تعيش إسرائيل قيادة ومجتمعًا في حالة مستمرة من اللايقين العالي، مما يجعل المجتمع في وضع من القلق والذعر والترقّب المستمر، ويجبر القيادة على اتخاذ قرارات وتبني توجهات لا تستند إلى معطيات حقيقية وكاملة، كما ينعكس كل ذلك في إعداد الموازنات العسكرية والأمنية، فكيف ذلك؟
مع استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة وفي مواجهة عدة جبهات أخرى بما فيها الضفة الغربيّة، يستمر العجز في الموازنة العامة الإسرائيلية في الارتفاع، كما تم تعديل الموازنة أكثر من مرّة، وفي هذا السياق يرى الكولونيل الإسرائيلي رام أميناخ (62 عاما) الذي عمل مستشارا ماليا لرئيس الأركان ورئيس قسم الموازنة في وزارة الدفاع وعضوًا في منتدى الأركان العامة وفي إدارة وزارة الدفاع، أنّ إعداد موازنة الدفاع الإسرائيلي يواجه تحديات أساسية متمثلة بـسوء التخطيط واللايقين، وقد نجحت إسرائيل في السابق في إدراك التهديدات الأمنية وتقدير مصدرها وحجمها وطبيعتها وتوقيتها وبالتالي صممت الموازنات العسكرية والخطط القادرة على التصدي للتهديدات في إطار الحفاظ على العقيدة الأمنية وركائزها الرئيسية مثل الحروب السريعة الخاطفة والردع العالي، وهذا ما لم تنجح به إسرائيل في ظل حكم رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، مما جعلها تقع فريسة طوفان الأقصى وأدّى إلى انهيار عقيدتها الأمنية.
حيث شهدت إسرائيل في السنوات الأخيرة وفي ظل حكم نتنياهو توجها للخفض المستمر لموازنات الدفاع، بما انعكس بشكل مباشر على عدد الطائرات والدبابات ومختلف أصناف العتاد العسكري الأخرى، مع تقليص موازنة البحث والتطوير، وانعكس أيضا في تقلّص حجم الجيش مقارنة بحجم التحديّات والتهديدات في إطار التحوّل إلى جيش "صغير بارع وعبقري".
وقد أثبت طوفان الأقصى وتبعاته من اشتعال جبهات متعددة ومستمرة فشل هذا التوجه، وبالتالي تدفع إسرائيل الآن ضريبة خفض الموازنات العسكرية في السنوات الأخيرة، وهو ما يجبرها على تعويض هذا الانخفاض التراكمي على سنوات خلال فترة أشهر قليلة وتحت وطأة الحرب المشتعلة، وهذا سينهك الموازنة العامة للحكومة حيث إنّ الإنفاق العسكري السريع التضخم على شكل صدمة، سيكون على حساب بنود أخرى قد تتعلّق بتطوير البنى التحتية أو الخدمات الاجتماعية والصحية للمواطنين، وسيجبر إسرائيل على جسر العجز في الموازنة الناشئ عن تضخم الإنفاق العسكري من خلال تعديل أنظمة وسياسات الضريبة أو الاقتراض الداخلي والخارجي، وجميعها خيارات تمس بشكل مباشر بمستوى معيشة الإسرائيليين والاستقرار المالي لهم ولدولة الاحتلال.
كيف يتم وضع الموازنات الدفاعية؟
تبدأ الخطوة الأولى في إعداد الموازنات العسكرية، بحسب الكولونيل أميناخ، عبر التقدير الصحيح والدقيق للتهديدات الأمنية الداخلية والخارجية من خلال قراءة وتقييم الموازنات العسكرية للعدو وحجمه وقدراته وخططه، وعلى هذا الأساس يتم تصميم الموازنات والخطط الدفاعية والهجومية والتجهيز والإعداد في القطاعات العسكرية والأمنية والقطاعات المكمّلة.
ولمقاربة هذا الطرح، يفترض الكولونيل وجود تهديد إيراني معيّن، ممثلا بعدد مجهول من الهجمات (س)، وكل هجمة تشمل عددا مجهولا من الصواريخ (ص)، وبالتالي فحجم التهديد هو حاصل ضرب (س) و(ص)، أي عدد الهجمات ضرب عدد الصواريخ في كل هجمة.
ومن واقع خبرة الكولونيل في إعداد الموازنات العسكرية فإنّ كلفة الدفاع الإسرائيلي تعادل 10 أضعاف كلفة الهجوم الإيراني. وفي مواجهة كل صاروخ باليستي تحتاج إسرائيل ما لا يقل عن عدد اثنين من "السهم 3″، وإذا كان عدد الصواريخ الباليستية المتوقع في إحدى الهجمات هو "110"، فالدفاع الإسرائيلي يحتاج ما لا يقل عن عدد 220 من السهم 3، وذلك بكلفة تتعدّى 3 مليارات شيكل (827 مليون دولار). إلّا أنّه من المتوقع أن يرافق الصواريخ الباليستية الإيرانية دفعات من صواريخ كروز والمسيّرات، وهذا يحتاج لتفعيل المزيد من الأنظمة الدفاعية، وفي هذه الحالة ستصل الكلفة لصد هجوم واحد إلى حوالي 4-5 مليارات شيكل (1.1 إلى 1.4 مليار دولار)، أي أنّ الكلفة لصد 10 هجمات من هذا المستوى قد تصل إلى 50 مليار شيكل (14 مليار دولار).
إلّا أنّ هذا التقدير للتهديدات الخارجية محصور بإيران فقط، وعند احتساب هجمات أخرى من غزة ولبنان واليمن والعراق والضفة الغربية، فإنّ كلفة الدفاع ستفوق قدرة إسرائيل على تحمّلها، مما يجبرها على طلب مشاركة المقدرات الدفاعية من الولايات المتحدة ودول أخرى، ولكن هذا يتطلب الوثوق الكامل بالأصدقاء والحلفاء واستعدادهم لبذل كل مقدراتهم للدفاع عن إسرائيل، ولكن حتى في ظل هذا السيناريو -وهو ما حصل في الهجوم الإيراني في أبريل/نيسان الماضي- فقد نجح جزء من الهجوم الجوي في إصابة أهدافه على الجغرافيا الإسرائيلية، أمام ذلك لا بد من اللجوء إلى المقاربة الثانية المتمثّلة برفع ضريبة الهجوم على الأعداء، استنادًا لمبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع أو الردع بالهجوم الاستباقي.
الاعتبارات أعلاه تضع إسرائيل أمام الضرورات التالية: ضرورة تجنيد اليهود الألترا-أرثوذكس وهو توجّه ما يزال يواجه رفضًا كبيرًا واحتجاجات واسعة من طرف الحريديم. ضرورة رفع الموازنة العسكرية إلى حدودها القصوى وتعزيز الاستثمار في الدفاع والهجوم معا. أثر اللايقين على إعداد الموازنة العسكرية الإسرائيلية؟أثبت طوفان الأقصى فشل إسرائيل في الخطوة الأولى الأساسية عند إعداد الموازنة العسكرية، وهي القدرة على تقدير إمكانيات وخطط العدو مما وصف بأنّه فشل استخباراتي، أي أثبت الطوفان أنّ (س) و(ص) بالنسبة لإسرائيل ما تزال (س) و(ص) أي قيمًا متغيّرة مجهولة ولا يقينية.
أمام (س) و(ص) مجهولتين تضطر إسرائيل إلى رفع مستوى التحوّط المالي واللوجستي والعسكري، خاصّة أنّ إسرائيل أمام لا يقين كمّي متمثّل في كلفة الدفاع والهجوم، ولا يقين نوعي متمثل في إدراك مصدر الهجوم وطبيعته وجغرافيّته وتوقيته، وسيؤدي ذلك إلى:
ارتفاع كلفة الدفاع والهجوم الإسرائيليين فوق الكلفة الفعلية المطلوبة، بسبب معامل اللايقين. ارتفاع حصّة بنود التحوّط العسكري من إجمالي الموازنة، والتحوّط هو المبالغ المالية المرصودة لتعزيز قدرات عسكرية غير معرّفة أو محددة مسبقًا. هذا اللايقين في الموازنة والمعكوس في بند التحوّط، سيظهر في الساحة العملياتية على شكل تأخر في الجاهزية أو ارتباك.ومن جهة ثانية، فإنّ اللايقين لا ينحصر في الكم والنوع فقط بل يشمل الزمن أيضا، واستمرار اللايقين على مدى زمني طويل نسبيا يؤدي إلى الرفع المستمر للتحوّط في الموازنة وفي الواقع الميداني، وهذه المعادلة تشكّل أحد أهم عناصر حروب الاستنزاف في العصر الحديث.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فی الموازنة إسرائیل فی التحو ط
إقرأ أيضاً:
فضيحة في إسرائيل.. يديعوت أحرونوت تكشف حيل الحريديم للتهرب من الخدمة العسكرية
كشفت تسجيلات مسربة لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن حرب خفية تدور بين المنظمات الحريدية وجيش الاحتلال، حيث تحولت عملية تجنيد الشباب إلى معركة إرادات لاختبار حدود المؤسسات والمجموعات.
وعرضت قناة «القاهرة الإخبارية»، تقريرا بعنوان « فضيحة التجنيد في إسرائيل.. يديعوت أحرونوت تكشف حيل الحريديم للتهرب من الخدمة العسكرية».
وأشار التقرير إلى أن هناك فصيل تابع للتيار الحريدي الليتواني، حول مركز اتصالاته إلى غرفة عمليات لاستنزاف جيش الاحتلال من خلال نصائح تصل إلى حد التمرد والعصيان: لا ترد على الهاتف، تجنب المطارات، ارم أوامر الاعتقال في سلة المهملات.
وأضاف التقرير أنه في حين يستعد جيش الاحتلال لإصدار 14 ألف أمر تجنيد إضافي، يرفع الحريديم سقف المواجهة، حيث تكشف التسجيلات المسربة عن تفاصيل الصراع.
والد أحد المطلوبين للتجنيد قال للجيش إن ابنه مصاب بالتوحد.
وينصح آخرون بعدم فتح الأبواب للجنود وتجنب أي اتصال بمراكز التجنيد تحت تكتيك يقول إن التجاهل هو الحل.
ونوه التقرير بأن خطط التهرب التكتيكية التي يتبعها الحريديم، ورائها استراتيجية أعمق، وهي خلق توازن حيث تصبح أوامر الاعتقال الصادرة، التي يبلغ عددها نحو 1066 مذكرة، مجرد أوراق لا قيمة لها.
وفي حين يعتمد جيش الاحتلال على 177 مجنداً حريدياً فقط من أصل 100 ألف، تتصاعد أوامر التجنيد الحريدي في رفضها للتهويد العسكري لحياتهم الدينية، مما يثير مسألة مفهوم الولاء في إسرائيل.
ويصدر جيش الاحتلال الأوامر، بينما يقول الواقع إنه غير قادر على فرض أوامره على الحريديم، لذا فإن قضية تجنيدهم تظل استمراراً للانقسام داخل إسرائيل.