دارفور والأمة السودانية: هاشم المسبعاوي في حما الشايقية (2-2)
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
تواتر بعد حديث الفريق ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة، إلى الصحفيين حديث عن نذر لتقسيم السودان تكون به دارفور للدعم السريع والخرطوم القوات المسلحة مع تنويعات في القسمة هنا وهناك.
وجاءت أكثر المخاوف من تقسيم السودان من مصادر ثلاثة:
أولاً: من النموذج الليبي المنقسم بين بنغازي وطرابلس.
ثانياً: وبالنظر إلى دارفور والسودان، ذاع خلال الحرب الأهلية بين جمهرة في إقليم دارفور أنه ظل معتزلاً السودان في سلطنته التاريخية حتى أخضعه النظام التركي – المصري (1821-1885) في 1874 قبل عقد من سقوطه هو نفسه على يد الثورة المهدية. كما اعتزلت دارفور السودان بعد استعماره بواسطة الإنجليز حتى ضموه إليه بعد نحو عقدين من احتلالهم له في 1898. ونواصل
وهذه "حجة بلا سيقان" في تكوّن الأمم. فلم يكُن إقليم دارفور في تاريخه الوسيط بمنأى عن الجغرافيا السياسة لما سيكون عليه السودان لو لم "تتطفل" عليه قوى أجنبية استعجلت تكوينه لمآربها الخاصة. ولهذا يقال عن عيب الاستعمار في المدى الطويل إنه قطع التطور التاريخي الطبيعي للممالك والجماعات التي احتلها. فلربما كانت أسفرت تلك الكيانات عن أمم مطابقة لما اتفق للاستعمار، أو اختلفت قليلاً أو كثيراً. وتغطي عن ذلك الإمكان في تكوّن السودان أمة بغير حاجة لتدخل أجنبي مقولة إن الاستعمار اصطنع مثل حدودنا بإملاء من مصلحته ومنافسته مع مستعمرين آخرين. وكأن البلاد التي أنشأها الاستعمار مثل السودان حالة مصطنعة مغشوشة. وقد يصدّق هذا في حالات بعينها من صناعة الاستعمار للحدود كما حصل في فصل غامبيا عن السنغال بصورة كاريكاتيرية تعسفية لمجرد فضّ نزاع وقع يومها بين بريطانيا وفرنسا.
وقال عالم سياسي نيجيري إن نيجيريا بحدودها الحالية كانت مخيال أمة تحت التكوين جاء الاستعمار أو لم يأتِ. فكانت نيجيريا ما قبل الاستعمار بصدد أن تكون نيجيريا قصُر الزمن أو طال. وكانت دارفور بسلطنتها المستقلة في العصر الوسيط لبنة في خيال أمة سودانية تحت التكوين لو لم يقطع الغزو التركي - المصري ذلك التطور التاريخي لتلك الأمة.
فتقاطع تاريخ سلطنة دارفور في القرنين الـ 17 والـ 18 مع التاريخ السياسي والاقتصادي للوسط النيلي كما تمثل في سلطنة الفونج (1540-1821) وعاصمتها سنار على النيل الأزرق. وكان إقليم كردفان، ومركزه مدينة الأبيض، هو عظمة النزاع بين السلطنتين، فاتخذه فرع من الأسرة الحاكمة في دارفور، عرف بـ "المسبعات"، مهجراً ودولة. وكان ذلك الفرع خسر مطلبه بعرش السلطنة، وبقي في كردفان يتربص للعودة إلى الحكم في الفاشر. واتصلت علاقتهم مع سلطنة الفونج مما أقلق سلطنة الفور، بل تحالف ذلك الفرع الغبين مع جماعات من دارفور وكردفان والنيل الأوسط لغرض استعادة عرشه في الفاشر. وظلت المعارك للسيطرة على كردفان بين الجماعات الثلاث سجالاً، وظهر من "المسبعات" أمير مغامر هو هاشم المسبعاوي الذي جيّش حملة من جماعات بدوية من كردفان ودارفور، بل من أهل النيل مثل الشايقية والدناقلة وهجم على شرق دارفور، فلقيه سلطان الفور وهزمه ورده لاجئاً إلى حلفائه شعب الشايقية على النيل ليتقوى ويعود لمطلبه في حكم دارفور، وبلغ جيش الفور في حروبه في كردفان النيل مرة إلا أنه رجع. ودانت كردفان لسلطنة الفور ثلاثة عقود حتى خلعهم منها جيش محمد علي باشا بقيادة الدفتردار.
ثالثاً: لمجيء دارفور إلى السودان متأخراً في عهدي الحكم التركي والإنجليزي، إذ كان هو الحجة القاطعة على أنه غُصب على الالتحاق بالسودان، وهو تفسير متعلّق بحسابات تلك القوى الغازية لا عن أنها ذاتية للإقليم منفصلة ومعتزلة عنه. فكان الباشا الخديوي في مصر أمر الدفتردار أن يحتل دارفور بعد إقصاء الأسرة الدارفورية الحاكمة عن كردفان، ولم يتمكّن من ذلك. فاستدعته ثورة على النيل على الجيش الغازي قتلت إسماعيل بن محمد علي باشا، فانصرف عن غزو دارفور وتوجه إلى النيل للقضاء على الثورة بصورة فظة عرفت في كتب التاريخ بـ"حملة الدفتردار الانتقامية". وانتظر ضم دارفور إلى السودان حتى 1874 حول صراع دار إزاء الطريق التجاري الذي يعبره إلى مصر.
أما الإنجليز، فتركوا على دارفور سلطاناً منها هو علي دينار في حالة تباعة vassalage، ودفع الجزية إقراراً منه بسيادة الإنجليز عليه. وخلصوا إلى تلك الصيغة لأنهم استبعدوا دارفور واستكثروا النفقات التي تلزمهم بغزوه، بخاصة إذا كان هناك من سيديره لهم بكلفة زهيدة، ولما خرج علي دينار عليهم موالياً تركياً في 1916 قضوا عليه وأدرجوا دارفور ضمن السودان الإنجليزي - المصري.
كانت سلطنات وجماعات السودان الحالي قبيل الاحتلال التركي - المصري تختمر حرباً وسلماً كأمة تحت التكوين. ولا يصح أن ينهض تأخر انضمام دارفور إلى السودان جراء توقيت اتفق للدول التي احتلت الأجزاء الأخرى حجة لفصل دارفور عنه على بينة منه، بل ربما صحّ القول إن دارفور ربما اندرجت في السودان بأسرع ما فعلت تحت الاستعمار الأجنبي، وربما حدث له ذلك في شروط وطنية أفضل من تلك التي اكتنفت ضمها المتأخر العنيف إلى السودان.
وأن تأتي دارفور أخيراً إلى السودان مهما يكُن أفضل من ألا يأتي.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إلى السودان
إقرأ أيضاً:
العلاقات الروسية وخارطة الطريق السودانية
الفيتو الروسي اليوم (18 نوفمبر 2024م) أبطل مشروع قرار الدول الغربية الذي قدمته بريطانيا لمجلس الأمن، والرامي لشرعنة التدخل الإنساني في السودان، وحظر الجيش وكافة عملياته، بالتوقف القسري لجميع العمليات ضد الميليشيا وشرعنة النهب والاغتصاب وقتل المدنيين، مما يعني عمليا تقسيم السودان بين مناطق سيطرة الميليشيا وتلك التي يتواجد فيها الجيش. وهذا يعني انفصال دارفور فعلياً، وخلق كانتونات في الجزيرة وولاية الخرطوم وغيرها، وإصدار شهادة ملكية للميليشيا وشرعنتها بالقانون الدولي والفصل السابع.
نفس القرار طبق من قبل على عراق صدام حسين في التسعينيات، فأدى لإنفصال إقليم كردستان من الناحية العملية، ومثيله القرار ضد ليبيا القذافي عام 2011م فأفضى إلى تشكيل حكومتين في بنغازي وطرابلس لا تزالان تختصمان حتى اليوم.
الذي يحمد للإتحاد الروسي مصداقيته في الوقوف مع سيادة السودان بالعمل وليس بمجرد العبارات المنمقة، كما فعل مع سوريا من قبل. فأوقف مسلسل العبث الطاغي والمتطاول على سيادة السودان، وتسييره مغلولا ومعصوب العينين من قبل دول الاستعمار الجديد المعروفة، لإمضاء مخططاتها المتماهية مع أعدائه المعلنين.
هذا موقف مشرف من الإتحاد الروسي يستحق التقدير ورد التحية بأحسن منها، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
بيد أنه تبين الآن أن تطاول عمليات حسم هذا التمرد المدعوم بأجندة الخارج تعيق التقدم دبلوماسيا، وتكبل السياسة الخارجية. وظل هذا شأن السودان مع هذه الدول منذ الاستقلال، وعلى كافة الحكومات، الإنقلابية والعسكرية، بالتآمر المستمر، وتبادل الأدوار في كل مرحلة حسب مقتضياتها. وينشط التآمر الخارجي بنصب الحبائل في أجواء المعاناة المكفهرة التي تصنعها بيادقه من جيوش العملاء المتماهين مع المرتزقة حملة السلاح، ومن خانوا قسم الولاء للوطن فخانوه، ورفعوا السلاح المعد للعدى في صدور زملائهم رفقاء العقيدة الوطن.
ولذا فيتعين على الحكومة القائمة التعامل مع الوضع الراهن بالجدية والحسم المطلوبين. فأول مطلوب عملي هو تسريع عمليات تطهير البلاد من جيوب التمرد الآفل في كل مسارح العمليات، وبدءا بولاية الجزيرة، قلب السودان النازف، وتسريع عمليات تطهير بقايا التمرد في أطراف الخرطوم لإعلانها ولاية خالية من التمرد، والشروع في إنفاذ برامج إعادة البناء والإعمار.
ففي كل يوم تتأخر فيه القوات المسلحة المدعومة، أكثر من أي وقت مضى، بالمستنفرين والمقاومين، وكل شعب السودان، عن الحزم الموعود، فإن ذلك المدى الزمني يفتح فصولا جديدة من التآمر والتربص ونصب الحبائل. فقد أعلم بمثيل هذا التربص المولى تعالى رسوله، وهو في ساحة الجهاد مع المسلمين السابقين الأولين بقوله:-
“ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا” ثم أوصاهم بعدم التهاون والتردد في الحسم مهما كانت التضحيات:
“ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” موصياً ومحرضاً لهم بالثبات على المبدأ وتحديد الوجهة والتوكل الحازم.
أما على مستوى العلاقات الخارجية الثنائية، فقد تبين الآن للجميع، وبوضوح ساطع، من يقف مع السودان، ومن يدبر له المكائد.
وبالتالي فيتعين أن تعتمد مقاصد وتوجهات السياسة الخارجية هذه البوصلة التي لا تكذب.
فيتعين إبرام اتفاقيات دفاع مشترك واتفاقيات اقتصادية وتجارية، واتفاقيات التبادل النقدي مع دول صديقة وموثوقة كالإتحاد الروسي والصين وكافة الدول الصديقة، التي أكدت بالقول والفعل احترمها لسيادة السودان ووحدة ترابه واستقلال قرار شعبه السياسي، بدلا من الخضوع المتقاعس لأجندة الخارج التركيعية، وتوعداته التثبيطية، التي لن تقود إلا لمزيد من التشظي والفرقة، وبذر الشقاق والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد، والسعي لتموضع العملاء والوسطاء لإذكاء المزيد من الفتن واستطالة أمد الحرب.
بالأمس اجتمع المستشار الألماني أولاف شولتز مع الرئيس بوتين، وقد خلص المراقبون إلى أن الهدف من اللقاء المفاجئ، الذي أذهل العديد منهم، يصب في خدمة السياسة المعلنة للرئيس المنتخب دونالد ترمب، الذي قرر إنهاء الحرب في أوكرانيا، كما أن ألمانيا نفسها ظلت تعاني من التدهور الاقتصادي بسبب قطع إمدادات الغاز والنفط الروسي عنها منذ عام 2022م ، فأدى ذلك لإغلاق عدد من مصانع السيارات مثل شركة فلكسواجن، وتجميد استثمارات أجنبية لصناعة الموصلات الإلكترونية تقدر ب 30 مليار دولار، وتزايد نسب العطالة والتذمر واستقالة وزير المالية والاقتصاد وتصدع الائتلاف الحاكم، فضلا عن أن نسبة النمو الاقتصادي خلال العام الجاري تناقصت إلى 0.2% وعلما بأن الاقتصاد الألماني يؤثر على كل دول الإتحاد الأوربي وضَعفه يعاني معاناتها. وبالتالي فلم يعد لأوروبا من مناص سوى التوصل لحل لمشكلة أوكرانيا نزولا على مبدأ الرئيس ترمب.
وبالتالي فإن الرهان الأوربي للوقوف مع أوكرانيا ضد روسيا وهزيمتها بدون أمريكا أصبحت معالمه واضحة للجميع.
بالأمس أعلنت حكومة الانقلاب في القابون التي يترأسها الجنرال بريس انقويما نتيجة الاستفتاء العام على الدستور الجديد، والذي حصل على تأييد أكثر من 91% من المواطنين، وجاء ذلك بموافقة ورعاية فرنسا ماكرون للانقلاب العسكري الذي جرى في أغسطس 2023م ضد حكومة الرئيس المنتخب علي بونقو في ديسمبر 2022م. وفي السودان نحتاج لتجربة أفضل لأن مرور خمس سنوات دون حكومة منتخبة يضحي أمرا مقلقاً.
عموما على الرئيس البرهان العمل والتصرف كرئيس حكومة أمر واقع، ودولة ذات سيادة، فعليه الشروع في تشكيل حكومة المهام الانتقالية من الخبراء والتكنوقراط، وإعلان برنامج إعادة الإعمار، وإصدار خارطة طريق للانتخابات لاستعادة المشروعية المسنودة بسيادة الشعب وسلطة حكم القانون. فالعالم لا يحترم من يتقاعس وينتزع موقعه المستحق بين الدول، ولا يحتفي بالمترددين المرتكسين المنتظرين لإشارات الآخرين. فالمياه الراكدة يفسدها طول الركود فتفسد ما حولها. والله يخاطب الرسول القائد تعليما للمسلمين في مثل هذه المواقع: ” فإذا عزمت فتوكل على الله”..
دكتور حسن عيسى الطالب
المحقق