تدخلات الإسلاميين والقوى المدنية في القوات المسلحة السودانية- الأضرار والتداعيات
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
زهير عثمان
التداخل الحزبي في الجيش السوداني له تاريخ طويل ومعقد يعود إلى فترة ما بعد الاستقلال في عام 1956. الجيش السوداني، كمؤسسة وطنية، كان دائمًا في قلب الصراع السياسي في البلاد. فيما يلي سرد لأهم المحطات التاريخية التي شهدت تداخلاً بين الأحزاب السياسية والجيش السوداني:
الفترة من الاستقلال إلى انقلاب عبود (1956-1958)
الاستقلال والحكم المدني بعد استقلال السودان في 1956، كانت الحكومة المنتخبة ذات طابع مدني، ولكن الصراعات الحزبية والتنافس بين القوى السياسية، مثل حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي، أضعف قدرة الدولة على الحكم.
الانقلاب الأول (1958) بسبب الفشل في إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية، قام الفريق إبراهيم عبود بانقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958، مما أدى إلى استيلاء الجيش على السلطة لأول مرة في تاريخ السودان.
حكم عبود والانتفاضة الشعبية (1958-1964)
حكم عسكري صارم: حكم الفريق عبود السودان بقبضة حديدية مع قمع واسع للمعارضة السياسية. ومع ذلك، كان الجيش يتأثر بالتيارات الحزبية، خاصة بعد أن بدأ يظهر تأثير القوى اليسارية والقومية داخل الجيش.
الانتفاضة الشعبية (1964) انتهى حكم عبود نتيجة لانتفاضة شعبية مدعومة من القوى السياسية والمدنية، مما أدى إلى استقالة عبود وتشكيل حكومة انتقالية مدنية.
الفترة الديمقراطية الثانية (1964-1969)
حكومة ديمقراطية وحزبية: شهدت هذه الفترة عودة الحكم المدني، حيث كانت الأحزاب السياسية، مثل الحزب الشيوعي السوداني وحزب الأمة، تلعب دورًا رئيسيًا في الحياة السياسية. ومع ذلك، ظل الجيش يحتفظ بنفوذه، خاصة مع تعاظم دور التيارات اليسارية داخل القوات المسلحة.
انقلاب النميري (1969): في 25 مايو 1969، قام مجموعة من الضباط، بقيادة جعفر نميري وبدعم من القوى اليسارية، بانقلاب عسكري مدعوم من الحزب الشيوعي السوداني وبعض التيارات القومية. كان هذا الانقلاب بمثابة بداية فترة جديدة من التداخل العميق بين الجيش والأحزاب السياسية.
حكم النميري وتقلباته الأيديولوجية (1969-1985)
الفترة الاشتراكية في البداية، تحالف النميري مع القوى اليسارية والشيوعية، مما أدى إلى تكوين مجلس قيادة الثورة الذي كان له تأثير كبير على الجيش. ومع ذلك، في عام 1971، بعد محاولة انقلابية فاشلة من الحزب الشيوعي، انقلب النميري على اليساريين وقام بتصفية النفوذ الشيوعي داخل الجيش.
التحول نحو الإسلاميين في أوائل الثمانينات، بدأ النميري في التحالف مع الإسلاميين، بما في ذلك حسن الترابي وجماعة الإخوان المسلمين. هذا التحالف أدى إلى إدخال عناصر إسلامية داخل الجيش، وهو ما أثر على مسار الأحداث السياسية فيما بعد.
انقلاب الإنقاذ وحكم البشير (1989-2019)
انقلاب 1989 في 30 يونيو 1989، قاد العميد عمر البشير، بدعم من الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي، انقلابًا عسكريًا ضد الحكومة الديمقراطية المنتخبة. منذ ذلك الحين، أصبح الجيش أداة بيد الحركة الإسلامية، التي سعت للسيطرة على الدولة بكافة مفاصلها، بما في ذلك الجيش.
الدمج بين الجيش والأمن خلال فترة حكم البشير، تم دمج القوات المسلحة السودانية مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، حيث أصبحت تلك الأجهزة مسيسة بالكامل وتحت تأثير الإسلاميين. أدى ذلك إلى تدهور الجيش كمؤسسة وطنية مستقلة.
الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (2019-2021)
الانتقال الديمقراطي بعد الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، دخل السودان فترة انتقالية تهدف إلى التحول الديمقراطي. ومع ذلك، كان الجيش، بقيادة المجلس السيادي، لا يزال يسيطر على الكثير من مفاصل الدولة. واجهت الحكومة الانتقالية صعوبات جمة بسبب النفوذ المتزايد لبعض القوى السياسية، بما في ذلك الإسلاميين داخل الجيش.
انقلاب البرهان (2021): في 25 أكتوبر 2021، قاد الفريق عبد الفتاح البرهان انقلابًا عسكريًا ضد الحكومة الانتقالية، مما أدى إلى تعليق العملية الانتقالية والعودة إلى الحكم العسكري المباشر.
الحرب الأهلية والصراع الداخلي (2023)
التصعيد الداخلي في أبريل 2023، اندلع الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهي ميليشيا مسلحة نشأت في ظل النظام السابق وكانت لها صلات وثيقة بالإسلاميين. كان هذا الصراع نتيجة لتفكك الدولة والنفوذ العميق للأحزاب السياسية داخل الجيش، بما في ذلك الإسلاميين والقوى المدنية الأخرى.
ولا أنسي لواء البراء تداخل المليشيات الإسلامية مثل "اللواء البراء" في أعمال الجيش السوداني والتحالف معه في الحرب يعكس تعقيدات عميقة في المشهد العسكري والسياسي في السودان. هذا التداخل ليس مجرد تعاون عسكري، بل يعكس تأثير الأيديولوجيات السياسية والدينية في قرارات الجيش السوداني وفي تشكيل مواقفه العسكرية.
نقاط التحليل هي , التداخل الأيديولوجي: تاريخيًا، لعب الإسلاميون دورًا محوريًا في الجيش السوداني منذ انقلاب البشير في 1989. خلال فترة حكمه، تم تمكين الإسلاميين في المؤسسة العسكرية بشكل منهجي، وتم تحويل الجيش إلى أداة لخدمة الأجندة الإسلامية. هذا التداخل الأيديولوجي استمر حتى بعد سقوط البشير، حيث ظلت المليشيات الإسلامية مثل "اللواء البراء" تعمل كذراع عسكري لمجموعات إسلامية متطرفة، مستفيدة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي.
التأثير على العمليات العسكرية: وجود هذه المليشيات ضمن العمليات العسكرية للجيش يؤثر على طبيعة الصراع وعلى استراتيجيات القتال. هذه المليشيات، التي غالبًا ما تكون أقل انضباطًا وأكثر تطرفًا، قد تتبع تكتيكات أكثر عنفًا وبدون مراعاة للقوانين الدولية أو حقوق الإنسان. هذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني في مناطق النزاع وزيادة معاناة المدنيين.
الشرعية والمصداقية تحالف الجيش السوداني مع مليشيات إسلامية مثل "اللواء البراء" قد يضر بمصداقية الجيش على الساحة الدولية، ويضعف من شرعية الحكومة السودانية في عيون المجتمع الدولي. هذا يمكن أن يؤثر سلبًا على الجهود الدبلوماسية والدعم الدولي للسودان، خاصة في ظل الانتقادات المستمرة للانتهاكات التي ترتكبها مثل هذه المليشيات.
خطر انقسام الجيش هذا التداخل قد يؤدي أيضًا إلى انقسامات داخل الجيش نفسه. فوجود مليشيات ذات أيديولوجيات محددة تعمل جنبًا إلى جنب مع وحدات الجيش يمكن أن يؤدي إلى توترات داخلية، حيث قد يرفض بعض القادة العسكريين غير المتحالفين مع الإسلاميين هذه الشراكة، مما يزيد من خطر الانقسام داخل الجيش.
تداخل المليشيات الإسلامية في أعمال الجيش السوداني وتحالفها معه في الحرب يشكل خطورة كبيرة على الاستقرار الداخلي، ويزيد من تعقيد الصراع في السودان. كما أنه يضر بسمعة الجيش ويزيد من احتمالات انقسامه، مما يجعل الوضع في البلاد أكثر اضطرابًا ويصعب من جهود الوصول إلى حل سلمي ومستدام.
التداخل الحزبي في الجيش السوداني أدى إلى إضعاف المؤسسة العسكرية، وتحويلها من جيش وطني إلى أداة سياسية بيد القوى المختلفة. هذا التداخل كان له تأثير كارثي على استقرار السودان وساهم بشكل مباشر في تفاقم الأزمات السياسية والأمنية التي يعاني منها البلاد حتى اليوم.
تدخل الإسلاميين والقوى المدنية في القوات المسلحة السودانية الأضرار والتداعيات
تسيس الجيش وفقدان الاحترافية
الاستقطاب السياسي تدخل الإسلاميين والقوى المدنية في القوات المسلحة السودانية أدى إلى تسيس الجيش، حيث تم إدخال عناصر ذات ولاءات سياسية داخل المؤسسة العسكرية. هذا الاستقطاب أدى إلى إضعاف الاحترافية داخل الجيش، حيث أصبحت القرارات العسكرية تتأثر بالاعتبارات السياسية بدلًا من المصالح الوطنية.
تقويض الانضباط العسكري: مع تزايد النفوذ السياسي داخل الجيش، تراجعت معايير الانضباط العسكري. كان ذلك واضحًا خلال فترة حكم عمر البشير، حيث أصبحت القوات المسلحة بمثابة ذراع سياسي للحركة الإسلامية الحاكمة، مما أدى إلى فقدان الثقة داخل المؤسسة وبين الشعب.
. تفتيت الوحدة داخل الجيش
الصراعات الداخلية: تدخل القوى السياسية أدى إلى تفتيت الوحدة داخل القوات المسلحة. فكل طرف كان يسعى لتجنيد ودعم ضباط وجنود موالين له، مما خلق انقسامات داخلية عميقة. هذه الانقسامات جعلت من الصعب على الجيش التحرك كوحدة متماسكة في الأوقات الحرجة، خاصة خلال الأزمات الوطنية مثل الحروب أو الانقلابات.
ضعف الجيش أمام التحديات الأمنية: بسبب هذه الانقسامات، أصبح الجيش السوداني أضعف في مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، سواء كانت تلك التحديات داخلية مثل النزاعات المسلحة في دارفور وجنوب كردفان، أو خارجية مثل التهديدات من دول الجوار.
دور الإسلاميين في تعزيز نفوذ الميليشيات
تشجيع إنشاء ميليشيات مسلحة: خلال حكم البشير، ساهم الإسلاميون في إنشاء ودعم ميليشيات شبه عسكرية مثل قوات الدعم السريع (التي تطورت من ميليشيات الجنجويد). هذه القوات أصبحت تعمل بشكل شبه مستقل عن الجيش النظامي، مما زاد من تعقيد الأوضاع الأمنية والسياسية في السودان.
تهديد السيادة الوطنية: تعزيز نفوذ هذه الميليشيات أدى إلى تقويض سيادة الدولة، حيث أصبحت قرارات مهمة تتخذ من قبل قادة الميليشيات وليس من قبل القيادة العسكرية العليا، مما جعل السودان عرضة للابتزاز والضغوط من قوى خارجية وداخلية.
الأضرار الاقتصادية
تضخم الإنفاق العسكري بسبب التسيس وتدخل القوى المدنية والإسلامية، ارتفع الإنفاق العسكري بشكل غير مبرر، حيث كانت الحكومة تستثمر في الولاءات السياسية داخل الجيش والميليشيات على حساب الاحتياجات الأساسية للشعب، مما أدى إلى تدهور الاقتصاد السوداني بشكل كبير.
استنزاف الموارد و كذلك، استنزف الدعم المالي والسياسي للميليشيات موارد الدولة، حيث تم توجيه جزء كبير من الموارد لدعم هذه القوات بدلاً من استخدامها في التنمية الاقتصادية والبنية التحتية.
تداعيات على الانتقال الديمقراطي
إفشال الانتقال السلمي و تدخل الإسلاميين في الجيش جعل من الصعب على السودان تحقيق انتقال سلمي إلى الديمقراطية بعد ثورة ديسمبر 2018. حيث أصبح الجيش مدججًا بالعناصر الموالية للنظام القديم، مما عرقل جهود القوى المدنية في بناء نظام ديمقراطي مستقر.
استمرار النفوذ العسكري: بالرغم من المحاولات لتقليص نفوذ الجيش في السياسة، إلا أن التدخلات السابقة للإسلاميين والقوى المدنية جعلت من الصعب تحقيق ذلك، حيث استمر النفوذ العسكري والسياسي في تشكيل المشهد السياسي السوداني بعد الثورة.
أن تدخل الإسلاميين والقوى المدنية في القوات المسلحة السودانية أدى إلى تدهور الجيش كمؤسسة وطنية مستقلة، وزيادة الانقسامات الداخلية، وتعزيز نفوذ الميليشيات المسلحة. هذه التدخلات كانت لها آثار كارثية على الاستقرار السياسي والأمني في السودان، وأعاقت جهود الانتقال الديمقراطي، مما جعل السودان عرضة لأزمات مستمرة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
zuhair.osman@aol.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القوى السیاسیة الجیش السودانی الإسلامیین فی مما أدى إلى فی السودان داخل الجیش بما فی ذلک حیث أصبحت انقلاب ا فی الجیش ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (1/2)
ali.hag.mohamed@gmail.com
السودان بموقعه المميز فى قلب القارة الإفريقية يشكل معبرا مهما لكل ما هو قادم من الشمال الإفريقى و الشرق الآسيوي، إلى جنوب و غرب و شرق القارة السمراء. و يحتل مساحة تقدر ب 1886000 كيلو مترا مربعا تجعله فى المرتبة الخامسة و الثلاثين عالميآ و الرابعة عربيآ.
على أرضه نشأت أعرق الحضارات العالمية على الإطلاق، و هى الحضارة النوبية و عاصمتها كرمة و التى تؤرخ على أنها أول عاصمة ولأول دولة فى العالم و نظامها الملكى هو الأقدم في التاريخ البشرى.
شيدت هذه الحضارة المعابد و الأهرامات و عرفت الصناعة والتجارة و إستخدمت الحديد و معادن أخرى كأدوات متعددة الأغراض و الإستخدام و كتبت بلغتها قبل اللغة الفرعونية المصرية بعدة قرون .
و إمتد حكم الفراعنة السودانيين إلى مصر و حكموها مئات السنين و تواصل حكمهم و بلغ حتى فلسطين فى العام 3050 قبل الميلاد.
فى عام 1924 عثر فى مدينة سنجة الواقعة على النيل الأزرق على أقدم الهياكل البشرية فى العالم و هو يعرف ب ( إنسان سنجة ) الموجود في المتحف البريطاني، و دلت الدراسات إلى أنه يعود إلى العصر الحجري، أى إلى قبل أكثر من 160000 سنة مما يؤكد بالدليل القاطع أن الإنسان الأول عاش على هذه الأرض و كما تشير خارطة النمو البشرى الموجودة في المتحف الطبيعى فى مدينة ملبورن الأسترالية.
فى عام 1504 تأسست دولة السلطنة الزرقاء و التى عرفت كذلك بالدولة السنارية منسوبة إلى عاصمتها مدينة سنار، نتيجة تحالف بين قبائل الفونج الزنجية على النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس و قبائل العرب في وسط و شمال السودان بقيادة عبد الله جماع، كأول دولة إسلامية و عربية تجسد الواقع الجغرافى و العرقي ، جذورها أفريقية و جوهرها و ملامحها عربية.
و شكلت النواة الأولى للسودان بحدوده الحالية.
وظلت هذه السلطنة متماسكة و قوية حتى عام 1821، و بذلك تعتبر فترة حكمها هى الأطول لدولة عربية إسلامية بعد سقوط الأندلس.
فى عام 1881 قاد الإمام محمد أحمد المهدى - القادم من الشمال النوبى - ثورة شعبية مسلحة ضد الحلم التركى المصرى و المدعوم من بريطانيا و أستطاع أن يجمع حوله رجالا من معظم أقاليم و قبائل السودان فى تحالف و تآذر بديع إختفت خلاله كل الفوارق الإثنية و الجهوية و توحدت الإرادة و الرؤية والرسالة.
و كانت الثورة تهدف فى المقام الأول رفع مظالم ما يعرف الآن ( بسلطة التركية السابقة ) و إسقاطها و من ثم إقامة دولة إسلامية على هدى الخلافة الراشدة تتعدى حدود السودان شمالا إلى مصر و شرقا إلى الحبشة و غربا إلى ليبيا و دول الغرب الإفريقي، تحمل و تبشر بعالمية الدعوة الإسلامية.
بعد معارك عنيفة و خاطفة في مواقع الوجود الإستعماري وصلت الى الخرطوم و التى سقطت بمقتل القائد الإنجليزي الشهير غردون فى عام 1885. و أعلن عن الدولة المهدية و التى أتخذت مدينة أم درمان عاصمة لها. و بعد أشهر وافت المنية الإمام المهدي و خلفه عبد الله التعايشي و كان رجلا ضيق الأفق و تكالبت عليه عدة عوامل لم يحسن التعامل معها و أدت فى النهاية إلى تفكك الدولة الوليدة و إنتهت بالغزو الانجليزي و هزيمتها في معركة كررى في عام 1889.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت حقبة جديدة من عصر الإستعمار البريطاني في السودان و الذى مارس سياسته المعروفة ( فرق تسد ) و فى ضرب عناصر القوة المادية و المعنوية للشعب و إعلاء عناصر الهدم و الخنوع. فقام بحملة ممنهجة فى شيطنة العرب و المسلمين لدى القبائل الزنجية و محاربة التعليم الديني فى الخلاوي و تقديم قدر مبسط من التعليم الابتدائي و الأوسط لأبناء المركز فى تجاهل متعمد في تعليم أبناء الأطراف و سعى إلى خلق مراكز قوى فى الأقاليم من زعماء القبائل مقدما العصا و الجزرة.
فصل الجنوب إداريا و جعل منه منطقة مقفولة لا يمكن العبور إليها إلى بإذن خاص. و أستغل واقع العرق الزنجى في الجنوب فى بث روح الكراهية و الحقد تجاه الشمال العربى بروايات و قصص مختلقة و مكن الإرساليات المسيحية و أطلق يدها في التنصير و التبشير و ضيق الخناق على العرب والمسلمين.
هذا الواقع الجديد قاد إلى بروز طبقة نيرة من و السياسيين و الأدباء والكتاب و الشعراء و المبدعين ذوى ثقافة عربية و إنتماء بالكامل للأمة العربية فى الجوهر و المظهر، كردة فعل طبيعية لمحاولة الإستعمار في طمس الهوية الإسلامية و العربية و عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي.
و تشكلت مدارس فكرية مرتبطة إرتباطا وثيقا بمدارس فكرية فى مصر و فى المشرق والمغرب العربيين.
و كانت هذه المدارس نواة لحركة ثقافية وفكرية عارمة ذات أهداف و تطلعات وطنية، إنتظمت معظم مدن السودان الكبرى ، و من رحمها ولد معظم السياسيين و الشعراء والأدباء الذين قادوا حركة الخريجين في نهاية ثلاثينات القرن الماضي و التى إنتهت إلى تكوين الأحزاب السياسية و التى قادت إلى إستقلال السودان فى مطلع عام 1956.
فى السودان المعاصر تعيش فسيفساء من السحنات من القبائل العربية و الزنجية و الغالبية هى هجين بين هذه و تلك. و عددها يصل إلى ما يقارب 570 قبيلة، مقسمة إلى 57 فئة إثنية و يتحدثون حوالى 114 لهجة محلية و يشتركون جميعا فى التحدث باللغة العربية الدارجة السودانية.
هذا التنوع العرقي و الثقافى كان له الأثر الإيجابي في مرحلة ما بعد الإستقلال وقدم دفعة مهمة أثرت في مواطن الإبداع شعرآ و نثرآ و تشكيلآ في تلاقح ، جامع و مزهر للنسيج الاجتماعي في البلاد.
و لم تكن الهوية الوطنية السودانية همآ أو شاغلآ لقادة السودان بعد الإستقلال. و كان الإنتماء العربي و الإسلامي أمرآ لا جدال حوله و يعتبر من البديهيات المسلمات بهما . و قد تكون هناك بعض الأصوات الخافتة و التى تهمس على على إستحياء في الخفاء.
و أول ظهور للعلن يخاطب مسألة الهوية السودانية كان في عام 1962 فى مدرسة الغابة و الصحراء . و هى حركة شعرية ثقافية تمازج بين العنصر العربى و يرمز له بالصحراء و العنصر الإفريقى و يرمز له بالغابة . و من أبرز مؤسسيها النور عثمان أبكر، محمد عبد الحى ، محمد المكى إبراهيم، يوسف عيدابى، إسحاق إبراهيم، عبد الله شابو، على المك، مصطفى سند و صلاح أحمد إبراهيم.
و هذه المدرسة كانت صيحة في واد ، ذهبت أدراج الرياح و لم تترك اثرآ ظاهرآ و خلفت إرتدادات أشبه بما يحدث بعد زلزال عنيف.
و لقد تعرضت لإنتقادات جمة لغلو الطابع اليسارى عليها و ولعدم توافقها على تعريف محدد للهوية.
بعضهم كان يميل إلى إعلاء الأثر و التأثير الإفريقى كالنور عثمان أبكر و بعضهم يغلب الأثر العربى كصلاح أحمد إبراهيم و آخرون يميلون إلى الهجين كمحمد المكى إبراهيم كما جاء في قصيدته الشهيرة ( بعض الرحيق أنا و البرتقالة أنت ) لله يا خلاسية. و التى يقول فى بعض أبياتها ( يا بعض زنجية يا بعض عربية و بعض أقوالى أمام الله ) .
و كتب هؤلاء الشعراء و الأدباء شعرآ ونثرآ راقيا بلغة عربية مبينة و رصينة و زينوها بمفردات و مقولات و تعابير من الموروث الشعبي و اللغوي المحلي في تناسق جميل و غير مخل للفصحى أو للعامية الدارجة. و هذا التداخل المحبب بين اللهجة و اللغة ليس فيه خروج عن المألوف فى الأدب العربي و لا يدل على هوية غير عربية. فالقاص المصرى يحى حقى جسد هذا النهج القويم و عبر عنه في روايته ( قنديل أم هاشم) . و كذلك نحى نحوه الأديب العالمى نجيب محفوظ فى تناوله لشخوص و مسارح رواياته.
و أديبنا السودانى الطيب صالح جعل من رواياته صورة ناطقة عن الريف السودانى بتوصيف دقيق بريشة فنان آخذ فيه العامية في عزف متناسق مع الفصحى. و شاعر إفريقيا محمد الفيتوري و الذى طالما تغنى بها ولها فى معظم قصائده، ظل قوميآ عربيآ و لم يتنكر لعروبته في يوم من الأيام.
أثار مقالي المنشور فى المدار قبل فترة بعنوان ( الوحدة العربية بين الواقع و الأمل ) ردودآ متباينة بين السودانيين. و كانت فى غالبها سلبية تجاه الوحدة العربية و تميل إلى التقوقع في الإطار القطرى، بعضها يدعو إلى قطيعة كاملة مع العرب و يدعو الله أن يكفينا شرهم وتآمرهم .
كتب أحدهم ( نحن مع العرب و تجمعنا المشاعر و الأهداف و لكنى لا أؤمن بالوحدة العربية )
و كتب آخر ( نحن أفارقة أصلآ و لا يهمنا توحد العرب أو تفرقهم ) .
وكتب لى صديق ثالث أعرفه جيدآ و هو مناضل و ناشط سياسي معروف قائلآ ( لقد تصالحت مع نفسى و تخلصت من وهم عروبتى و أنا الآن أكثر تناسقآ من الناحية النفسية من حيث اللون و الشكل و الجينات . فقد وجدت قناعتي بأني سوداني و أفريقي، ناطق بالعربية و ثقافتي أفريقية ممزوجة بشئ من الثقافة العربية و الإسلامية بحكم الجوار ) .
و كتب رابع ( العرب لا يعترفون بنا بحسباننا أفارقة و الأفارقة لا يعترفون بنا بحسباننا عرب و أصبحنا هكذا كالنعامة، لا طائر و لا جمل ) .
بقية الردود على هذا المنوال و الذى يشكل ردة على الإنتماء العربي و الإلتزام القومي لدى السودانيين و الذى كان يهتف على الدوام ( جيش عربي واحد شعب عربي واحد ) .
و يعبر عن إنقلاب فى المفاهيم و المبادئ و القيم التى تخلقت و تشكلت مع نشأة الدولة السودانية الحديثة التي أسسها و رعاها وحافظ عليها جيل الإستقلال .
إن هذا التطور السلبي في مفهوم الوحدة العربية و الإنتماء القومي ، جعل قضية الهوية السودانية حاضرة بقوة و تطرق الأبواب بعنف فى عالم متحرك نحو المجهول و فى إقليم تمزقه الحروب و المنازعات و التناحر و أصبح مسرحا تصفى فيه الخلافات الدولية .
و نحن نعيش الآن ثورة نأمل ان تصل إلى مبتغاها في نظام ديمقراطي تسوده الحرية و السلام و العدالة.
و هذا التطور لم يحدث بغتة و إنما نتيجة تراكمات و مسببات و مبررات، نمت و ترعرعت في العقود الثلاثة الأخيرة. و التى كانت لها أرضية نتنة خفية منذ الفترة الإستعمارية، إستغلها النظام الظلامي للإخوان المسلمين، فأزكى نار الفتنة و الفرقة بين القبائل العربية و الزنجية و أعلى روح القبلية و الجهوية . و أشعلها حربآ دينية قادت إلى إنفصال الجنوب و حربآ عرقية تآكل الأطراف في جنوب كردفان و النيل الأزرق و دارفور.
هل هذا التحول فى مفهوم الوطنية والقومية و الإنتماء الجغرافي شأن سوداني خالص أم له إمتداد و تواصل مع محيطه العربي و الإفريقي ؟
و هل أسبابه و دواعيه و منطلقاته و أهدافه موضوعية و عميقة و مجذرة، أم هى سطحية و طافية على سطح من الأوهام و الخيال و مسنود على الواقع العربي المزري ، و يمكن التغلب عليها و إزالتها و العبور بمستقبل السودان إلى موقعه الطبيعي و المؤثر إيجابيآ في العالم العربي كما حدث عام 1967 في فى مؤتمر اللاءات الثلاث فى الخرطوم.
هذا ما سأجيب عليه فى الجزء الثاني من هذا المقال.
د. علي إبراهيم