضعف "القسم السياسي بحكومة السودان"، وقد كانوا يحسبونه معاوناً لهم في نضالهم من أجل نيل حق تقرير المصير. وفي أعقاب "كارثة صدقي – بيفن" قرر السيد عبد الرحمن المهدي وحزبه (الأمة) أنه لا يمكن لهم تحقيق هدفهم (في نيل الاستقلال) بمجرد محاولة الاستفادة من خلافات بريطانيا ومصر. لذا ضحى السيد عبد الرحمن المهدي بتحالفه مع "القسم السياسي بحكومة السودان"، ووقع في عام 1952م اتفاقيةً مع حكومة الثورة المصرية مهدت الطريق لاتفاقية عام 1953م بين بريطانيا ومصر، التي وضعت جدولاً زمنياً لسلطة الحكم الذاتي واستقلال السودان (2). وتبقى حقيقة أنه لولا معارضة هدلستون المستميتة والمُعَانِدة، فقد كان من الراجح أن وزارة الخارجية البريطانية (برئاسة ارنست بيفن) قد قبلت بالسيادة المصرية على السودان وبدور أكبر للمصريين في إدارة الحكم الثنائي من قبل عدة سنوات. وإن كان ذلك قد حدث، فقد يكون السودان الآن مجرد محافظة أخرى في مصر المستقلة.
ومن مفارقات الأقدار أن العمر لم يمتد بهدلستون وبيفن ليريا الحصيلة النهاية لما قاما به. فقد تعرض بيفن – بسبب شدة الإجهاد في العمل لإعمار بريطانيا بعد الحرب – لأزمات قلبية متتالية في عام 1951م. وكان الكثيرون يعدونه من أعظم وزراء الخارجية البريطانيين في العصر الحديث. أما هدلستون فقد مات بالسرطان قبل بيفن ببضع شهور. وبعد نحو ربع قرن على وفاته كتب عنه السكرتير الإداري (وآخر حاكم عام في نيجيريا) جيمس روبرتسون في مذكراته مشيداً بنضاله الوطيد والدؤوب من أجل منع الحكومة البريطانية من التنازل عن حق السودانيين في تقرير مستقبلهم، وقال بأن مثل ذلك العمل يتطلب قدراً كبيرا من العزم والاصرار والشجاعة الأخلاقية، وأن السودانيين يدينون بالفضل له في استقلال دولتهم. ومهما يكن من أخطاء عند هدلستون (بحسبانه رجلاً إمبرياليا) فهذا هو التقويم المناسب للمساهمة التي قدمها الرجل للسودانيين، باعتباره واحداً من آخر الحكام البريطانيين في وادي النيل.
********* ********* *********
إحالات مرجعية
1/ ذكر محمد نجيب في مذكراته المعنونة "كنت رئيساً لمصر" أنه يعرف جيدًا أنه ولد في الخرطوم، وكذلك أمه، أما جدة أمه فمصرية الأصل، من المحلة الكبرى. وكان والده قد تزوج أكثر من امرأة، فتزوج بسيدة سودانية هي "سيدة محمد حمزة"، وأنجب منها عباس، ثم تزوج بوالدة محمد نجيب التي كانت من عائلة مصرية تقطن في أم درمان وكانت شقيقة أحد أصدقائه. https://tinyurl.com/2u6vztp2
2/ يمكن النظر في ترجمة مقال لنفس كاتب المقال الحالي عنوانه "الدبلوماسية الإمبريالية في عهد إنهاء الاستعمار: السودان والعلاقات البريطانية - المصرية بين عامي 1945 و 1956م"، في هذا الرابط https://tinyurl.com/hzdbwd7h

alibadreldin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: وزارة الخارجیة البریطانیة حکومة جلالة الملک فی تقریر مصیرهم حکومة السودان السودانیین فی النقراشی باشا المفاوضات بین بریطانیا ومصر وزیر الخارجیة رئیس الوزراء الحاکم العام قاضی القضاة منصب الحاکم فی السودان التی کان کان یرى کان قد إلا أن لم یکن کان من فی یوم من أجل عام فی قد عمل ما کان مع مصر

إقرأ أيضاً:

في ذكرى إنشاء مؤسسته.. كم عملية زراعة قلب أجراها السير مجدي يعقوب؟

بمناسبة مرور 15 عامًا على إنشاء مؤسسة مجدي يعقوب لأمراض وأبحاث القلب، أقيم احتفال بالمتحف المصري الكبير اليوم، تقديرًا لجهوده في مجال عمليات زراعة القلب التي أنقذت حياة الآلاف من المرضى حول العالم.

إجراء 4000 عملية زراعة قلب 

اعتبر السير مجدي يعقوب عملية زراعة القلب بمثابة هبة للحياة، وفق ما صرح به في حوار تليفزيوني سابق له على قناة ON، فهو يعتبر من أوائل الأطباء الذين عملوا في مجال زراعة القلب حول العالم ليستطيع بذلك إنقاذ حياة الآلاف من المرضى بعدما فقدوا الأمل في شفائهم، موضحًا: «عملت حوالي 4000 عملية زراعة قلب».

مرّ السير مجدي يعقوب بالكثير من المواقف الغريبة والصعبة خلال عمليات زراعة القلب الدقيقة، إلا أنه اعتبر أصعب عملية كانت منذ حوالي 23 عامًا لطفلة بريطانية كان عمرها وقتها 7 أشهر، إذ استدعته الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا خصيصًا لإجراء زراعة قلب لها نظرًا لصعوبة حالتها وثقتها الكبيرة في كفائته.

أصعب عملية أجراها مجدي يعقوب

لم يجد «يعقوب» وقتها قلب صغير يُمكن زراعته للطفلة، وبعد الكثير من البحث والمحاولات توصل لقلب صغير قام زرعه بجانب قلبها الأساسي، وتابع خلال حديثه التلفزيوني، أن الطفلة عاشت حوالي 8 سنوات بالقلبين، إلا أنها أصيبت بمرض السرطان، فعاد مرة أخرى إلى المستشفى ببريطانيا لاستئصال الورم والقلب الذي تم زراعته بعدما تأكد من عودة كفاءة القلب الأساسي: «البنت دي دلوقتي في العشرينيات من عمرها واتجوزت وبقى عندها أطفال». 

مقالات مشابهة

  • غليزان: إنحراف حافلة وتعطل حركة السير إتجاه وهران
  • الأمطار الغزيرة تغرق شوارع عدن وتشل حركة السير
  • وزير الخارجية بشيد بمواقف قطر
  • شاهد بالفيديو.. الكابتن التاريخي لنادي الزمالك يتغزل في المنتخب السوداني بعد تأهله للنهائيات: (السودان التي كتب فيها شوقي وتغنت لها الست أم كلثوم في القلب دائماً وسعادتنا كبيرة بتأهله)
  • الحكومة تراجع قانون تعويض ضحايا حوادث السير بعد 40 سنة من الجمود
  • وزير الخارجية الأمريكي يبحث من نظيره الاماراتي الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في السودان
  • بسبب السير عكس الاتجاه.. مصرع شخص وإصابة 12 فى حادث تصادم بالشرقية
  • وزير الخارجية يستقبل سفير دولة الكويت
  • وزير الخارجية يلتقي بالسفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية والقنصلية و ممثلي منظمات الامم المتحدة المعتمدة بالسودان
  • في ذكرى إنشاء مؤسسته.. كم عملية زراعة قلب أجراها السير مجدي يعقوب؟