روائح الدماء من بيوتنا تفوح: الجيران الجدد
تاريخ النشر: 2nd, September 2024 GMT
د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
1
كان والدي الشيخ الذاكر ، غشت قبره سحائب الرحمة يقول لي أثناء مرضي ...يا ولدي إن في المرض فسحة لكى يتأمل المريض في نعمة الصحة وفضل المنعم بها. وقد وجدت هذا الأمر واقعا بعد قضائي فترة في مستشفى المدينة هنا حيث كانت الممرضات يتنباوبن حولي كفراشات حنونة يبحثن عن عرق بائن لادخال ابرة نقل الدم عبر تلك الأداة التي يسميها السودانيون فراشة.
قال صديق زائر أن الكثير من الأسر التي عادت الى بيوتها ، وجدت فئة جديدة من الجيران . غرباء من ناحية تعاملهم وربما جنسياتهم ، المهم أنهم غرباء. وقد أضاف ذلك الصديق الزائر ، أن الكثير من البيوت تم تغيير ملكياتها بعد السطو على أوراقها بعد أن هجرها سكانها كما حدث لشابة توفيت والدتها الطبيبة المشهورة فتركت منزلها المسجل باسمها لتسقط أوراقه الثبوتية ويسقط هو في قبضة الخوارج. وهناك كما يقول صديقي الذي حضر مثلنا جانبا مروعا من تلك الحرب اللعينة داخل الوطن ، أن العديد من الأوراق الثبوتية صودر من مكاتب عدلية أو مكاتب محاماة ظنا من أؤلئك الجهلة أن ليل الظلم طويل وأن الحكم العدل غافل عما يفعلون..
فكرت في القيم الاجتماعية للجار والجيران في بلادنا عندما كنا في حلقة دردشة ضمت عدة أحباب ممن تخللوا خطوط الطول والعرض في هذا العالم بعد أن ضاق بهم الوطن بما رحب وفاحت من بيوته رائحة الدم . تلك بيوت قال عنها ذات يوم الشاعر محمد المكي ابراهيم:
روائح الطعام من بيوتنا تفوح
وفي بلادنا نعطر الهواء بالمديح
قيم الجوار في وطننا ظلت عبر الدهور قواعد صلبة لشد البناء الاجتماعي وتشييد وغرس ثقافة التماسك والتعاون في كل زمان كما نراها الآن في ظل ما تعيشه بلادنا الآن من جروح يسدها الناس بقيم الجيرة والتكافل. ذاك سلوك لم نر واقعا مثله في المجتمعات الأخرى لأنه سلوك يشرب من بحر الدين الذي أوصانا بشأنه سيد الأنبياء والمرسلين "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". في مجتمعنا ، تتفوق قيم الجوار على صراعات الهوية والانتماء وصراع الطبقات فتمضي سلسلة غير عابئة بتضاريس مثل تلك الأسئلة الصعبة. هنا تتخذ الجيرة معنى اجتماعيا وثقافيا رائعا ، لو كون منه ميثاق حب وتعاون لحكم البلاد ، لكان الأروع في حكم البلاد ان لم تكن فكرتي هذه يوتيوبيا عاشق للوطن نبعت من بين رائحة الدواء ووجوه الممرضات في ذلك المستشفى وهن يسرعن لتوديعي كسرب من طيور الكناري!!
بوصيكم عل ضيف الهجوع عشوا
وبوصيكم على الجار ان وقع شيلوا
تصلح هذه الأبيات في تقديري لحملة انتخابية لحزب ينشؤه قادة الوطن المستقبلي الذي ننشده بحيث تظل قيمة الجوار متصاعدة عبر الاحياء والمدن لتبلغ اعلى سنام لها في العلاقة مع دول الجوار. أحد ظرفاء المدينة تحدث عن قيمة الجار في وطننا بحماس مشيرا الى أنه حتى الحمير في قرانا البعيدة تتضامن كحمير جيران في حالات "النوريق" الذي يعني حصد الفول أو القمح تحت حوافر تلك الحمر الجارة. هناك ترى الحمر تدور في حلقات حيث يهيل المزارع تحت أظلافها الطاحنة من حين لآخر ربطة ثم ربطة أما قمحا أو فولا. وتمضي الحمير في طحنها الرهيب ممتثلة لما يسميه علماء الإدارة بوحدة الهدف unity of objective أو ما يسميه عالم الإدارة الادارة بالأهداف Management by objectives
قد يحس الانسان بأن مدينة بأكملها جارة له كما في قصيدة جارة الوادي التي نظمها بعاطفة مشبوبة الشاعر الراحل أحمد شوقي لمدينة زحلة اللبنانية وتلك أغنية نالت حظها من الذيوع خاصة بعد أن أداها محمد عبد الوهاب وأم كلثوم
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأأحلام من ذكراك
. وفي وطننا ، وقف ذات يوم الشاعر الفذ محمد سعيد العباسي متغنيا بمدينة مليط:
حياك مليط صوب العارض الغادي
وجاد واديك بالجنات من وادي
ولم نكد ننتهي من تدبر تلك الجيرة الحضرية عند شوقي والعباسي , وجمالياتها الا وأسعفنا مدرسونا بنموذج أخر للعباسي ومليط و نخلها الذي يشرب من ذيل السحاب بلا كد واجهاد:
كأنه ورمال حوله ارتفعت
أعلام جيش بناها فوق أطواد
، ثم أن واضع المناهج الملهم في بخت الرضا سابقا يعود بنا الى حالة جوار اخرى بين شاعر ربما كان الناصر قريب الله والمدينة هي مدينة كتم التي لم تكتم حسنها عن الشاعر ولكنها أطلت بمحياها رائعة وجميلة.
حين طلت بمحياها كتم....
ودونكم يا أحبتي كسلا التي أغوت شعراء كثر كشاعر الدهليز توفيق صالح جبريل:
يا ابنة القاشِ إن سرى الطيف
وهنا واعتلى هائما فكيف لحاقي
والمنى بين خصرها ويديها
والسنا في ابتسامها البراق
جيرة المدن في وطننا لا حصر لها في قواميسنا الفنية والأدبية ، والتمدد فيها ربما يجرفنا عن فكرة الجيران الجدد التي تصدر عنوانه مقالنا هذا والتى أراها وبالا استيطانيا على قيم الجوار والجيرة والحي والمدينة على النحو الذي أسلفت. إن للجيرة عدة فئات من منظور فني وربما أجتماعي فيما أرى أو على الأقل ما أستطعت تخيله وتلك فئات قادتني اليها كأمثلة لا للحصر شطحات ذهنية فاجأتني في ذلك المشفى وبعده.
فهناك الى جانب جوار المدن الجار العاشق المليء بالأمل ، رأيناه لدى الراحلين الشاعر أبو آمنة حامد و سيد خليفة:
جاري و أنا جارو
لي متين أزور دارو
بتمنالو الجنة و اتعذب في نارو
أقرب زول لي قلبي
ضيعني بسمارو
جاري و أنا جارو
ومن ذلك أيضا في هذه الفئة
مالك ﻣﺠﺎﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﺎﻳﺶ ﺑﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﻏﺮﺑﻪ ؟!
ﺃﻧﺤﻨﺎ ﻧﺎﺱ ﺟﻴﺮﺍﻧﻚ ﻗﻀﻴﻨﺎ ﻋُﺸﺮﻩ ﻭﺻﺤﺒﻪ
ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﺳﻜﻨﺖ ﻗﺼﺎﺩﻧﺎ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﺎ
ﻻ ﺑﺘﺮﻋﻰ ﺣﻖ ﺍﻟﺠﺎﺭ ﻻ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺑﺠﻴﺒﻚ ﻟﻴﻨﺎ
والجوار هنا مصون ونقي . أنه جوار مد القدح بالطاقة أو الشباك الصغير المفتوح بين منزلين متجاورين في القرية أو الحى وتبادل الوجبات او الترافق الى رفع "فاتحة" بعيدة أو الدخول في صندوق توفير ـ أو تناول الجبنة في "الضل". و هناك في نطاق العشق الجار المغاضب اليائس:
فارق لا تلم
أنا أهوى الألم
ما أول حبيب
ولا آخر ظلم
وهنالك الجار العشق الحذر:
أحلى جارة
يا أحلى جارة
سالمينا لو بالعين
أو بالإشارة
تذكرني هذه الميلودية المشبعة بالحب والحذر بتلك القصيدة العربية الأموية"أراك طروبا والها كالمتيم" المنسوبة للخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن سفيان:
أشارت برمش العين خيفة أهلها
إشارة محسود ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قال مرحبا
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
و هذه تؤدى بعود عربي جميل المقاطع من فنان يمني ربما رحل عن عالمنا هو الفنان محمد مرشد ناجي. وربما قفز الى الذاكرة نوعآخر من الجيران هو الجار المتذكر كما في قصيدة البوصيري في العصر المملوكي:
أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ
مزجتَ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ
وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
وهناك في تقديري الجار الصديق للبيئة ومثالي هنا شجرة تبلدية مرت علينا ولله الحمد في منهج النميري الذي جاء في سلمه التعليمي . التبلدية كانت في منزل الشاعر الراحل جعفر محمد عثمان بالدلنج فانتقل منه ليعود منه بعد فترة طويلة ليجدها وقد يبست وتعرت فروعها بالأسى والجفاف:
لا تَحْزَني إنْ تعَرَّتْ
لدى المصيفِ فُروعُكْ
أو إنْ يبسْتِ فبانتْ
مِنْ الذُبولِ ضُلوعُكْ
فدونَ ما رَاع قَلْبي
مِنْ الأسَى ما يروعُكْ
أنا لَنْ يَعودَ ربيعي
لَكِنْ يَعودُ ربيعُكْ.
إلى هنا يتوقف سيل محاولاتي لتصنيف الجيرة ، فأرجع الى من عادوا لبيوتهم ليجدوا جيرة دموية لا تعرف تلك القيم ولا تتقيد بها. وأبصر في الميديا عروس مذهبة في بيت مغتصب محتل وهي "تتفدع" كشجرة زقوم إن كانت شجرة الزقوم لها احساس بمرور النسم حولها "فتتفدع" . ولئن كان شاعرنا ود المكي لا زال حالما ببيوت تفوح منها روائح الطعام ، فإن بلادنا الآن لا تملك من أمرها سوى صدى الذكرى ...أحلى جارة يا أحلى جارة ...وجاري وأنا جارو. صاحب البيت الآن جار مغاضب لا يملك الا وأن يقول للجار الغازي:
فارق لا تلم!!
:
abdelrmohd@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی وطننا
إقرأ أيضاً:
حسين فهمي يوجه رسالة على الهواء للفنانين الجدد.. شاهد
أكد الفنان حسين فهمي، أن الفنان يجب أن يتمتع بقدر كبير من الذكاء لاختيار أدواره، ويتكمن من أدواته، ولا يتأثر بآراء الأشخاص السلبيية، وهذه النصائح يوجهها دائمًا إلى الفنانين الشباب.
حسين فهمي: اتفرجت على فيلم «العار» بعد عرضه بسنين.. فيديو حسين فهمي: الفن مهم لنعلن عن قضايانا ومواقفناوأضاف حسين فهمي، في لقاء خاص مع الإعلامية شيرين سليمان، ببرنامج "سبوت لايت"، المذاع على قناة صدى البلد، أنه لا يسمح لأحد بالتأثير على قراراته، لافتًا أنه بفيلم «العار» رسم تفاصيل الشخصية وعرضها على مؤلف الفيلم الكاتب محمود أبو زيد، والذي تجمعه به صداقة نظرًا لأنه كان زميله بالمدرسة، بالإضافة إلى التشاور مع المخرج على عبد الخالق.
كان محصورًا بأدوار «الشاب الحليوة»وأوضح حسين فهمي أنه في تلك الفترة كان محصورًا بأدوار «الشاب الحليوة»، وكانت شخصيته بفيلم «العار» وفيلم «الأخوة الأعداء»، خروجًا من شخصيته بفيلم «خلي بالك من زوزو»، وفضّل الخروج من إطار الشاب الرومانسي، وكان هدفه منذ دخوله مجال التمثيل، أن يقدم أدوارًا وشخصيات مختلفة واستطاع تحقيق ذلك.
وتابع حسين فهمي، أنه يهوى الرسم، وكان يمسك صورته ويقوم برسم شنب وذقن حتى يستقر على الشكل المناسب للشخصية، ثم بعد ذلك يدرس أبعادها وخلفيتها الاجتماعية، ويبدأ في تكوين الشخصية المكتوبة على ورق الرواية الذي يقوم بتجسيدها.